مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

وقفات مع حديث: “إنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتق الشر يوقه”.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، محمد وآله وصحبه أجمعين.

وبعد؛

فيعد العلم من أعظم القربات وأجل الطاعات، أقسم الله به في كتابه، ولا يقسم الله تعالى إلا بعظيم قال: (ن والقلم وما يسطرون) ([1])، وبالعلم فضل الله تعالى البشر على سائر المخلوقات، واصطفى عباده العلماء فجعلهم من ورثة الأنبياء وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، إنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر”([2])، ولعظم مكانته وفضله جاء الأمر بطلبه وتحصيله؛ وهذا التحصيل لا يمكن أن يناله كل أحد، وإنما يُنال بالجد والصبر والحلم والتحلم، فما انضم شيء إلى شيء أفضل من حِلم إلى علم،  بهذا دلت العديد من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: “إنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتق الشر يوقه”([3]).

من خلال هذا الحديث الشريف أقف وإياكم وقفات نتأمل فيها معانيه الغزيرة، وفوائده ودرره المنيفة، ومن المعاني المستمدة من الحديث  أذكر باختصار:

الوقفة الأولى:  في قوله: “إنما العلم بالتعلم”؛ يدل على أن العلم لا يولد مع صاحبه؛ وإنما هو مكتسب كما قال الله تعالى: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا) ([4])، وفي هذا دلالة على وجوب السعي في طلب العلم وتحصيله لما فيه من الخير الكثير مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر:  “من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة”([5]).

الوقفة الثانية: وفي قوله: “والحلم بالتحلم”؛ دلالة على أن الحِلم لا يأتي إلا بالتَّحَلُّم ومعناه: تعويد النفس على الحِلم وعدم الأذى؛ لأن الحِلم إذا درب الإنسان عليه نفسه صار  مثل السجية والطبع فيقال: إنسان حليم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة في كل خلق حسن ومنه خلق الحِلم، وعلى هذا صار أصحابه ومن جاء بعدهم وخير ما نضرب به المثل: الأحنف بن قيس التميمي الذي قال يوما عندما سئل عن حلمه: “لست بحليم ولكني أتحالم”([6])

والحلم من ثماره أنه يعمل على تآلف القلوب، وينشر المحبة بين الناس، ويُزيل البغض والحسد، وهو من أهم الصفات المحمودة عند الله تعالى، والتي ينبغي أن يتصف بها العالم وطالب العلم وغيرهما من المسلمين، وهي الأصل في التعامل إلا أن تنتهك حرمة من حرمات الله التي لا ينبغي الحِلم فيها كما قال تعالى (ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه) ([7])

الوقفة الثالثة: وفي قوله: “من يتحر الخير يعطه، ومن يتق الشر يوقه” دلالة على أن من يقصد الخير وأهل الخير ويتحرى أماكنه يعطيه الله له، ومن يتوق الشر بالبعد عن أماكنه يوقيه الله منه.

   وختاما أرجو أن أكون بعد هذه الوقفات أن أكون قد وفقت في بيان معنى هذا الحديث، واللَّهَ أسأل أن يوفقنا لطاعته والعمل في مرضاته، وأن يجنبنا كل ما يَشين، ويلهمنا أن نكونَ ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه والحمد لله رب العالمين.

*****************

هوامش المقال:

([1]) سورة القلم الآية: (1).

([2]) أخرجه الترمذي في سننه (5 /48) برقم : (2682).

([3]) أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه(9 /127) برقم: (4744) بسنده عن أبي هريرة مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفي سنده ضعف، والطبراني في الكبير (19 /395)، بلفظ آخر. والحديث حسنه الألباني في الصحيحة (1 /670-672)برقم: (342)، وفي صحيح الجامع (2328).

([4]) سورة النحل (78).

([5]) أخرجه البخاري في صحيحه (1 /41)، كتاب: العلم، باب: العلم قبل القول والعمل، ومسلم في صحيحه (4 /2074) كتاب: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: فضل الإجتماع على تلاوة القرآن والذكر،برقم: (2699).

([6]) أورده ابن عساكر في تاريخ دمشق (24 /330).

([7]) سورة الحج (30).

************************

لائحة المراجع المعتمدة:

تاريخ بغداد. أحمد بن علي أبو بكر الخطيب البغدادي. دار الكتب العلمية – بيروت. (د.ت).

تاريخ مدينة دمشق وذكر فضلها. أبو القاسم علي بن الحسن إبن هبة الله بن عبد الله.  

تحقيق: محب الدين أبي سعيد عمر بن غرامة العمري. دار الفكر بيروت. 1995.

الجامع الصحيح. أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، قام بشرحه وتصحيحه وتنقيحه: محب الدين الخطيب، ورقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، وراجعه وقام بإخراجه وأشرف على طبعه: قصي محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية القاهرة. ط 1/ 1400.

الجامع الصحيح. أبو عيسى محمد بن عيسى. تحقيق : أحمد محمد شاكر وآخرون

 دار إحياء التراث العربي – بيروت. (د.ت)

صحيح الجامع الصغير وزيادته. محمد ناصر الدين الألباني. المكتب الإسلامي. ط3/1408-1988.

صحيح وضعيف الجامع الصغير وزيادته. محمد ناصر الدين الألباني . المكتب الإسلامي (د.ت)

الصحيح. أبو الحسن مسلم بن الحجاج النيسابوري. تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي. دار إحياء التراث العربي – بيروت. (د.ت)

المعجم الكبير. أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني. تحقيق : حمدي بن عبد المجيد السلفي مكتبة العلوم والحكم – الموصل. ط2/ 1404 – 1983.

*راجع المقال الباحث: محمد إليولو

Science

دة. خديجة أبوري

  • أستاذة باحثة مؤهلة بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. بارك الله فيكم ونفعنابكم علماؤنا الأخيار و جزاكم الله عنا خيرا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق