مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات محكمة

المراجعات الفقهية عند الإمام مالك نماذج تطبيقية

نماذج تطبيقية لرجوع الإمام مالك عن أقواله من خلال كتاب الطهارة:

(النموذج الأول): رجوع الإمام مالك عن القول إن المنكس يعيد الوضوء والصلاة.

 قال ابن عبد البر في الاستذكار: إن علي بن زياد حكى عن مالك أنه قال: من نكس وضوءه يعيد الوضوء والصلاة، ثم رجع فقال: لا إعادة عليه في الصلاة[39]. وهذا الذي ذكره ابن عبد البر هو الذي نقله صاحب النوادر قال: “ومن المجموعة، قال علي عن مالك: إن غسل ذراعيه، ثم وجهه، فإن ذكر مكانه أعاد ذراعيه، وإن لم يذكر حتى جف استأنف الوضوء، وإن لم يذكر حتى صلى أعاد الوضوء والصلاة. ثم قال: لا يعيد الصلاة وإن كان في الوقت، ويعيد الوضوء لما يستقبل[40]. والمشهور في المذهب أن الترتيب سنة، وهو المعلوم من مذهب ابن القاسم وروايته عن الإمام مالك[41]. قال ابن القاسم: “وسألت عمن نكس وضوءه فغسل رجليه قبل يديه ثم وجهه ثم صلى، قال: صلاته مجزئة عنه، قال: قلت له: أيعيد الوضوء؟ قال: ذلك أحب إلي، قال: ولا ندري ما وجوبه.[42] وما حكاه علي ابن زياد من إعادة الوضوء والصلاة في حق من نكس وضوءه، هو ما ذهب إليه أبو مصعب الزهري من أصحاب مالك، وحكاه عن أهل المدينة، قال ابن عبدالبر: “قال أبو مصعب: من قدّم في الوضوء يديه على وجهه ولم يتوضأ على ترتيب الآية  فعليه الإعادة لما صلى بذلك الوضوء”[43] .

ووجه القول الأول أن الترتيب فرض؛ لأن الواو توجب الرتبة والجمع جميعا، وذلك زيادة في فائدة الخطاب، قالوا وفعل الرسول –صلى الله عليه وسلم- بيان لمراد الله تعالى من ذلك، لأنه لم يتوضأ قط  منذ افترض الله عليه الوضوء للصلاة إلا على نسق الآية، فصار ذلك فرضا، كما كان بيانه لعدد  ركعات الصلوات ومقادير الزكوات فرضا، وقالوا أيضا: وحروف العطف كلها قد أجمعوا على أنها توجب الرتبة إلا الواو، فإنهم قد اختلفوا فيها، فالواجب أن يكون حكمها حكم أخواتها من حروف العطف.

قالوا: ومن الدليل على الترتيب في أعضاء الوضوء دخول المسح بين الغسلين، لأنه لو قدم ذكر الرجلين وأخر المسح لما فهم المراد من تقديم المسح فأدخل المسح بين الغسلين ليعلم أنه قدم الرجلين ليثبت ترتيب الرأس قبل الرجلين، ولولا ذلك لقال: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين، وامسحوا برؤوسكم، ولما احتاج أن يأتي بلفظ ملتبس محتاج إلى التأويل لولا فائدة الترتيب[44] .

ووجه القول المرجوع إليه أن الواو لا تقتضي نسقا ولاترتيبا، وإنما توجب الجمع، فقوله تعالى: (فاغسلوا وجوهكم وأيدكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين)[ المائدة/6] إنما يوجب ذلك الجمع بين الأعضاء المذكورة في الغسل ولا يوجب النسق، وقد قال الله تعالى: (وأتموا الحج والعمرة لله)[البقرة/ 196] فبدأ بالحج قبل العمرة، وجائز عند الجميع أن يعتمر الرجل قبل أن يحج.

وكذلك قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة)[البقرة/43]، وجائز لمن وجب عليه إخراج زكاته في حين صلاة أن يبدأ بإخراج الزكاة، ثم يصلي الصلاة في وقتها عند الجميع.

وقد قال الله تعالى: (يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين [آل عمران/43]، ومعلوم أن السجود بعد الركوع، وإنما أراد الجمع لا الرتبة، وليس وضوءه – عليه السلام- على نسق الآية[45] بيانا لمراد الله من آية الوضوء كبيانه لركعات الصلوات؛ لأن آية الوضوء بينة مستغنية عن البيان، والصلوات مجملة مفتقرة إليه.

وقد روي عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه أنه قال: “ما أبالي إذا أتممت وضوئي بأي أعضائي بدأت”، ومعناه لا نبالي بذلك مبالاة من قدم بعض أعضاء الوضوء على بعض[46].

واحتج من لم ير الترتيب في الواو أيضا بالمعقول فقال: إن اسم الغسل ينتظم من رتب ومن لم يرتب، لأنه طهارة شرعية كالغسل، ولأنه تقديم وتأخير في الوضوء، فلم يمنع صحة الطهارة كتقديم  اليسرى على اليمنى، ولأنه عضو من أعضاء الوضوء فصحت التبدئة به كالوجه، ولأنها عبادة يجوز تفريق النيات على أبعاضها فلم يكن الترتيب من شرطها.

وإذا ثبت أنه ليس بفرض، فإنما استحب للسنة؛ لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم ومداومته عليه، وعمل السلف من بعده، ولأن الأمة مجمعة على أنه مطلوب  في الوضوء، وأن فعله أفضل وأولى من تركه، واختلاف العلماء في مباح الطهارة بتركه لا يخرجه عن تعلق الفضيلة به[47].

الصفحة السابقة 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11الصفحة التالية

الدكتور عبد الله معصر

• رئيس مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوك بالرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. بوركتم، ولو كان هناك محاولة ترجيح في الموضوع لكان أفضل، أقصد من باب الخلاف العالي والله الموفق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق