مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات محكمة

المراجعات الفقهية عند الإمام مالك نماذج تطبيقية

تأصيل فقه الرجوع في الفقه الإسلامي

الأصل في رجوع المجتهد عن اجتهاده، أو المفتي عن فتواه، أو القاضي عن قضائه ما رواه أبو داود من حديث أبيض بن حمال أنه وفد إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فاستقطعه الملح الذي بمأرب، فقطعه له، فلما أن ولى قال رجل من المجلس: أتدري ما قطعت له، إنما قطعت له الماء العِدّ[7]،قال فانتزع منه، قال وسأله عما يحمي من الأراك، قال:ما لم تنله أخفاف الإبل[8]. قال الخطابي: “فيه من الفقه أن الحاكم إذا تبين الخطأ في حكمه نقضه وصار إلى ما استبان من الصواب في الحكم الثاني”[9].

وقال أبو عبيد القاسم بن سلام- مبينا ما في الحديث من الفقه:

 “وفي الحديث من الفقه أن النبي – صلى الله عليه وسلم –أقطع القطائع …وفيه أنه حكم بشيء ثم رجع عنه، وهذا حجة للحاكم إذا حكم حكما ثم تبين له أن الحق في غيره أن ينقض حكمه، ويرجع عنه[10].

ومن وصية الخليفة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- قوله لأبي موسى الأشعري:(ولا يمنعنك قضاء قضيت فيه اليوم فراجعت فيه رأيك فهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم ولا يبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل)[11]. قال ابن القيم: (يريد أنك إذا اجتهدت في حكومة، ثم وقعت لك مرّة أخرى فلا يمنعك الاجتهاد الأول  من إعادته، فإن الاجتهاد قد يتغير، ولا يكون الاجتهاد الأول مانعا من العمل بالثاني إذا ظهر أنه الحق، فإن الحق أولى بالإيثار لأنه قديم سابق على الباطل، فإن كان الاجتهاد الأول قد سبق الثاني، والثاني هو الحق، فهو أسبق من الاجتهاد الأول، لأنه قديم  سابق على ما سواه، ولا يبطله وقوع الاجتهاد الأول على خلافه، بل الرجوع إليه أولى من التمادي على الاجتهاد الأول.

قال عبد الرزاق: حدثنا معمر عن سماك بن الفضل عن وهب بن منبه عن الحكم بن مسعود الثقفي  قال: قضى عمر بن الخطاب- رضي الله عنه – في امرأة توفيت، وتركت زوجها، وأمها، وأخويها لأبيها وأمها، وأخويها لأمها، فأشرك عمر بين الإخوة للأم والأب، و الإخوة للأم في الثلث، فقال رجل: إنك لم تشرك بينهم عام كذا وكذا، قال عمر: تلك على ما قضينا يومئذ، وهذه على ما قضينا اليوم، فأخذ أمير المؤمنين في كلا الاجتهادين بما ظهر له أنه الحق، ولم يمنعه القضاء الأول من الرجوع إلى الثاني، ولم ينقض الأول بالثاني، فجرى أئمة الإسلام بعده على هذين الأصلين[12]. وقال الخطيب البغدادي:( إذا أفتى الفقيه رجلا بفتوى، ثم قال له قد رجعت عن فتواي، فإن كان ذلك قبل أن يعمل المستفتي بها كف عنها ….وإن كان رجوع المفتي عن فتواه بعد عمل المستفتي بها نظر في ذلك، فإن كان قد بان للمفتي أنه خالف نص كتاب أو سنة أو إجماعا وجب نقض العمل بها وإبطاله، ولزم المفتي تعريف المستفتي ذلك… وإن كان رجوع المفتي عن قوله الأول من جهة اجتهاد هو أقوى، أو قياس هو أولى، لم ينقض العمل المتقدم، لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد[13].

قال مالك: كان ابن مسعود يسأل بالعراق عن شيء فيقول فيه، ثم يقدم المدينة فيجد الأمر على غير ما قال، فإذا رجع لم يحط راحلته ولم يدخل إلى بيته حتى يرجع إلى ذلك الرجل فيخبره بذلك[14].

وحكى مالك- أيضا- عن ابن هرمز- رحمه الله تعالى -قال: كان ابن هرمز رجلا كنت أحب أن أقتدي به، وكان قليل الكلام، قليل الفتيا، شديد التحفظ، وكان كثيرا ما يفتي الرجل ثم يبعث في أثره من يرده إليه حتى يخبره بغير ما أفتاه[15].

وفي المدونة: (قلت) لابن القاسم هل كان مالك يرى للقاضي إذا قضى بقضية، ثم تبين له أن غير ما قضى به أصوب مما قضى به أن يرد قضيته ويقضى بما رأى بعد ذلك وإن كانت قضيته الأولى مما قد اختلف فيها العلماء ( قال ): إنما قال مالك إذا تبين له أن الحق في غير ما قضى به رجع فيه وإنما الذي لا يرجع فيما قضت به القضاة مما اختلف الناس فيه[16]. وقد وجه الباجي في المنتقى هذا القول فقال: “َذَلِكَ أَنَّ فَتْوَى الْمُفْتِي فِي الْمَسَائِلِ وَكَلَامَهُ عَلَيْهَا وَشَرْحَهُ لَهَا إنَّمَا هُوَ بحَسَبِ مَا يُوَفِّقُهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ وَيُعِينُهُ عَلَيْهِ وَقَدْ يَرَى الصَّوَابَ فِي قَوْلٍ مِنْ الْأَقْوَالِ فِي وَقْتٍ وَيَرَاه خَطَأً فِي وَقْتٍ آخَرَ ،وَلِذَلِكَ يَخْتَلِفُ قَوْلُ الْعَالِمِ الْوَاحِدِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ[17].

الصفحة السابقة 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11الصفحة التالية

الدكتور عبد الله معصر

• رئيس مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوك بالرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. بوركتم، ولو كان هناك محاولة ترجيح في الموضوع لكان أفضل، أقصد من باب الخلاف العالي والله الموفق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق