مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات محكمة

المراجعات الفقهية عند الإمام مالك نماذج تطبيقية

(النموذج الثاني): حكم مسح المقيم على خفيه.

الذي عليه جمهور الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين إجازة المسح على الخفين في السفر والحضر.

قال ابن عبد البر: “لا أعلم أحدا من فقهاء المسلمين روي عنه إنكار ذلك – أي المسح على الخفين- إلا مالكا، والروايات الصحاح عنه بخلاف ذلك، موطؤه يشهد للمسح على الخفين في الحضر والسفر، وعلى ذلك جميع أصحابه وجماعة أهل السنة، وإن كان من أصحابنا من يستحب الغسل ويفضله على المسح من غير إنكار للمسح، على معنى ما روي عن أبي أيوب الأنصاري أنه قال: أحب إلي الغسل”[48].

واختلفت الرواية عن الإمام مالك في المسح على الخف على ثلاث روايات:

إحداها:- وهي أشدها نكارة – إنكار المسح في السفر والحضر،حكاها ابن وهب عنه[49].

والثانية : كراهية المسح في الحضر وإباحته في السفر.

والثالثة: إباحة المسح في السفر والحضر.

وهذان في المدونة، قال ابن القاسم: “وقال مالك: لا يمسح المقيم على خفيه، قال: وقد كان قبل ذلك يقول: يمسح عليهما، قال: ويمسح المسفر، وليس لذلك وقت”[50]

فتحصل من هذا أن الإمام مالك رجع عن بعض أقواله، وحكي بعضها عنه، والثابت عنه خلافه.

أما حكاية إنكاره للمسح على الخفين في السفر والحضر، فهي رواية ابن وهب عنه، وهذه الرواية تأولها ابن وهب على أن الإمام مالك كرهه، وأن الغسل أولى، ودل ذلك على أنه منعه أولا على وجه الكراهية، ثم رأى الآثار فأباح المسح بإطلاق[51]. ثم روى عنه ابن وهب في موضع  آخر بقوله: “آخر ما فارقته عليه إجازة المسح في الحضر والسفر”[52]. وهو المروي عن تلاميذ الإمام مالك.

وروى ابن وهب، وابن القاسم، وابن عبد الحكم، وغيره، أن للمقيم والمسافر أن يمسح على خفيه[53]. وهو الذي روى عنه متأخروا أصحابه[54]. وقال ابن حبيب:” قال مطرف، وابن الماجشون: لم يختلف فيه أهل السنة، وما علمنا مالكا ولا غيره من علمائنا أنكر ذلك، في الحضر والسفر.”[55] .

وأما رواية المنع في الحضر فاحتج أصحابها بحديث شريح بن هانئ “أنه سأل عائشة أم المؤمنين عن المسح على الخفين فقالت له: سل عليا، فإنه كان يغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم”. قال ابن عبد البر: وليس في الحديث أكثر من جهل عائشة المسح على الخفين، وليس من جهل شيئا كمن علمه، وقد سأل شريح بن هانئ عليا كما أمرته عائشة، فأخبره أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم قال في المسح على الخفين: “ثلاثة أيام للمسافر، ويوم وليلة للمقيم”، وهو حديث ثابت صحيح نقله أئمة حفاظ[56]. كما احتجوا لرواية المسح في السفر دون الحضر بأن المسح رخصة لمشقة السفر، والسفر يختص بأشياء من الرخص لا تجوز في الحضر  كالفطر والقصر، وهذا ليس بشيء، لأن القياس والنظر لا يعرج عليه مع صحة الأثر.[57]

أما رواية جواز المسح للمسافر والمقيم فهي آخر ما رجع إليه الإمام مالك، وهي التي أخبر بها أصحابه، قال ابن وهب: “آخر ما فارقته عليه إجازة المسح في الحضر والسفر”[58]. وقال ابن رشد الجد: “والصحيح من مذهب مالك –رحمه الله-الذي عليه أصحابه إجازة المسح في السفر، فهو مذهبه في موطّاه، وعليه مات، روي عن ابن نافع قال: دخلنا على مالك في مرضه الذي مات فيه، فقلنا له: يا أباعبدالله قد أقمت برهة من عمرك ترى المسح على الخفين وتفتي به، ثم رجعت عنه، فما الذي ترى في ذلك الآن ونثبت عليه؟ فقال: يا ابن نافع المسح على الخفين في الحضر والسفر صحيح يقين ثابت لاشك فيه، إلا أني كنت آخذ في خاصة نفسي بالطهور، فلا أرى من مسح قصر فيما يجب عليه، وأرى المسح قويا والصلاة تامة”[59]. وقال أصبغ بن الفرج: “شهدت ابن وهب في داره بالفسطاط توضأ ومسح على خفيه وقال لي: اشهد علي.قال أصبغ:المسح لا شك فيه، هو أثبت من كل شيء عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: وأنا أمسح في الحضر وأفتي به”[60]، قال ابن رشد: “قول ابن وهب وأصبغ في إجازة المسح في الحضر، كما يجوز في السفر، هو الذي رجع إليه مالك –رحمه الله-ومات عليه، بعد أن كان اختلف قوله فيه”[61].

وخلاصة القول في هذه المسألة أن رواية: لا أمسح لا في الحضر ولا في السفر، حكاية للإمام مالك عن نفسه، ما يؤثر فعله، وكأنه كرهه، وقد يكون الفعل جائزا عند الفقيه، ويؤثر تركه، وكيف يظن به إنكار المسح أصلا، وقد قال الحسن البصري: روى المسح عن النبي سبعون صحابيا، وقد تأول أحمد بن حنبل قول مالك هنا على أنه آثر الغسل.[62]

الصفحة السابقة 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11الصفحة التالية

الدكتور عبد الله معصر

• رئيس مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوك بالرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. بوركتم، ولو كان هناك محاولة ترجيح في الموضوع لكان أفضل، أقصد من باب الخلاف العالي والله الموفق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق