وحدة الإحياءدراسات محكمة

النظام العام للحرية الفردية1 في الإسلام

أين يلتمس الإنسان العربي والمسلم ذلك “السياج الفكري” الذي يستطيع بإقامته حماية حريته، التي تكفل له تحقيق جوهره الإنساني، وتلمُّس الطور الحضاري الذي يستشرفه؟

1. مفهوم الحرية في الإسلام

جاء لفظ الحرية بسائر مشتقاتها في كلام العرب، منبئا على عدة معان فاضلة، أحدها ناشئ عن الآخر[2]. كلها تفيد معنى مضادا لمعنى الرق والعبودية، فالحر من ليس بعبد. والظاهر أنه لفظ ذو دلالة نسبية لا يتصور معناه إلا بفهم الرق والتوقف عنده[3]. لكن ليست هذه الحرية المقصودة في الدراسة، إنما المقصود هو المعنى الحديث الذي شاع بين الناطقين بالعربية، بعد أن “تنوسيت” أحوال الرق إلى حد ما، واضمحل إطلاق الحرية على معناه الحقيقي عند العرب.

إن الإطلاق الحديث[4] للفظ الحرية يراد به معنى “عمل الإنسان ما يقدر على عمله، حسب مشيئته، لا يصرفه عن ذلك أحد”. وقد استعملت العرب هذا اللفظ بذات المعنى بعد أن ترجمت كتب تاريخ فرنسا، والثورة التي قامت فيها سنة 1789[5]، فأُثبت هذا المعنى الذي يقارب لفظ الانطلاق، أو الانخلاع والانعتاق من ربقة التقيد (نظير ما كان من الحكومة الملكية والإقطاعية في فرنسا).

ولما بين معنيي لفظ الحرية بإطلاقيه (العربي/الغربي، أو حرية الرقبة/حرية التصرف) من تناسب الاستعمال، وما للنظم الإسلامية من أحكام في كلتا الماهيتين، ناشئة عن انتماء معنى اللفظ المحدث إلى اللفظ الأصيل، روعي جعلهما في مبحث واحد[6]. فكلا المعنيين وصف فطري نشأ عليه البشر، وبه تصرفوا في أول وجودهم على الأرض، حتى حدثت بينهم المزاحمة ثم التحجير[7]. وهذا التقييد، أو التحجير، للحرية لا يلجأ إليه، كمبدأ، إلا عند الضرورة ومن أجل دوافع ومصالح راجحة.

وبناء عليه، اتجه الفكر الإسلامي إلى تعريف الحرية، بناء على مفهوم الإباحة التي تقوم في أصل تشريعها على التخيير بين الفعل والترك، بقدرة الإنسان على اختيار أفعاله؛ أي تساوي الإمكان في الفعل وعدم الفعل، بناء على امتلاك واع للإرادة[8]. ويعبر”الدريني” عن الحرية بأنها “المكنة العامة التي قررها الشارع للأفراد على السواء، تمكينا لهم من التصرف على خبرة من أمرهم دون الإضرار بالغير[9].” وذهب ذ. علال الفاسي نحو التمييز بين الحرية في الإسلام والنظريات الفلسفية الأخرى بقوله: أنها “جعل قانوني، وليست بالحق الطبيعي، فالإنسان ما كان ليصل إلى حريته لولا نزول الوحي، إنه لم يخلق حرا، إنما ليكون حرا[10].” الخ من التعريفات[11].

ومجمل المفاهيم الإسلامية للحرية جعلتها أصلا مركوزا في فطرة الإنسان[12]، وجعلت منها مناط الابتلاء، كما جعل العقل مناط التكليف. فعهد للإنسان بخلافة الأرض وإعمارها وفق منهج تشريعي عبادي متسق مع نواميس الكون وحركة الموجودات. إنها؛ أي الحرية، ما وهبه الله للإنسان من مكنة التصرف لاستفاء حقه وأداء واجبه دون تعسف أو اعتداء عليه وعلى غيره[13].

والإنسان في الفكر الإسلامي مجبول على الحرية، يتوق إليها أكثر من بقية الحاجات، وترقى عنده لمرتبة الضرورة، فهي حق مقدس من الخالق لا يجوز لأحد نزعها أو إعدامها، وقد عبر عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، عن هذه الحقيقة بقولته المشهورة “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا”. ثم جاء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر سنة 1948 عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، ليكرر ويقرر ذات المعنى في مادته الأولى التي تقول: “يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق”. أكثر من ذلك، فالإنسان في الإسلام له حرية الاختيار، على أساس من القناعة، يحمل بموجبها النتيجة والمآل، وذلك لتنافي الإكراه مع طبيعة العقيدة نفسها ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ (يونس: 99)، أو قوله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا﴾ (فصلت: 45). فالدنيا في الإسلام دار ابتلاء مقرون بالاختيار، كما الأخير مقرون بالحرية[14]. قال تعالى: ﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ﴾ (الملك: 2). والتسليم بالحرية في إطار ما سبق، يفترض أنها محدودة بشكل ما؛ أي أنها لا تصل إلى مخالفة أوامر الخالق، الواجب، لكن الله اقتضى أن تكون الأوامر والنواهي غير ملزمة، فهي أوامر تمكين مقرونة بجزاء وليست أوامر إلزام.

يبقى أهم مفصل في دراسة الحرية، ما يتعلق بالسنن والنواميس في الكون وموجوداته؛ أي ما الوسائل المكفولة التي منحها الدين للإنسان حتى يحقق حريته؟

إذا كان الإنسان مسؤولا عن عمله، مع توفير ووجود شروط المسؤولية الحرة ومقتضياتها، فقد تعلقت حريته بالحدود والإمكانات والوسائل التالية[15]:

أ. العقل: بما هو جوهر إنسانية الإنسان، وأساس التكليف ومناطه. وحيث لا تستقيم مسؤولية امرئ حتى يستقيم عقله، بما فطر عليه من ملكة الإدراك والتمييز. فإذا سقطت الأهلية، العقل، رفعت المسؤولية.

ب. الإرادة: وهي أساس حرية الاختيار، ارتبطت بالتفكير والنظر في النتائج والعواقب، كما ارتبطت بالعزم والتصحيح.

ج. الاستطاعة: وهي أساس الفعل تنفيذا؛ لأنها التمكن والقدرة عقليا ونفسيا وجسديا. وطبيعي أن يكون التكليف في حدودها؛ أي بما هو في مستوى إمكانية الإنسان[16]، يقول الله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ (البقرة: 285[17].

هكذا، إذن، ترتبط هذه الوسائل لتكون برهانا، لا يتطرق إليه الشك، عن ترسيخ الإسلام للحرية. بحيث أن انتفاءها بالضرورة يمثل انتفاء مباشرا للأخيرة[18].”

ولأن الحرية تقتضي توافر عناصرها لتكون متكاملة واضحة، فقد جاء الإسلام مؤكدا على توفيرها بشكل عريض وواف، وعلى إيصالها من خلال التفصيل في معناها، وتثبيتها من خلال التنبيه لمغزاها، وعلى تبيان قيمتها بإيضاح علاقتها بالإنسان وعلاقة الإنسان بها. وأهم هذه العناصر هي:

أ. المسؤولية الفردية أولا

إذ دون تحديد الهوية الإنسانية في المسؤولية الفردية، أو التفكير بإلغائها، يعني ذلك تعطيلا لركن من أركان الحرية، فلا يمكن التنصل من المسؤولية أو إلقاء تبعتها على الغير. ومن هنا كان التركيز الشديد عليها، بحيث لا يمكن أن تجري سنة التكليف والابتلاء بمعزل عن شرط المسؤولية الفردية التي تحقق قمة العدل في الجزاء نتاج عمل الفرد وفعله، وتكون دافعا لإعطاء العمل قيمة بناءة وفاعلة[19]. يقول تعالى: ﴿وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ (الأنعام: 166). لكن المسؤولية تقف هي أيضا على أركانها المجملة: التبليغ، والعلم، والعمل. فلا تحق التبعة على أحد لم تبلغه الدعوة في مسائل الغيب والإيمان[20]، قال تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ (الإسراء: 15).

ب. معرفة الذات ثانيا

كانت الحرية في أولى صياغتها، انطلاقا أكيدا من معرفة الإنسان لإنسانيته من جميع الجهات والجوانب، وبدهي أنه في غياب معرفة الذات تنتفي معرفة الحرية. ولا غرابة أن تضمن خمس آيات القرآن تعريفا للإنسان، كتأسيس لمعرفة الذات والحرية من جهة، ولمعنى الاختبار والمسؤولية من جهة أخرى، وهذه القراءة الواعية للهوية البشرية بكل دلالاتها، وكل هذا العلم والتعليم عنها، دليل على حكمة إلهية لإيصال المعاني القريبة والبعيدة للتكليف، الاستخلاف، والاختيار[21].

ج. معرفة الكون ثالثا

إن كانت الحرية معرفة واعية للذات، فهي كذلك معرفة وقراءة واعية لقوانين وأنظمة الكون؛ أي لفضاء ومحيط العمل حتى يكون الإنسان على دراية وتبصر. ولذلك عرف الله للإنسان الفلك والكواكب، الريح والسحاب، الأرض والجبال، الليل والنهار، والزراعة والصحة… وكل هذا الكم من المعلومات يوحي باستبعاد أي حرية مقيدة بجهل أو عدم توازن معرفي مع المحيط الكوني. رغم أن ذلك لم يأتي ليضع نهاية المعرفة أمام الإنسان، بل الأخير مطالب بإعمال الفكر، البحث، الاستقصاء، التجربة، والاستفادة، لتشكيل حركة علمية دائمة، لا تقبل التوقف بأي حال. ولذا كان التأكيد على العلم وطلبه في كل فرع من الفروع[22].

إن مثل هذا الفتح لآفاق الكون معرفيا، دافع ومحرض لتحقيق النهضة والحضارة التي لا تنفصل أبدا عن العلم، كحركة معرفية خصبة، استطاع المسلمون الأوائل استيعابها، بشكل فاعل ومؤثر[23].

د. تكريم الإنسان رابعا

وهو من أهم العناصر التي ساهمت في بناء الحرية الإنسانية. تكريم على مستوى الخلق، وتوفير مستلزمات السيادة على الأرض.

في المقابل كثيرا ما يطرح سؤال ضوابط الحرية في الإسلام؟

بناء على المفهوم العام فالحرية نقيض للفوضوية؛ إذ الإسلام قيد ممارستها منذ البداية، وجعلها منضبطة للشرع ومقاصده. مرتكزة على قراءة واعية لحياة الإنسان وعلاقته مع كل ما يحيط به، وهذا بناءٌ يمكن تمثله من خلال بعض من قواعد السلوك العام والخاص المعروفة في الإسلام:

ـ قاعدة الاعتدال والوسطية؛ وهي قاعدة ليست باليسيرة كما يظن، لكونها قاعدة حياة، منهج، والتزام. تتطلب التخلص من كل النوازع التي يمكن أن تقود للإسراف في هذا أو ذاك، وعلى الجانبين[24].

ـ قاعدة التيسير بدل التعسير؛ وذلك في الأمور كلها، فالإسلام نفى الرهبانية والتعنت وما شاكل ذلك، ولم يرد انصرافا للناس عن المصالح الدنيوية كلية، أو فرض ما يثقل على الناس، أو يوقعهم في الحرج[25].

ـ قاعدة أن الأصل في الأشياء الإباحة؛ أي حرية التصرف، وذلك ما لم يرد نص يحرم فعلها، أو سكت الشرع عن تركها، فالتحريم لا يرِد إلا بالدليل الواضح المقرون بالنص[26]. يقول تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ (الأعراف: 30)، اللهم إن ورد ما يقيد ذلك، ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾ (الأعراف: 157)، أو دعت الضرورة والمصلحة المقدرتان بسياقهما، أو أفضت الإباحة إلى مفسدة عامة[27]. فما عدا ما حدد منعه في الشريعة من التصرف، الأصل فيه الإباحة.

والآيتين السابقتين، تفيدان صراحة وقطعاً أن كل ما كان زينة وطيباً، فحكمه الأصلي هو الحل والإباحة، ولا يتعلق التحريم به إلا عرضاً ولأسباب غير ذاتية. ومقابل هذا، فإن ما كان خبيثاً فحكمه الأصلي هو التحريم، سواء كان مما فصل في القرآن وذكره باسمه، أو لم يكن كذلك وعرف بصفة “الخبث”. والحق أن الله تعالى حرم أشياء بصفتها، فمتى ثبتت تلك الصفة “الخبث والضرر” ثبت التحريم. وكل ما لم يتصف بالخبث فحكمه الإباحة وحرية الاستعمال والتصرف[28].

2. مساحة وحِمى الحرية في الإسلام

ما سبق وذكر بخصوص الحرية في الإسلام ومكانتها من نواحي التكريم، الخلافة، والتكليف الإنساني، يبدي أنها ممنوحة للإنسان وفق مقاصد وأحكام شرعية. حيث إن تمكينه منها في إطار ما أنيط به من وظيفة، يندرج في سلم الخطاب التكليفي وما يتعلق به من مقاصد ضرورية، حاجية، وتحسينية. والأحكام التي تنظم ذلك وتوجهه، نفسها الأحكام التي تؤطر أمر الجماعة والحكم والسلطة؛ أي أن كلاهما من مصدر تشريعي واحد، وبالتالي فلسفة تشريعية لا يأتيها التناقض في مبحثي الحرية والسلطة أو في غيرهما[29]. وإن وجد التعارض بين الأحكام، حسب علم أصول الفقه، فالقاعدة أن الكلي يقدم على الجزئي، والضروري على الحاجي، والأخير على التحسيني، والقطعي على الظني، كما يتم الجمع بين الأدلة بتأويل سائغ تحتمله قواعد الفقه واللغة[30].

ووجب الانتباه حين تناول الحرية الفردية، كحق للفرد في تجاوز كل قيد يواجهه، أن معناها يتغير طبقا لتعريف القيود، فالأخيرة التي تحمل دلالة سلبية، قد تكون غير ذلك. بمعنى أن لكل مجتمع نظام تنتظم الحدود به، تتحدد الأدوار والمسؤوليات، وتعرف معايير الممكن والمرفوض[31]. فكيف تمارس الحرية في الإسلام إذن؟ وهل هي قبول حدود المجتمع أم رفضها؟

“إن الحرية خاطر غريزي في النفس البشرية، فيها نماء القوى الإنسانية من تفكير وقول وعمل، وبها تنطلق المواهب العقلية متسابقة في ميادين الابتكار والتدقيق. فلا يحق أن تسام بقيد إلا قيداً يدفع به عن صاحبها ضرا ثابت أو يجلب به نفع (…). والحرية بهذا المعنى حق للبشر على الجملة، لأن الله لما خلق للإنسان العقل والإرادة، وأودع فيه القدرة على العمل، فقد أكنَّ فيه حقيقة الحرية، وخوله استخدامها بالإذن التكويني المستقر في الخلقة[32]“.

و”ابن عاشور” هنا، على حد تعبير الفقيه المقاصدي، د. أحمد الريسوني، تجاوز ذلك النقاش والتأرجح الذي كان سمة الغربيين حول أصل الحرية ومصدرها، هل الخلقة الأولى للأفراد وما يعتريها من نزوع إلى حرية التصرف واتباع هوى النفس وميولها، أم العقل والنظر العقلي، والعمل بمقتضاهما؟[33]” المرجعية الإسلامية تتجاوز هذا التجاذب الثنائي، حين لا تنفي اعتماد الحرية، تأصيلا وممارسة، على النظر العقلي، رغم كونها صفة فطرية غريزية وتلقائية، ولدت مع الإنسان، إلا أنها ولدت مقيدة رمزيا واستثنائيا[34].” فتأسست بالتالي على أصالة مزدوجة متلازمة فيها: أصالة فطريتها الملازمة لكل فرد في خلقته، وأصالة مبدإ تقييدها وعقلنتها، كشكل أوحد وممكن لتحقيقها وإنجاحها[35]“.

إن المكانة والقدرات الاستخلافية المميزة للإنسان عما سواه من الكائنات، هي التي تحمله في ذات الوقت مسؤولية الاستخلاف، وتربط الحريات بواجبات تقدر بقدرها، فآلية الحكمة في عالم الوجود، وسنة العدل في هيأة الاجتماع، أن يكون الحق والواجب متلازمين متعاقبين، يتبع أحدهما الآخر، وينشئان عن بعضهما وجوبا، فلا يرجى عدل حين يرى الحق بلا واجب، ولا يطلب إنصاف إن وجد الواجب بلا حق[36]“.

وهذا ما يستلزم بالتبعية، أن حرية التصرف الذاتي والتمكين من ذلك، على نوعين:

حرية فردية، مستواها المجال الخاص للإنسان، حيث لا يلاحَق المرء في دائرته الخاصة. إلا إن كان يضر بنفسه (محاولة الانتحار، المخدرات، إيذاء الجسد..)، أو يحضر لضرر للغير (صناعة أسلحة، متفجرات…)، والفرد والغير هنا ملك للمجتمع وفي عهدته. وغير هذه الشروط فمجال الفرد ملك خاص به في علاقته مع خالقه. ليس لأحد أن يملي عليه رؤيته، إلا بالنصيحة. ومنظومة القيم والتشريعات الإسلامية تستحث في الفرد إرادة الطاعة والحرية في الدخول للدين، ولا تلاحقه في مجاله الخاص ألتزم أم لا.

وحرية فردية مستواها المجال الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية الإنسانية، والتصرف داخل هذا الإطار، له حدود توافقية سطرها القانون “كقاعدة سلوك مجتمعي (فردي وجماعي) عامة ومجردة، نابعة ومعبرة عن منظومة قيم المجتمع، مكفول تطبيقها واحترامها بمقتضيات جزائية”، وحفاظا على المجتمع ككيان وذات حضارية، وملك مشاع للأفراد، إنها ما يمكن التعبير عنه حرية الاختيار الحضاري للمجتمعات، والذي يبقى موضوعا مغيبا، انطلاقا من هل للجماعة حق الاختيار، أم ذلك للأفراد فحسب؟ هل للجماعة حق الحرية وإلى أي مدى يمكن أن تطبق؟ أم أن حرية الأفراد صارت عدوانا على المجتمع ثقافته، وحرمة مجاله العام؟

ما سبق، هو تقرير للحقوق والتكاليف الخاصة والعامة، التي ترعى مصلحة الفرد والمجتمع. وثبتت فيها استعمالات الحق في الفقه الإسلامي[37]، الذي اتسع في المعنى والدلالة المقررة في الفقه القانوني، وشمل الحق فيه معنى الحرية.

إن ترشيد الحضارة الإنسانية تتأسس من أن الفرد لا وجود له مجرد فرد؛ لأنه بفطرته، وأصل خلقه اجتماعي ﴿لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا﴾ (الزخرف: 31) ولا يحقق ذاته إلا في الجماعة، التي تكون مهد وجوده، وإطار حركته وحريته، والضوابط السليمة التي تفسح له مجالاته، طاقاته وإبداعه. لكن بتوازن بين حقه في التصرف، وحق محيطه الاجتماعي ومصالح الجماعة وبقائها، بأسلوب توافقي شوري يحقق المصالح، ويدرأ المفاسد، ولا يسمح بالاستبداد[38]. ما يزكي مقاصد الشرع في ترشيد نظام المجتمع وإدارته، دون إجحاف حرية الفرد وحقوق الجماعة[39].

إن القانون والأعراف تصور ضغط المجتمع على الفرد، لكن ذلك غير سليم، فالقانون الحق لا ينقص من الحرية ولا يزيل الاستقلال، بل يقيم لهما حدودا تقيهما الضعف والاضمحلال، وشرط القانون أن يكون موضوعه الحرص على حقوق الكل وحفظ حق الفرد، ما لم يمس تلك الحقوق. والحكم يكون قانونيا لا من حيث يذهب بحرية فرد من الجماعة، لكن من وجه أنه يحفظ حرية الكل، وهكذا حدود الحرية تكون حافظة للحرية[40].

والخطأ الذي يسم رؤية البعض، هو تصوره للحرية كسلوك فردي، يخص الفرد، ويقع في حدود الحرية الفردية بإطلاقها. وهو التصور الناتج عن تمثل انبهاري بالحرية في الغرب، رغم أن الأخيرة، أيضا، تنضبط لمنظومة الغرب الحضارية، ونظامه العام. وتفرض، للأسف، صورة للحرية في المجتمعات العربية الإسلامية، تعمل على تقليد تصور الغرب لها، فتمارس في مواجهة المعايير الخاصة بالمجتمع. وهذا النقل خطير جدا، كون حرية الفرد في الغرب لها قواعد، ومساحة للممارسة، وحين تنقل لمجتمع آخر يفتح لها ميدان للممارسة دون أن تنقل قواعدها، لأنها لا تصلح له، كما أن رؤيته هو قد لا تصلح لها.

والأقرب للواقع في الإسلام، أن تعرف الحرية بأنها المساحة المتاحة للجماعة والفرد قصد ممارسة القرار الذاتي. ليس كمجال للصراع قصد كسر الثوابت المتعارف عليها شرعا، إنما ممارسة ورعاية للمصالح في إطار ذلك[41].

ومن الإشكالات المثارة هنا، أن أصبح التحدث عن ثوابت المجتمع معيقة للتقدم. والجدل حول ذلك تحدّ حقيقي، لا يتكرر كثيرا لدى الشعوب. فالثوابت حسب تعريفها تولد من تمثلات المجتمع، يعيش بها وفيها، وتنتقل من جيل إلى جيل، دون أن تكون محل تساؤل وبحث، كونها وليدة الفعل التلقائي للمجتمعات[42]. لكن انفتاح المجتمعات على بعض، أدى إلى التباس، بات يمثل واحدا من أهم التحديات التي تخص وجود الأمم نفسها[43].

من هنا تنبع ضرورة المقدس، لا بين الارتكان إليه من عدمه، إنما ما الذي ارتضته المجتمعات مقدسا لها؟ الاختيار بين تقديس الرؤية المادية التي تنادي بضرورة تحرير العقل من كل المقدسات، أو إعادة إفعال الأخيرة التي تنتمي للضمير والدين والأخلاق، والتي لا تعطل عمل العقل ولا فعل العلم وتطبيقاته، بل تقنن وظيفة تلك الأعمال وتقدرها قدر تحقيقها للمعنى[44].

إنه التفضيل بين تقديس المادة وتقديس المعنى.

وتبقى محاولة كشف الثوابت، للحد الذي تكون فيها برمتها محل جدل وشك، تعبيرا عن أزمة أكثر مما هي تعبير عن حالة وقائعية، وكأنها محاولة رسم مجتمع لم يولد بعد، والأخير، عموما، ليس حالة بيولوجية قابلة للتشكيل، لحد الوصول إلى ثوابت بعد تجارب عدة قرون، ثم نزعها في عقل ووجدان المجتمع[45].

المفترض في الثوابت والقيم، أنها معلومة بالضرورة، فلا يتم الكشف عنها من الصفر، وإن كان صحيحا أنها تتراجع حينا فتصبح متنحية، في مواجهة السيولات الحضارية، وتتقدم أحيانا لتصبح حاكمة. الشيء المهم أن حالة المجتمع متغيرة، دورتها الحضارية ذات مراحل متباينة، وفعاليتها الحضارية تنتقل من طور لآخر. لكن ثوابتها موجودة إما فاعلة أو مفعولة، متطورة أو متجمدة[46].

ولابد من الإشارة أنه إن كان هناك من ينكر وجود القيم والثوابت، فإن فريقا آخر يحاول تغيير مسار فاعليتها، كالجماعات الإرهابية التي تحاول فرض بعضها بالسلاح، فتكون سببا في تهميشها والشك فيها. بل تغيير طبيعتها وفاعليتها في المجتمع، وتخلق صورة مشوهة لها. وهو ما يعطي مبرر هدمها[47].

إن قيم المجتمع، توجد كنتاج تاريخي لاختيارات جيلية متتالية، جرى عليها الزمن يصقلها ويطورها ويصوغها، كاختيار واع غير مفروض. إنها سلوك ساد بين الأفراد وأفصح عن نفسه في المواقف وعبر الزمان، ومن خلال الانتشار والسيادة، حتى أصبحت قواعد فاعلة. واستمرار هذا النمط، دليل على أنه حقق للمجتمع ما يتمناه ويرضى عنه، وما يدفعه للسعادة والتقدم[48].

لكن، فالعناصر الوافدة كتمثلات للممارسة، تختلط بالعناصر الأصلية السابقة، لتنتج تشوهات عميقة، وأشكالا متباينة، تفرز أنماطا من السلوكات المتناقضة اجتماعيا وثقافيا، والمتعددة في أسس النشأة. فهل هذه هي ممارسة الحرية؟ وهل من حق الأفراد أن يسلكوا المعايير التي يريدون، موروثة كانت أم وافدة؟

قد لا يعدو أن يستحق الموضوع النقاش، إن كانت المسألة مرتبطة بحياة خاصة للأفراد “يصطلح عليه في الإسلام حرمة المجال الخاص”، لكن أن تنتظم هذه الممارسات الوافدة في إطار جماعي، فالمسألة تتجاوز معنى الحرية الفردية لتصير مصير مجتمع. فالشرائح التي تمارس نمطا من الحرية بدلالتها المتجاوزة للنظام المجتمعي وقواعده، تكون في حالة إفلات من نمط الضبط الاجتماعي السائد، وتخليق لنمط ضبط اجتماعي مستقل.

والحاصل أن هذا يدخل في باب تفكيك المجتمع، وأن هذه “الفئات المتغربة انعتقت من آلية الضبط الاجتماعي، وفقدت لركن من المشترك المجتمعي. كأقلية تختلف مع المجتمع في قيمه العليا، ولا تمثل ثقافة فرعية بقدر ما هي ثقافة مستقلة. وقد يجوز التعبير عنها بالأقلية الحضارية.

ومن جهة أخرى، بالغة الارتباط بالحريات العامة في الإسلام، فإن الحرية الفردية لا تؤول إلى مستوى الممارسة، إلا استنادا على حرية الفكر والمعتقد[49]، إن على مستوى الفرد، أو على مستوى المجتمع فيما يتعلق بالصلة بين تفكير الفرد ومعتقداته وبين المجتمع الذي يعيش فيه، سواء تمثلت بإشهارها قولا أو ممارسة، أو تمثلت في الدعوة إليها بين الناس، على مستوى فردي أو جماعي منظم[50].

وحرية المعتقد لا تكمن في التصديق والاقتناع به، بل في حق التعبير عنه، بيانا لحقيقته، شرحا له، واستدلالا عليه. وأيضا حرية الممارسة السلوكية له.

ومن مظاهر ذلك في الشرع، محاولة تحرير الفكر من المكبلات التي من شأنها إعاقة حركته عن التعامل الموضوعي مع الفكرة، فتوجهه لنتائج مرسومة مسبقا حتى تكون له معتقدا[51]، كالخضوع للعادات واتباع الآباء لمجرد كونهم كذلك، قال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ (البقرة: 169). وهذا أسلوب للإنكار، والتوجيه إلى أن يسلك الإنسان بفكره مسلك النظر الاستدلالي الحر[52]. وتم التشريع، كذلك، بوجوب تحرير الفكر من سيطرة الأهواء، قال تعالى: ﴿فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا﴾ (النساء: 134) من جهة أخرى، فالإيمان “المعتبر” شرعا عند علماء العقيدة هو الحاصل عن استدلال حر ويقيني[53].

وإن اكتسبت حرية المعتقد صفة الشرعية الدينية، فقد أحاطها الإسلام بجملة ضمانات تضمن سيرورة تطبيقها في المجتمع، حتى لا تهدر أو يصيبها الانتكاس في الواقع[54]. ومنها ضمانات منهجية، وهي ما تضمن فعل ممارسة التفكير والاعتقاد، وتوجه الإنسان لامتلاك شروط ذلك، وتحرير العقل من أي سلطان يقيده، خارجيا أو كان من ذات الإنسان. وذا مقتضى قوله تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا﴾ (الفرقان: 43) وهذا إرشاد قبل تبني أي معتقد أو بعد ذلك، وما أكثر ما يرى اليوم في الادعاءات العريضة لحرية الفكر من هدر لهذه الضمانة المنهجية، كالانغلاق المذهبي، السطوة الإعلامية، ما ينتهي بالبعض إلى معتقدات مفروضة دون دراية بذلك.

وتأتي الضمانات الجزائية، لتكسب الحق في المعتقد معنى المسؤولية، التي تستلزم تحمل التبعة الجزائية من حيث ما أفضت من اختيار[55].

وتبقى الضمانات القانونية من تضمن السيرورة المجتمعية للحق في المعتقد؛ إذ الأخير مبني في جوهره على المعنى الاجتماعي كمقصد وغاية. فتم منع الإكراه في المعتقد، بالتحمل التصديقي، الاعتراف القولي، أو بالممارسة، مهما يكن للمكرِه من سلطان فردي أو جماعي، مادي أو معنوي. وبالتالي فعصمة الناس من الإكراه العقدي أصل قانوني في حرية التفكير والمعتقد[56]. وقد كفل الإسلام الحق في إظهار المعتقد والتعبير عنه، باطمئنان إلى نتائج مستلزماته القولية والسلوكية.

وإن كانت بعض الدول الإسلامية اليوم تقيد هذا الحق في إظهار المعتقدات والدعوة إليها، لأسباب متباينة بين الوجيه وغير ذلك، فإن المبدأ ضمان ممارسة الحرية الاعتقادية، كأمر مطلوب وشرعي. وقد أكد ذلك “المودودي” بقوله: سيكون لهم، يقصد غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، الحق في انتقاد الدين الإسلامي، مثلما للمسلمين الحق في نقد مذاهبهم ونحلهم (…) وستكون لهم الحرية في مدح نحلهم[57].”

لكن، ومع كل ما سبق، تبقى لحرية الاعتقاد بعض الحدود والضوابط، ما دامت لها امتدادات اجتماعية، وهي أدق ما تنطوي عليه القضية من العناصر. فإن لم يقم حفظ الحرية على معادلة دقيقة يضمن بلوغ أهدافها، فإنها ستؤول إلى ما يهدرها، إما بتقييد ينقض حقيقتها، أو فوضى تعطل مفعولها. ولعل أهم هذه الضوابط[58]:

أ. اتقاء التغرير؛ أي ألا يسلك إظهار المعتقد والدعوة له، أدوات إقناعية خارجة عن إطار الموضوع، فيصبح معتقدا لا بمقتضى قوته الذاتية، إنما بمغريات خارجية، كتقديم الأموال والمساعدات، كمقايضات، وإغواء الضعفاء من الأميين والبسطاء، أو القاصرين، الذين لا استطاعة لهم لتبين محتوى الخطابات بشكل واع، وهذا مبرر تقف دونه حرية الاعتقاد. ويدخل في هذا الإطار الخطاب الإعلامي، الحامل لمعان عقدية بصفة مباشرة أو غير مباشرة، الحامل لمعاني التغرير، خصوصا اتجاه الأطفال.

ب. المساواة؛ أي ينبغي أن تتوفر الفرص متكافئة، لكل صاحب عقيدة قصد التعريف بها، دون تغرير أو غواية، وحينها يبقى التدافع بين الآراء والقوة الحجاجية هي الفيصل لدى المتلقين.

ج. أمانة العرض دون تزييف الوقائع، وإلحاق الشيء بما ليس له، واستدراج المتلقين بالكذب، وتصبح هذه الأمانة مغلظة، حين يتعلق الأمر بالتربية والتعليم.

د. احترام المشاعر الدينية لما للمعتقدات من جرمة في النفوس، تجعل أصحابها يضحون بأنفسهم لأجلها. وإن كانت حرية المعتقد تتحمل النقد، وتبيان مكامن ضعفها مثلا، أو بيان ما في حججها من تهافت، فذلك يدخل في الحجاج العقلي، لكنها لا تتحمل تناولها بما يجرح حرمتها في نفوس أصحابها من تصرفات. كالتحقير والشتم، أو تناول الرموز الدينية والمقدسات بالتشنيع، وهذا باب واسع للاضطراب الاجتماعي، يقفل باب الحرية دونه.

ﻫ. التصرفات الكيدية؛ وغالبا ما تكون من الذين اعتنقوا الإسلام لغرض بث الاضطراب في المجتمع[59]، ويحسب أن حكم الردة في الإسلام يندرج في هذا القيد من قيود حرية المعتقد[60]؛ إذ المرتد إما إنسان عابث، أو أنه يرمي إلى التشكيك في الدين، وهو ما يمس مقصد حماية النظام الاجتماعي[61]، ما دام أن المجتمع الإسلامي أقيمت كل الحياة فيه على أساس ديني. نظير ما يعرف في القانون بالخيانة العظمى. أما المجتمعات التي لا تقام فيها الحياة على أساس ديني؛ إذ الدين فيها شأن فردي وثانوي، فالردة، طبعا، لا تغري بالكيد، ولعل هذا ما جعل بعض الباحثين المسلمين يميلون إلى أن يكون حكم الردة تعزيريا بناء على حكم ولي الأمر بشأن الكيد فيها من عدمه. ما يزكي للبعض كون عقوبة المرتد ليس لتغيير دينه، إنما لبعده الكيدي، ما تمثل معه خطا مانعا من المعتقد[62].

هذا، إذن، هو الأصل العام في التشريع الإسلامي بشأن الحرية، مساحتها، وحماها. أصل لا يتبدل، لكن، مع ذلك، يحتاج لمزيد التأصيل، استجابة للمستجدات الاجتماعية البالغة التعقيد.

الهوامش

[1]. ينطلق الباحث من كون الحرية الفردية “حق تصرف الإنسان، بما له من إمكانات واستطاعات، في ذاته وكسبه، ومساواته للآخرين، مع أمنه على نفسه وحركته، في مواجهة كل السلط المادية، أجهزة الدولة، والرمزية، المجتمع، الأسرة، الجسد، الخير والشر، بناء على واجب احترام النظام العام للمجتمع، كذات حضارية، القانون، الآخرين، النفس، والجسد”؛ أي أنها حرية تبدأ حين تنتهي القوانين، فلا يجبر المرء على ما لا تجبره القوانين، وتنتهي عند بداءة الحق الخاص والعام.

[2]. كلمة الحرية مأخوذة من حرّ يحرّ إذا صار حرا، والاسم حرية. وحرره: أعتقه، والحر من الناس: أخيارهم وأفاضلهم وأشرافهم. والحر: الفعل الحسن. والحرة من النساء: الكريمة الشريفة، والسحابة الكثيرة: البكر الكثيرة المطر.

ابن منظور، لسان العرب، مطبعة دار لسان العرب، الجزء الثاني، طبعة 1980، مادة  “حرر”، ص828-832.

والفيروز آبادي مجد الدين محمد بن يعقوب، القاموس المحيط، الجزء الثاني، طبعة الباب الحلبي، نشر دار الجيل، لبنان 1371 هجرية، ص512.

واستخدام العرب للفظ الحرية ومشتقاته، دائما ما يأتي بمعان جميلة، فوصف الإنسان بأنه حر: كونه لا يقبل الضيم وينأى عن الأفعال الخسيسة، وكذلك المرأة إن قيل أنها حرة؛ أي هي من أصل طيب ومنبت حسن ونسب أصيل، وتوصف بذات النسب الحر، أو من أحرار العرب، إن حافظت على شرفها وسمعتها. وللعرب حكمة مأثورة تقول “تجوع الحرة ولا تأكل بثديها”. وقد ورد في الصحاح من كتب الحديث أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، أخذ البيعة من النساء على أن لا يشركن بالله شيئا، ولا يقتلن أولادهن ولا يزنين…” فقالت هند بن عتبة باستغراب: أوَتزني الحرة يا رسول الله!”.

الحافظ ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، المجلد 11، دار طيبة، ط1، سنة 1426ﻫ، ص439.

[3]. جاء الإسلام وأحكام الاسترقاق عريقة في نظام الأمم، ومما أقيم عليها نظام العائلات وتدبير المنازل، الفلاحة، والتجارة.. فتدرج الإسلام في تحريرهم دون طفرة كانت ستحدث اضطرابا. فأبطل الإسلام أسباب الاسترقاق الاختيارية والاضطرارية، ولم يبق إلا سببا واحدا، هو الأسر مع الكفر في الحرب، إلى أن يتم التحرير بسبب من أسباب العتق، ومن أسلم قبل الأسر لا يقع عليه الاسترقاق.

وعمد الإسلام لتكثير أسباب العتق، كالزكاة، كفارة القتل، الظهار، الثمن، الإفطار دون عذر في رمضان.. ومن أضر خادمه أعتق، قال، صلى الله عليه وسلم: “من ضرب غلاما له أو لطمه فإن كفارته أن يعتقه”، وتكررت الوصاية بالإحسان للرقاب وما ملكت اليمين كثيرا في القرآن، وجعل العتق من أفضل القربات إلى الله، “وما أدراك ما العقبة فك رقبة”. وأوصى النبي، صلى الله عليه وسلم، بأخوتهم وإطعامهم وإلباسهم من هم تحت يده، وعدم تكليفهم ما لا يطاق من العمل وإعانتهم عليه.

وكان إبقاء حكم الاسترقاق بسبب الأسر في الحرب لازما لإقامة الدولة الإسلامية وضربا من الاستعداد لأمنها، ومن استقراء تصرفات الشريعة في أحوال الرقيق وإعتاقهم، استخلص الفقهاء قاعدة “أن الشارع يتشوف للحرية”.

راجع بالخصوص: العلامة محمد الطاهر ابن عاشور، أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، الشركة التونسية للتوزيع. ط2، 1985، ص166-169.

[4]. لم تعرف كلمة مفردة في العربية تدل على هذا المعنى، وإذا لم يرد إطلاق ما تشتق منه كلمة الحرية على معناها الحديث بعينه، فقد ورد إطلاق مادتها على السلامة من العيوب والنقص المعتبرين من صفات قرنت بالعبيد، كالذل والخساسة والكسل. ضدا على صفات الأحرار المتسمة بالكمال. ففي الحديث “تعس عبد الدينار وعبد الدرهم، وتعس عبد القطيفة الذي إذا أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض” وقال حاتم الطائي: “وإني لعبد الضيف مادام ثاويا وما في إلا ذاك من شيمة العبد.” وقد أفصح عن هذا التقابل سحيم عبد بني الحسحاس قال: “إن كنت عبدا فنفسي حرة كرما أو أسود اللون إني أبيض الخلق.” فجعل الحر مؤذنا بصفات الكمال والمكارم، قال مخيس بن أرطأة التميمي: “فقلت له تجنب كل شيء يعاب عليك إن الحُرّ حُرُّ.” وللتفصيل أكثر راجع، العلامة محمد الطاهر ابن عاشور، أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، م، س، ص161-164.

[5]. العلامة محمد الطاهر ابن عاشور. م، س، ص160.

[6]. المرجع نفسه، ص162.

[7]. كتعارض المصالح، أو تغليب إحدى المنفعتين، أو الكف عن ما يسوء الآخر فيترك ما يريد لما يريد، وإما عرض قهري إذا صرفه عن إرادته مشيئة غيره، وبالتالي تضيق حريته. العلامة محمد الطاهر ابن عاشور، م، س، ص162.

[8]. حورية يونس الخطيب، الإسلام ومفهوم الحرية، قبرص: دار الملتقى للطباعة والنشر، ط1، 1993، ص16.

[9]. الدريني محمد فتحي، خصائص التشريع الإسلامي في السياسة والحكم، بيروت: مؤسسة الرسالة، طبعة 1987، ص404.

[10]. علال الفاسي، مقاصد الشريعة الإسلامية، مطبعة النجاح، الجديدة البيضاء، ط4، 1991، ص247.

أما ذ. حسن الترابي، فيذهب إلى أن: “قدر الإنسان الذي تميز عن كل مخلوق سواه، فسجد لله طوعا؛ إذ لم يجعل الله في تركيبه ما يجبره على الإيمان، ولا سمح له أن يجبر غيره عليه. إن الحرية ليست غاية، بل وسيلة للعبادة، والأخيرة لا تثير شعورا بالمجانبة؛ لأن المؤمن يعبد الله بدافع المحبة والإجلال واستشعار النعمة الدافعة للشكر، الشيء الذي يجعل الحرية الوسيلة والثمرة لعبادة الله. ولئن كانت في وجهها القانوني إباحة فإنها في وجهها الديني طريق لعبادة الله. فواجب للإنسان أن يتحرر لربه، مخلصا في اتخاذ رأيه ومواقفه، وهذه الحرية في التصور الإسلامي مطلقة؛ لأنها سعي لا ينقطع نحو المطلق (…)، كلما زاد إخلاصا في الحرية زاد تحررا من كل مخلوق في الطبيعة (…) وحقق أقدارا أكبر من درجات الكمال الإنساني.”

[11]. تعريف جابر بن حيان الكوفي (توفي 815ﻫ) بأنها: إرادة تقدمتها رؤية مع تمييز. وقال أبو حامد الغزالي محمد بن محمد بن محمد (450-505ﻫ) بأن: الحر من يصدر منه الفعل مع الإرادة للفعل على سبيل الاختيار، على العلم بالمراد. وعرفها الدكتور زكريا إبراهيم بأنها: تلك الملكة الخاصة التي تميز الكائن الحر الناطق من حيث هو موجود عاقل يصدر أفعاله عن إرادته هو، لا عن إرادة أخرى غريبة عنه، فالحرية بحسب معناها (الاشتقاقي) هي انعدام القسر الخارجي. ويرى الشيخ أبو زهرة محمد بن احمد بن مصطفى (1898-1974م): أن الحر حقا هو الشخص الذي تتجلى فيه المعاني الإنسانية العالية، الذي يعلو بنفسه عن سفاسف الأمور، ويتجه إلى معاليها ويضبط نفسه، فلا تنطلق أهواؤه ولا يكون عبدا لشهوة معينة، بل يكون سيد نفسه، فالحر من يبتدئ بالسيادة على نفسه، ومتى ساد نفسه وانضبطت أهواؤه وأحاسيسه يكون حرا بلا ريب.

أنظر: د. نعمان عبد الرزاق السامرائي، النظام السياسي في الإسلام، مكتبة الملك فهد الوطنية الرياض، ط1، 1999، ص175-176.

[12]. “..يبدو أن الجهود الفكرية الإسلامية التي بذلت وتبذل في دراسة وبلورة “حقوق” الإنسان في الإسلام، رغم تحليها بفضيلة إبراز الذاتية الإسلامية المتميزة في هذا الميدان، وهذا ما نعتقده ونعتقد أهميته، نراها قد تبنت ذات المصطلح الذي وضعه الأوربيون لهذا المبحث، “الحقوق”، على حين أننا نجد الإسلام قد بلغ في الإيمان بالإنسان، وفي تقديس “حقوقه” إلى الحد الذي تجاوز بها مرتبة “الحقوق” عندما اعتبرها “ضرورات” ومن ثم إدخالها في إطار “الواجبات”!!.. فالحرية في الفكر والاعتقاد والتعبير.. والعلم والتعليم، والمشاركة في صياغة النظام العامة للمجتمع والمراقبة والمحاسبة لأولياء الأمور.. والثورة لتغيير نظم الضعف أو الجور والفسق والفساد.. الخ. في نظر الإسلام ليست فقط “حقوقا” من حقه أن يطلبها.. إنما “ضرورات واجبة” لهذا الإنسان.. بل إنها “واجبات” عليه أيضا!!..”

د. محمد عمارة، الإسلام وحقوق الإنسان، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، عدد 89، مايو 1985، ص14، 15.

[13]. وإن لم يوجد في الإسلام مصطلح “الحرية”، فإنه مليء بمعانيها وبالقواعد المؤسسة لها، وبالقيم والتوجيهات الداعمة للحرية. والدليل قصة خلق آدم كما يحكيها القرآن الكريم، وتلك العناية والحفاوة البالغة التي أحيطت بها هذه الواقعة وهذا المخلوق. ولم تقف الحفاوة عند هذا الإعلان الإلهي الجليل، ولا عند تسمية هذا المخلوق خليفة، ولا عند تصويره وتسويته بيد العناية الربانية، ولا عند النفخ فيه من روح الله تبارك وتعالى، ولا عند إسجاد الملائكة له وهم عباد بررة مكرمون، بل امتدت وسمت إلى حد إسكانه الجنة وإطلاق يده وحريته فيها، دون أن يكون قد فعل ما يستحق به شيئاً من هذا كله. وهكذا خلق الإنسان أول ما خلق عزيزاً كريماً، وحراً طليقاً ﴿يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا﴾ (البقرة: 34) ولم يكن مع هذه الحرية المطلقة ومع هذه الإباحة الشاملة سوى استثناء رمزي، لا تعدو نسبته إلى الجنة وما فيها، أن تكون كقطرة في بحر أو حبة رمل في صحراء. ﴿وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ (البقرة: 34). وإذا كانت الأخطاء وعوارض أخرى متعددة قد غيرّت وتُغَيَّر من وضعيَّة الإنسان وتَحُدُّ من حركته وحريته، فإنها لا يمكن أن تغيّر من أصله وجوهره. فكرامة الإنسان وحريته هي أصله والأصل فيه. وهذا هو المعنى الذي ما فتئ العلماء والمفكرون ينصون عليه ويعبرون عنه، كل بطريقته وعبارته.

أنظر: د. أحمد الريسوني، الحرية في الإسلام أصالتها وأصولها، مجلة إسلامية المعرفة، عدد 31-32، شتاء 2002 وربيع 2003. المعهد العالي للفكر الإسلامي، ص10، 11.

[14]. حورية يونس الخطيب، الإسلام ومفهوم الحرية، م، س، ص27.

[15]. المرجع نفسه، ص44.

[16]. المرجع نفسه، ص45.

[17]. ولله في هذه الآية نوعان من التصرف: الأول: خاص بالسنن والنواميس في الكون وموجوداته، والإنسان خلقا وتكوينا، ومن ذلك سنة الفطرة الإنسانية، وسنة التكليف والابتلاء، وقانون السببية. وهي سنن عامة ثابتة لم تتعلق مشيئة الله وإرادته بنقضها أو تبديلها. مثل قوله: ﴿ولو شاء الله لجمعهم على الهدى، فلا تكونن من الجاهلين﴾ (الانعام: 35). والثاني: تصرف الله في التكليف أمرا ونهيا، تشريعا وتوجيها، والإنسان محور التكليف بما فطر عليه من العقل، الاستطاعة، والإرادة، ولا يتوجه له تكليف إلا بتوافرها جميعا.

راجع: الدريني محمد فتحي، خصائص التشريع الإسلامي في السياسة والحكم، م، س، ص144-148.

[18]. للتعمق أكثر بخصوص المسؤولية وشروط التكليف في الفلسفة الإسلامية، راجع: د. سامي نصر لطف، الحرية المسئولة في الفكر الفلسفي الإسلامي، مكتبة الحرية الحديثة، جامعة عين شمس، مصر، ط 1977، ص305-320.

[19]. حورية يونس الخطيب، م، س، ص52.

[20]. عباس محمود العقاد، الإنسان في القرآن الكريم، دار الإسلام القاهرة. مطبعة دار العلوم، طبعة 1973، ص13، 14.

[21]. المرجع نفسه، ص21-48.

[22]. للتفصيل أكثر، خصوصا في مبحث الدين والعلم، راجع: د. عائشة عبد الرحمان (بنت الشاطئ)، القرآن وقضايا الإنسان. القاهرة: دار المعارف، طبعة 1999، ص205-221.

[23]. لقد كان هذا فهم الإسلام للحرية، وبهذا المنطلق شهدت الأمة الإسلامية أوج عطائها، إبداعها، وازدهارها. لكن السؤال يفرض نفسه، ما معنى أن تزدهر الحضارة الإسلامية في زمن، لتضمحل وتخبوا في زمن آخر؟ وهل ما دفع الأوائل إلى العمل الحر المسؤول لم يعد موجودا الآن؟

طبيعي أن يتعلق الجواب بمحوري الفهم والتطبيق. فالإسلام هو الإسلام، والطبيعة هي الطبيعة، والدافع هو الدافع، والإنسان هو الإنسان. لكن هناك تقصير حادث في أحد المحورين أو في كليهما، فإما ابتعاد عن فهم صحيح للدين، وإما ابتعاد عن نقل الفهم إلى واقع ملموس معيش. أو البعد عن هذا وذاك.

راجع: راشد الغنوشي، الحريات العامة في الدولة الإسلامية، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 1992، ص39، 40.

[24]. قال صلى الله عليه وسلم: “أما إني أصوم وأفطر، وأقوم وأرقد، وأتزوج النساء. فمن رغب عن سنتي فليس مني” رواه البخاري ومسلم.. حورية يونس الخطيب، م، س، ص66.

[25] قال تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ (القصص: 77). وقوله: ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ﴾ (المائدة: 7). وأيضا حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “إن الله تعالى لم يبعثني معنتا ولا متعنتا، وإنما بعثني ميسرا” رواه مسلم.

[26]. د. عبد الحكيم حسن العدلى، الحريات العامة في الفكر والنظام السياسي في الإسلام، دراسة مقارنة، دار الفكر العربي، ط 1983، ص174.

[27]. فقد منع عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، التزوج من الكتابيات في بعض الظروف رعاية للمصلحة العامة، كما حجر على أعلام المهاجرين الخروج من المدينة إلا بإذن، حرصا على إبقاء مشورتهم له. ومنع الناس من أكل اللحوم يومين متتاليين حتى يكون هناك مجال لتداولها بين الناس.

راجع: أبو إسحاق الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، الجزء 1، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 1999، ص185.

أيضا: د. محمد سلام مذكور، نظرية الإباحة عند الأصوليين والفقهاء، دار النهضة العربية، ط1، 1998، ص315.

[28]. راجع: ابن حزم، علي بن أحمد، الإحكام في أصول الأحكام، الجزء الثامن، بيروت: دار الآفاق الجديدة، طبعة 1983، ص13.

ود. أحمد الريسوني، الحرية أصالتها وأصولها، م، س، ص16.

[29]. راجع في هذا الصدد، تفسير الآية 81 من سورة النساء، ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾.

سيد قطب، في ظلال القرآن، الجزء الثاني، بيروت: دار الشروق، طبعة سنة 1982، ص721.

[30]. للتفصيل في مبحث التعارض والترجيح، أنظر

أبو حامد محمد بن محمد الغزالي، المستصفى من علم الأصول، الجزء الثاني، مؤسسة الرسالة، بيروت، طبعة 1997، ص 472.

عبد العزيز بن أحمد البخاري، كشف الأسرار، الجزء الرابع، بيروت: دار الكتاب العربي، طبعة 1994، ص89.

[31]. الحرية والمقدس، ص27.

[32]. محمد الطاهر بن عاشور، أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، م، س، ص163.

[33]. ويضيف أنها هي القضية التي يعرضها جون ديوي كما يلي: “كانت فكرة الحرية مرتبطة في تقاليد مذهب الأحرار، عند كل من الأمريكيين والإنجليز، بفكرة “الفردية”؛ أي بالفرد نفسه من حيث هو فرد. وكان هذا الارتباط وثيقاً وكثير الورود على الألسنة، حتى خاله الناس أمراً ذاتياً أصلياً. فكان الكثيرون يدهشون إذا ما سمعوا بأن أحداً يزعم أن للحرية مصدراً آخر وأساساً آخر غير طبيعة هذه الفردية نفسها. ومع ذلك فقد كان المأثور عند الأحرار في القارة الأوروبية، أن فكرة الحرية إنما ترتبط بناحية العقل والاستدلال. فالأحرار عندهم هم الذين يوجهون سلوكهم ويسيرون أمورهم بحسب ما يمليه عليهم العقل وحده، أما أولئك الذين يتبعون هواهم ويجرون وراء شهواتهم وحسهم، فمحكومون بهذا الهوى وبتلك الشهوات والحواس، فهم ليسوا بأحرار” د. أحمد الريسوني، الحرية أصالتها وأصولها، م، س، ص12.

[34]. قد سبق التطرق لذلك في هامش الصفحة 16.

[35]. د. أحمد الريسوني، م، س، ص13.

[36]. د. عزت قرني، العدالة والحرية في فجر النهضة العربية الحديثة، سلسلة عالم المعرفة، عدد 30، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، يونيو 1980، ص165.

[37]. المناقشة عن الحق في استعماله الضيق والموسع، وحول حقوق الإنسان والحريات العامة، وكونها حقوقا بالمعنى الدقيق أو بالمعنى المجازي، وحول تسميتها حقوقا، رخصا، أو إباحات. وحول فكرة ارتباط الحق بالواجب، تؤدي إلى اعتراض جمهور من الفقهاء على إضفاء اسم الحق على الحريات العامة، إنما ينصرف إلى الخلط بينها وبين الحق القانوني الذي يقوم على عناصر تميزه عن فئات أخرى من الحقوق، تقوم على قوانين أخلاقية أو طبيعية، وأن استعمال الحق يصدق على كلا الصنفين من الحقوق.

أما مصطلح الحق في الفقه الإسلامي، فله معان متعددة، تجد التكاليف الشرعية لها مكانا في تلك الدلالات، حين تقسم لحقوق الله، حق الفرد، وما اختلف في كونه حقا لله أو الفرد. أو حقوق عامة وخاصة. ما يجعل الحق في الفقه الإسلامي ذا معنى شامل يدخل فيه معنى الحرية، فقد يعنى بالحق، الحق المالي، أو حقوق الله، أو الحق الشخصي، أو حرية ما،  لتكون الحريات العامة نوعا من الحقوق. للتفصيل راجع: د. أحمد محمود الخولي، نظرية الحق بين الفقه الإسلامي والقانون الوضعي، سلسلة كتب نظريات الفقه الإسلامي، العدد3، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، القاهرة، ط1، 2003، ص9-30.

[38]. د. عبد الحميد أبو سليمان، الرؤية الحضارية الكونية للقرآن، المنطلق الأساس للإصلاح الإنساني، المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن، دار السلام القاهرة، ط1، 2009، ص 113.

[39]. المرجع نفسه، ص114.

[40]. د. عزت قرني، العدالة والحرية في فجر النهضة العربية الحديثة. م، س، ص158.

[41]. المرجع نفسه، ص28.

[42]. د. رفيق حبيب، المقدس والحرية، القاهرة: دار الشروق، ط1، 1998، ص11.

[43]. المقدسات ليست أفكارا يتم اختبارها علميا، لكونها اختيارا تلقائيا للشعوب، تتولد داخل معظم أفعالها، حتى تصبح فكرة مجردة، يصعب رؤيتها أو رصدها بقدر ما يستنتج وجودها، الذي ينظم حركة الأفراد والجماعات، لتحقيق نتائج نهائية مشتركة، وخلق حالة وجود نموذج حضاري. فمهما كان المقدس معلنا أو ضمنيا، فهو موجود، بمعنى أن هناك مسلمات يقبلها الجميع.

[44]. د. رفيق حبيب، م، س، ص 12، 13.

[45]. إن تجاوز قضية الهوية، يفضي إلى ما هو أخطر؛ لأن الخلاف حول تحديدها، ليس خلافا حول العروبة والإسلام، إنما على الانتماء الحضاري جملة، ما يعني أن هناك خلافا حول القيم الحاكمة للحياة، ومثل هذا الخلاف يعني ضمنيا طرح جملة الوجود التاريخي والجغرافي للتساؤل، ما يتجاوز حدود الخطورة؛ لأن أي مجتمع أو أمة لها تفضيلات وميول تترجم قيمها الممثلة للأفكار المجردة والمرجعية المنشئة لوجودها عموما. وحين تكون القيم محل تساؤل فالمجتمع كله محل ذلك أيضا.

راجع: المرجع نفسه، ص16، 17.

[46]. المرجع نفسه، ص18.

[47]. المرجع نفسه.

[48]. والحاصل من كل ذلك، أن ثوابت المجتمع قيم ومبادئ، اختارها بفعل تطوره التاريخي، وتجاربه، وانتقلت في وعيه الجمعي، حتى أصبحت رصيده التاريخي الذي يحقق به التقدم، يصمد به في وجه الأزمات، ويعزز من تماسكه ووجوده.

[49]. حرية العقيدة تعني: حق الاختيار في تبني الأفكار، المفاهيم، وما ينتهي إليه التفكير، أو يصل إليه بأي وسيلة أخرى، كإيمان بأنها حق، ويكيف حياته النظرية والسلوكية وفقها، دون اضطهاد أو إكراه على ترك هذا الاعتقاد، أو تبني معتقدات مخالفة.

للاستزادة حول المفهوم، راجع: محمود حلمي، نظام الحكم الإسلامي مقارنا بالنظم المعاصرة، بيروت: دار الفكر العربي، ط 1، 1970، ص64.

د. أحمد رشاد طاحون، حرية العقيدة في الشريعة الإسلامية، إيتراك للنشر والتوزيع، القاهرة، ط 1، 1998، ص93.

[50]. حين يستجلي الباحث موقف الإسلام من حرية الاعتقاد، فإنه يظفر بما يشرع لتلك الحرية، كمبدأ يحكم حياة الفرد والمجتمع على السواء، وذلك من تواتر نصوص الكتاب والسنة. لكن، وإن كانت هناك فصول هامة من العمل بذلك في تاريخ المجتمعات الإسلامية، فإن الأخيرة تشهد خروقا كثيرة في وضع هذا المبدأ موضع التطبيق الأمثل وتحكيمه في حياة المجتمع.

[51]. عبد المجيد النجار، حرية التفكير والاعتقاد في المجتمع المسلم: الأبعاد والحدود، مجلة إسلامية المعرفة، م، س، ص28.

[52]. راجع في هذا المعنى، محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، الجزء الثاني، الدار التونسية للنشر، د. ت، ص106.

[53]. اختلفت آراء الباحثين من علماء العقيدة في إيمان الفرد غير الناشئ من تفكير حر، كأن يكون موروثا أو تقليدا، بين من اعتبره إيمانا، وليس بإيمان عند البعض، ومن ذهب كونه إيمانا مع عصيان إن كان صاحبه قادرا على النظر الحر.

عبد المجيد النجار، حرية التفكير والاعتقاد في المجتمع المسلم: الأبعاد والحدود، م، س، ص30.

[54]. المرجع نفسه، ص31.

[55]. وليس للإنسان عذر حين يتخلى عن حريته في التفكير والمعتقد، بسبب تعرضه للتسلط والإغواء؛ لأنه مكن من الحرية تمكينا فطريا وشرعيا ﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ (إبراهيم: 24). راجع بشأن ذلك:

محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، الجزء الثالث عشر، م، س، ص219.

[56]. راشد الغنوشي، الحريات العامة في الدولة الإسلامية، م، س، ص45.

ولم يمنع الإسلام إكراه المسلمين لغيرهم، بل شرع لمنع غير المسلمين من إكراه غيرهم على أي معتقد، ولم تكن الحروب التي خاضها المسلمون اتجاه غيرهم، إلا محاربة للمكرهين غيرهم على معتقد ما، من قبل حكامها وكهانها. وجعلت لهم حرية الاختيار وحفظت لهم ممارسة عقائدهم.

راشد الغنوشي، الحريات العامة في الدولة الإسلامية، م، س، ص45.

وكثيرا ما يثار، من أن المجتمع الإسلامي تفرض فيه الجزية على أصحاب المعتقدات الأحرى، ما يعد ضربا من الحيف بسبب المعتقد. لكن الأمر لا يعدو أن يكون واجبا ماليا، مقابلا للإعفاء من الواجب العسكري في الدفاع عن الدولة، فإذا ما تحملوا واجب الدفاع سقط عنهم الفرض المالي، إذن فلا علاقة له بحيف اجتماعي بسبب المعتقد.

محمد سليم العوا، في النظام السياسي للدولة الإسلامية، بيروت: دار الشروق، طبعة 1989، ص255 وما بعدها.

راجع بهذا الصدد: محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، الجزء الثالث، ص25 وما بعدها.

وأيضا: د. أحمد رشاد طاحون، حرية العقيدة في الشريعة الإسلامية، م، س، ص295-317.

[57]. أبو الأعلى المودودي، نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور، بيروت: دار الفكر، طبعة 1964، ص361.

[58]. عبد المجيد النجار، حرية التفكير والاعتقاد في المجتمع المسلم: الأبعاد والحدود، م، س، ص38.

[59]. كالذين انتحلوا الإسلام في المدينة انتحالا كيديا، يرجفون الأخبار الكاذبة والإشاعات، ولغرض تخذيل المسلمين من الدين والجهاد، قال تعالى: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا﴾ (الأحزاب: 60).

[60]. والردة في الاصطلاح الشرعي: قطع الإسلام بنية أو قول كفر أو فعل سواء استهزاء أو عناد أو اعتقادا.

راجع، د. أحمد رشاد طاحون، حرية العقيدة في الشريعة الإسلامية، م، س، ص319.

[61]. للتفصيل في الموضوع، أنظر، المرجع نفسه، ص319-388.

[62]. راشد الغنوشي، الحريات العامة في الدولة الإسلامية، م، س، ص48 وما بعدها.

Science
الوسوم

د. طه لحميداني

باحث في العلوم القانونية وعلم السياسية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق