مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

ثمرات التربية الصوفية وأثرها في حياة الفرد والمجتمع.. ثمرة اكتساب الأخلاق الحميدة (6)

   لا غرو أن التحلي بالأخلاق الفاضلة على المستوى الظاهري والباطني يعد من جملة الثمرات التي تنتجها التربية الصوفية في قلوب السالكين لطريق أهل التصوف بعد أن ترسخت في قلوبهم مجموعة من القيم الجمالية، وانعكست على وجدانهم وأثمرت قيماً أخلاقية حميدة، وأصبحت معاملتهم مع الغير معاملة صالحة طاهرة تطبعها الصداقة وحسن المعاملة. وهذا الأمر ينطبق على ذكره علماء التربية الصوفية ومنهم الإمام الحارث بن أسد المحاسبي وهو يتحدث عن فوائد المجاهدة الباطنية بقوله: (من اجتهد في باطنه ورثه الله حسن المعاملة في ظاهره، ومن حسن معاملته في ظاهره مع جهد باطنه ورثه الله تعالى الهداية إليه)[1].

     فالتربية الصوفية مدرسة لتنوير الوجدان وتحرير القلوب من الغفلة وحفظها من الانجراف وراء غرائز النفس وشهواتها الفانية لتحل محلها القيم الجمالية. وهي كذلك تربية روحية تستهدف مباشرة قلب السالك لطريق أهل التصوف، لأنّ القلب هو محل نظر الله جلت قدرته، وهو منبع الصلاح والفساد في الإنسان، وقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال: (أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ)[2]، وقال جلت قدرته في أهمية صلاح القلب: (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [سورة الشعراء، الآية:88-89]. وقال تقدست أسماؤه: (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) [سورة ق، الآية: 33].

   من هذا المنطلق، جعل الصوفية الأخلاق الفاضلة وحسن المعاملة مع الأفراد قطب رحى انشغالهم، وجعلوها قاعدة مهمة في السلوك العرفاني لا محيد عنها، مقصدهم في ذلك أن تظهر تمرات التربية الباطنية على المريد، وأن يكون صالحاً لنفسه ومع غيره، لذلك قيل: (التصوف خلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في التصوف)[3].

    قدوتهم في ذلك معلم البشرية المزكي والمربي الأول الذي كوّن وربى جيلاً من الصحابة أشرقت في نفوسهم قيم المحبة والتآخي، والذي قال في حقه الله جلت قدرته: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) [سورة الحجر، الآية: 87]. وقال عز من قال: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ]القلم: 4]. وكان دعائه صلى الله عليه وسلم: (الَّلهُمَّ كَمَا حَسَّنتَ خَلْقِي فَحَسِّن خُلُقِي)[4].

   فالأخلاق الحسنة هي من الأسباب الجوهرية التي تنظم العلاقات بين الأفراد وتهذّب السلوك الوجداني وتساهم في تماسك أفراد المجتمع وترسخ فيهم سبل السلام والتعايش السلمي ونبذ كل الصرعات والتفرقة والشتات. التي تتخبط فيها معظم المجتمعات الانسانية بفعل بعدها عن روح وجوهر الدين الاسلامي الحنيف، الذي جاء ليطهر القلوب ويصلح النفوس ويرشدها إلى حضرة علام الغيوب.

   ولما كانت الاخلاق الإنسانية تلعب دوراً مهماً في حياة الأفراد والمجتمعات، فإن فالتربية الصوفية هي منبع للقيم الاخلاقية الجمالية التي تغدي الروح وتنمي فيه قيم المحبة والرحمة والتعاون، وتقوي الفرد على كبح جماح النفس وكسر قيودها ووضع حدود لشهواتها، وتدعم الاخلاق الحسنة حياة الفرد وحياة الآخرين وتطورها نحو الأفضل أما السلوك غير الأخلاقي فإنه يهدم هذه القيم ويزعزعها ويمنع من التقدم والتطور الحضاري والعيش الآمن والاستقرار والثبات على ثوابت الأمة.

   وعلى هذا الاساس يمكن القول بأن التصوف الاسلامي في حقيقته يدعو إلى الغوص في جوهر الدين الاسلامي الذي هو منبع للقيم ومظهر من مظاهر الرقي الروحي. وهو الطريق الموصل إلى التقوى وتزكية القلوب والسمو الأخلاقي والتحلي بالفضائل الروحية والأخلاقية، وقد سئل أبو محمد الجريري عن التصوف، فقال: (الدخول في كل خُلُق سني والخروج من كل خُلُق دنيّ)[5]. وقد سئل الجنيد رحمه الله عن التصوف فقال: (استعمال كل خلق سَنِيٍّ، وَتَرْكُ كُلِّ خُلُقٍ دَنِيٍّ) [6]. وقال العارف أبو إسماعيل الهروي في منازل السائرين: (وإذا كانت الغاية من البعثة المحمدية تتميم مكارم الأخلاق، وتتميمها هو غاية علم التصوف التي لا تتحقق إلا بالمراقبة والمحاسبة، فالتصوف على ذلك هو روح الإسلام).. [7].

أدلة وجوب التعامل الاخلاقي في القرآن الكريم

  وقد أرسى الإسلام دعائم وأصول التعامل الأخلاقي في جملة من الآيات القرآنية الكريمة ومنها قوله تعالى: واصفا نبيه الكريم بالمثل الأعلى في التعامل الأخلاقي ومن ذلك قوله جلت قدرته: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [سورة القلم، الآية: 34].

 قوله تعالى: (وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ) [سورة آل عمران:79].

   قال الإسماعيلي: (منسوب إلى الرب كأنّه الذي يقصد قصد ما أمره الرب، وقال أحمد بن يحيى: إنما قيل للعلماء: الربانيون؛ لأنّهم يربون العلم، أي: يقومون به، وقيل: لأنهم أصحاب العلم وأربابه، وزيدت الألف والنون للمبالغة. وقيل: أصله من رب الشيء إِذَا ساسه وقام به ثمَّ زيد ياءً وقيل: من معنى التربية، كانوا يربون المتعلمين بصغار العلم قبل كباره وهو ما حكاه البخاري، وقال ابن الأعرابي: لا يقال للعالم رباني حتَّى يكون عاملًا معلماً، وقيل: هو العالي الدرجة في العلم)[8].

وقوله جلت قدرته: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) [سورة البقرة، الآية: 83].

وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) [سورة البقرة، الآية: 208].

  وفي هذه الآية دعوة صريحة إلى أهمية السلم والتسامح وتجنب الفرقة والشتات، قيل: (ادخلوا في الإسلام إلى منتهى شرائعه كافين عن المجاوزة إلى غيره وأصل السلم من الاستسلام والانقياد ولذلك قيل للصلح سلم)[9].

وقال عز من قال: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) [سورة الأنفال، الآية: 61].

وقال تقدست أسماؤه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [سورة الحجرات، الآية: 13].

  جاءت هذه الآية الكريمة لتحث الناس على فضيلة التعارف بين مختلف الشعوب وإحياء الروابط الإنسانية بغض النظر عن العرق والنسب واللون، وذلك من أجل زرع أواصر المحبة بين الناس وتنميتها في نفوسهم، وتقوية التعاون في ما بينهم، وكل هذه القيم هي السبيل الأمثل لتحقيق مجتمع فاضل متماسك قوي البنيان يشد بعضه بعضاً.

أدلة وجوب التعامل الاخلاقي في السنة المطهرة

  وفي السنة النبوية دعوة صريحة إلى أهمية طهارة القلوب وتخليصها من الأمراض القلبية التي تنشر المعاملات غير الاخلاقية ومن هذه الأحاديث: ما رواه أبو الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مَا مِنْ شَيْءٍ أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ)[10].

    روى الترمذي عن أنس بن مالك قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يَا بُنَيَّ، إِنْ قَدَرْتَ أَنْ تُصْبِحَ وَتُمْسِيَ لَيْسَ فِي قَلْبِكَ غِشٌّ لِأَحَدٍ فَافْعَلْ: ثُمَّ قَالَ لِي: يَا بُنَيَّ وَذَلِكَ مِنْ سُنَّتِي، وَمَنْ أَحْيَا سُنَّتِي فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَحَبَّنِي كَانَ مَعِي فِي الجَنَّةِ)[11].

  وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَق) [12].

   وعن جابر رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِساً يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقاً، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ، الْمُتَشَدِّقُونَ، الْمُتَفَيْهِقُونَ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ، فَمَا الْمُتَفَيْهِقُونَ؟ قَالَ: الْمُتَكَبِّرُونَ وَالثَّرْثَارُ: هُوَ المِكْثار من الحديث. وَالْمُتَشَدِّقُ: المتطاول عَلَى النَّاسِ فِي الْكَلَامِ) [13].

 وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الجَنَّةَ، فَقَالَ: تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الخُلُقِ)[14].

  وقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذًا بوصية جامعة لمحاسن الأخلاق، فقال له: (يَا مُعَاذُ أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَوَفَاءِ الْعَهْدِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَتَرْكِ الْخِيَانَةِ، وَرَحْمَةِ الْيَتِيمِ، وَحِفْظِ الْجِوَارِ، وَكَظْمِ الْغَيْظِ، وَلِينِ الْكَلَامِ، وَبَذْلِ السَّلَامِ، وَلُزُومِ الْإِمَامِ، وَالتَّفَقُّهِ فِي الْقُرْآنِ، وَحُبِّ الْآخِرَةِ، وَالْجَزَعِ مِنَ الْحِسَابِ، وَقِصَرِ الْأَمَلِ، وَحُسْنِ الْعَمَلِ، وَأَنْهَاكَ أَنْ تَشْتُمَ مُسْلِمًا، أَوْ تُصَدِّقَ كَاذِبًا، أَوْ تُكَذِّبَ صَادِقًا، أَوْ تَعْصِي إِمَامًا عَادِلًا، وَأَنْ تُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ، يَا مُعَاذُ اذْكُرِ اللَّهَ عِنْدَ كُلِّ شَجَرٍ وَحَجَرٍ، وَأَحْدِثْ لِكُلِّ ذَنْبٍ تَوْبَةً، السِّرُّ بِالسِّرِّ، وَالْعَلَانِيَةُ بِالْعَلَانِيَةِ)[15].

وعن أبي الدرداء رضي الله قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (مَا مِنْ شَىْءٍ يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ، وَإِنَّ صَاحِبَ حُسْنِ الْخُلُقِ لَيَبْلُغُ بِهِ دَرَجَةَ صَاحِبِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ) [16].

   ونخلص في هذا المضمار إلى أن الأخلاق الفاضلة عند الصوفية وغيرهم أمر ضروري وحتمي في بنية النسق التربوي الذي ينبغي لكل مسلم أن يلتزم به في حياته الاجتماعية، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي يعد المثل الأعلى في حسن المعاملة الأخلاقية.

أقوال علماء التربية الصوفية في أهمية التعامل الاخلاقي

  تعددت أقوال العلماء في حديثهم عن أهمية الأخلاق في حياة الفرد وفي صلاح المجتمعات، ومن ذلك ما قاله ابن قيم الجوزية: (أنّ الدين كله خلق فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين وكذلك التصوف)[17]، وقيل كذلك بأن التصوف هو: (الوقوف مع الآداب الشرعية ظاهراً وباطناً، وهي الخلق الإلهية) [18]، وقيل كذلك بأنّ التصوف هو: (الدخول في كل خلق سني والخروج عن كل خلق دني)[19].

ويقول الإمام الجنيد البغدادي عندما عرف التصوف وربطه بالأخلاق: (الْخُرُوجُ عَنْ كُلِّ خُلُقٍ دَنِيٍّ، وَالدُّخُولُ فِي كُلِّ خُلُقٍ سُنِّيٍّ) [20]. وقيل: (من زاد عليك في الخلق، فقد زاد عليك في التصوف) [21].

 وقال سيدي أبي مدين الغوث رحمه الله: (حُسن الخُلق، معاشرة كل شخص بما يؤنسه ولا يوحشه مع العلماء، وبحسن الاستماع والافتقار، ومع أهل المعرفة بالسكون والانتظار، ومع أهل المقامات بالتوحيد والانكسار. [22].

صفات أخلاق الصوفية

     ذكر علماء التربية الصوفية مجموعة من المكارم الأخلاقية التي ميزت الصوفية الذين تربت نفوسهم وتطهرت قلوبهم، وتحلت قلوبهم بأخلاق الإيمان، فأخلاقهم ما هي إلا صور مضيئة من أخلاق سيد الوجود المصطفى عليه الصلاة والسلام الذي وصفه الله عز وجل بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [سورة القلم، الآية: 4].

     ولا يمكن الوصول إلى هذه المرتبة إلا بصحبة الصالحين، كما أن جوهر ولب التصوف وحقيقته هو اكتساب الأخلاق الفاضلة، ولذلك قال ابن القيم: (اجتمعت كلمة الناطقين في هذا العلم على أن التصوف هو الخلق) [23].

    وخير دليل على ذلك جملة من الثمرات التي تجسدت وظهرت في معاملاتهم رضي الله عنهم مع الحق سبحانه وتعالى وفي معاملاتهم مع الناس ومن جملتها نذكر على سبيل المثال:

 أنهم يشتغلون بعيوب أنفسهم ويتجنبون أعراض الناس وفضح عوراتهم

   فالسالكون لطريق أهل التصوف يراقبون الله في كل تصرفاتهم وأفعالهم ويتشوفون إلى الاشتغال بعيوبه أنفسهم فيعملون على طهارة قلوبهم لأن اشتغالهم بعيوب الناس يمنعهم من الوصول إلى حضرة الله، ويطيل سيرهم نحو طهارة قلوبهم، وقيل كذلك: (طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس)[24]. ويقول ابن عطاء الله السكندري: (تشوفك إلى ما بطن فيك من العيوب خير من تشوفك إلى ما حُجب عنك من الغيوب)[25].

1 2الصفحة التالية
Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق