مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

ثمرات التربية الصوفية وأثرها في حياة الفرد والمجتمع .. ثمرة الورع (5)

    لا غرو أن الورع مقام من مقامات التصوف، وعمل من أعمال القلوب الموصلة إلى حضرة علام الغيوب، وهو من جملة الثمرات التي تنتجها التربية الصوفية في القلوب، وصفة جامعة لمكارم الاخلاق ومحاسنها الزكية، وحقيقته الكف عن محارم الله جلت قدرته والتحرج منها والالتزام بأكل الحلال، والصفح عن عثرات وعيوب الخلق أجمع، والتماس العذر لهم، ومعاملتهم معاملة أخلاقية طيبة. ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (كنا ندع تسعة أعشار الحلال مخافة أن نقع في الحرام)[1]، وقال أبو الدرداء: (إن من تمام التقوى أن يتقي العبد في مثال ذرة حتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراما حتى يكون حجابا بينه وبين النار) [2].

    وإذا تحلّى المجتمع وتحقق أفراده بثمرة الورع، فإن في ذلك نفع كبير وخير عميم لصلاحه وتقدمه وازدهاره، وتوفر أفضل الأجواء والسبل الممكنة لتكامل بنيانه، فالورع يطهر معاملات الافراد من مختلف الأمراض القلبية التي هي سبب في تشتت أواصر المجتمعات وتفرقها وتدهورها، وخير نموذج يقتدى به في فضيلة وقيمة الورع، هو النبي صلى الله عليه وسلم، الذي يعد المنهاج الأعلى للحياة الإنسانيّة في جميع أطوارها؛ فقد روي أنه وجد تمرة في الطريق فقال: (لَوْلَا أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ لَأَكَلْتُهَا) [3]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إِنِّي لَأَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِي، فَأَجِدُ التَّمْرَةَ سَاقِطَةً عَلَى فِرَاشِي، فَأَرْفَعُهَا لِآكُلَهَا، ثُمَّ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً فَأُلْقِيهَا) [4]، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه أصابه أرق من الليل، فقال له بعض نسائه: (إِنِّي وَجَدْتُ تَحْتَ جَنْبِي تَمْرَةً، فَأَكَلْتُهَا، وَكَانَ عِنْدَنَا تَمْرٌ مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ، فَخَشِيتُ أَنْ تَكُونَ مِنْهُ) [5].

   والورع من صفاة الذاكرين لله المقبلين على الله بصدق النية وطهارة السر، وسمة من سماتهم التقية الزكية، مُستقر في وجدانهم ومنغرس في طبعهم واتخذوه نهجهاً في معاملاتهم وتصرفاتهم، به يخشون ربهم ويتوخون الحذر من كل عمل سيسقطهم في غضبه وسخطه، ويتحرّون الطيب في قولهم وعملهم، وهم بذلك يرجون ثوابه وفضله وإحسانه وكرمه، قال الحسن رحمه الله: (ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيراً من الحلال مخافة الحرام)[6]، وقال ميمون بن مهران: (لا يسلم للرجل الحلال حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزاً من الحلال، حاجزاً من الحلال بينه وبين الحرام)[7]، وقال بعض الصحابة رضوان الله عليهم: (كنا ندع سبعين باباً من الحلال؛ مخافة أن نقع في بابٍ من الحرام) [8].

  والتحقق بمقام الورع يستوجب محاسبة النفس، ودوام مراقبة الله تعالى في جميع شؤون الحياة، قال ابن القيم: (الخوف يثمر الورع والاستعانة وقصر الأمل) [9]، ويستوجب كذلك خلو القلب من الأمراض الباطنية التي تسقط العبد في المحرمات والشهوات النفسية، وتمنعه من الوصول إلى حضرة الله سالم القلب، لذلك قيل: (من لم ينظر في الدقيق من الورع، لم يصل إلى الجليل من العطاء)[10].

1-1. ماهية الورع عند علماء التربية الصوفية

   تنوعت التعاريف التي وضعها العلماء حول حقيقة وماهية الورع ومنهم الشيخ أبو الحسن الشاذلي الذي قال: (وحقيقة الورع إمساك العين عن التلذذ بالزهرات، والنفس عن الشهوات، والقلب عن الغفلات، والروح عن العثرات، والسر عن الالتفات)[11]. والامام ابن القيم الذي قال: (الورع هو ترك ما يخشى ضرره في الآخرة)[12]، وقيل: (الورع يطهر دنس القلب ونجاساته كما يطهر الماء دنس الثوب ونجاسته)[13] .

  وقال شيخ الإسلام: (فأما الورع المشروع المستحب الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم, فهو اتقاء ما يخاف أن يكون سبباً للذم والعذاب عند عدم المعارض الراجح، ويدخل في ذلك أداء الواجبات والمشتبهات التي تشبه الواجب، وترك المحرمات والمشتبهات التي تشبه الحرام، وإن أدخلت فيه المكروهات قلت: يخاف أن تكون سبباً للنقص والعذاب، وأما الورع الواجب فهو اتقاء ما يكون سبباً للذم والعذاب، وهو فعل الواجب وترك المحرم)[14].

وقال يونس بن عبيد: (الورع الخروج من كل شبهة ومحاسبة النفس في كل طرفة)[15].

وقال معروف الكرخي: (احفظ لسانك من المدح كما تحفظه من الذم)[16].

وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله : (هو ترك كل شبهة) [17].

وقال يحيى بن معاذ: الورع على وجهين: (ورع في الظاهر وورع في الباطن. فورع الظاهر: أن لا يتحرك الإنسان إلا لله، وورع الباطن: هو أن لا تدخل قلبك سوى الله)[18].

وقال أبو سليمان الداراني: (الورع أول الزهد كما أن القناعة أول الرضا)[19].

أما المحاسبي فقد سلك طريق التزكية في تعريف الورع فقال: (المجانبة لكل ما كره الله عز وجل من مقال أو فعل بقلب أو جارحة والحذر من تضييع ما فرض الله عز وجل عليه في قلب أو جارحة) [20].

2-1. أدلة الورع في الكتاب

   قال عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُومِنُونَ) [سورة المائدة، الآية: 87].

   قال الله تعالى: (قُل هَل نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعمالًا الَّذينَ ضَلَّ سَعيُهُم فِي الحَياةِ الدُّنيا وَهُم يَحسَبونَ أَنَّهُم يُحسِنونَ صُنعاً) [سورة الكهف، الآية: 103].

  وقال جلت قدرته: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ) [سورة النور، الآية: 15].

3-1. أدلة الورع في السنة النبوية

   في السنة النبوية جملة من الأحاديث تحت على أهمية الورع في الدنيا وتبين في ذات الوقت هدي النبي صلى الله عليه وسلم للأمة في الورع باعتباره مقاماً مهماً في صلاح الاعمال، وبه ينجوا العبد من آفات كثيرة، ومن هذه الأحاديث أذكر ما يلي:

  فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، كُنْ وَرِعًا تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَكُنْ قَنِعًا تَكُنْ أَشْكَرَ النَّاسِ، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُؤْمِناً، وَأَحْسِنْ مُجَاوَرَةَ مَنْ جَاوَرَكَ تَكُنْ مُسْلِماً، وَأَقِلَّ الضَّحِكَ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ) [21].

  عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكَهُ مَا لَا يَعْنِيهِ)[22].

  وعن عطية السعدي رضي الله عنه أنه قال، قال النبيّ صلى اللَّه عليه وسلم: (لا يَبْلُغُ العَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ المُتَّقِينَ حتَّى يَدع ما لا بَأْسَ بِهِ ‌حَذراً ‌لِمَا ‌بِهِ ‌بَأْسٌ) [23].

   وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ. فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا. فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟ قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ. يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ؟ مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مني) [24].

وعن النَّوَّاسِ بنِ سَمعانَ، عن النبيِّ ﷺ قَالَ: (البِرُّ حُسْنُ الخُلُقِ، وَالإِثْمُ مَا حاكَ فِي نفْسِكَ، وكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ)[25].

وورد في الحديث: (يَا أَبَا هُرَيْرَةَ كُنْ وَرِعاً تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ تَكُنْ مِنْ أَغْنَى النَّاسِ وَأَحِبَّ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ وَأَهْلِ بَيْتِكَ وَاكْرَهْ لَهُمْ مَا تَكْرَهُ لِنَفْسِكَ وَأَهْلِ بَيْتِكَ تَكُنْ مُؤْمناً وَجَاوِرْ مَنْ جَاوَرْتَ مِنَ النَّاسِ بِإِحْسَانٍ تَكُنْ مُسْلِمًا وَإِيَّاكَ وَكَثْرَةَ الضَّحِكِ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ فَسَادُ الْقَلْبِ) [26].

    عن عون بن عبد الله بن عتبة عن جرير البجليّ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَقَامَ سِلْعَةً بَصَّرَ عُيُوبَهَا ثُمَّ خَيَّرَهُ فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ فَخُذْ، وَإِنْ شِئْتَ فَاتْرُكْ، فَقِيلَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللهُ إِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ هَذَا لَمْ يَنْفُذْ لَكَ الْبَيْعُ، فَقَالَ: إِنَّا بَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النُّصْحِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ) [27].

  وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنَّ الحَلَالَ بَيِّنٌ وإنَّ الحَرَامَ بَيِّنٌ، وبَينَهُما أُمُورٌ مُشتَبهاتٌ، لا يَعْلَمُهنَّ كثيرٌ مِن النَّاسِ، فمَن اتَّقى الشُّبهاتِ استبرأ لِدينِهِ وعِرضِه، ومَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهاتِ وَقَعَ في الحَرَام، كالرَّاعِي يَرعَى حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أنْ يَرتَعَ فِيهِ، ألا وإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمىً، ألا وإنَّ حِمَى اللهِ محارِمُهُ، ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضغَةً إذا صلَحَتْ صلَحَ الجَسَدُ كلُّه، وإذَا فَسَدَت فسَدَ الجَسَدُ كلُّه، ألا وهِيَ القَلبُ) [28].

   قال ابن دقيق العيد: (وقد اختلف العلماء في المشتبهات التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث فقالت طائفة: هي حرام لقوله: (استبرأ لدينه وعرضه) قالوا: ومن لم يستبرئ لدينه وعرضه فقد وقع في الحرام، وقال الآخرون: هي حلال، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: (كالراعي يرعى حول الحمى) فيدل على أن ذلك حلال وأن تركه ورع.

   وقالت طائفة أخرى: المشتبهات المذكور في هذا الحديث لا نقول إنها حلال ولا إنها حرام فإنه صلى الله عليه وسلم جعلها بين الحلال البين والحرام البين فينبغي أن نتوقف عنها وهذا من باب الورع أيضاً)[29].

قال الخطابي: (هذا الحديث أصل في الورع وفيما يلزم الإنسان اجتنابه من الشبهة والريب، ومعنى قوله: وبينهما أمور مشتبهات)، أي أنها تشتبه على بعض الناس دون بعض وليس أنها في ذوات أنفسها مشتبهة لا بيان لها في جملة أصول الشريعة، فان الله تعالى لم يترك شيئا يجب له فيها حكم إلاّ وقد جعل فيه بياناً ونصب عليه دليلا ولكن البيان ضربان، بيان جلي يعرفه عامة الناس كافة، وبيان خفي لا يعرفه إلاّ الخاص من العلماء الذين عنوا بعلم الأصول فاستدركوا معاني النصوص، وعرفوا طرق القياس والاستنباط ورد الشيء إلى المثل والنظير)[30].

4-1. أقسام الورع

يقول الشيخ إبراهيم بن أدهم :الورع ورعان: ورع فرض، وورع حذر؛ فورع الفرض: الكف عن معاصي الله؛ وورع الحذر: الكف عن الشبهات في محارم الله تعالى؛ فورع العام: من الحرام والشبهة، وهو كل ما كان للخلق عليه تبعة وللشرع فيه مطالبة؛ وورع الخاص: من كل ما كان فيه الهوى وللنفس فيه شهوة ولذة؛ وورع خاص الخاص: من كل ما كان لهم فيه إرادة ورؤية؛ فالعام يتورع في ترك الدنيا، والخاص يتورع في ترك الجنة، وخاص الخاص، يتورع في ترك ما سوى الذي برأ)[31].

وذكر الطوسي في اللمع ثلاث أقسام (:فمنهم من تورع عن الشبهات التي اشتبهت عليه ما بين الحرام البين والحلال البين، وفي هذا القول يعني الطوسي أنه إذا رابني شيء وشككت فيه تركته في الحال، ومنهم من يتورع عما يقف قلبه، ويحيك في صدره عند تناوله. وهذا لا يعرفه إلا أرباب القلوب، وأما الطبقة الثالثة في الورع فهم العارفون والعابدون، وهو كما عبر عنه أبو سلمان الداراني: (كل ما شغلك عن الله فهو شؤم عليك)[32].

   وقيل بأن الورع على خمسة أقسام: (ورع عن الحرام، وورع عن المكروهات، وورع عن الشبهات، وورع عن المباحات، وورع عن الأغيار.. فأما الورع عن المحرمات: فهو سلامة الدين عن طعن الشارع فيه.. وأما الورع عن المكروهات: فهو السلامة عن الوقوف في العطب.. وأما الورع عن الشبهات: فهو استبراء العرض والدين.. وأما الورع عن المباحات: فهو فضيلة لكنه عند القوم واجب إلا على حد الضرورة.. وأما الورع عن الأغيار: فهو أن لا يختلج سره بغير الله ولا يطرق عليه سواه) [33].

   وذكر بعضهم بأن أهل الورع على ثلاث طبقات: (فمنهم: من تورع عن الشبهات التي اشتبهت عليه، وهي ما بين الحرام البين والحلال البين، وما لا يقع عليه اسم حلال مطلق، ولا اسم حرام مطلق، فيكون بين ذلك فيتورع عنهما.. ومنهم: من يتورع عما يقف عنه قلبه، ويحيك في صدره عند تناولها، وهذا لا يعرفه إلا أرباب القلوب والمتحققون.. وأما الطبقة الثالثة في الورع: فهم العارفون والواجدون، فكل ما شغلك عن الله فهو مشئوم عليك.. فالأول: ورع العموم، والثاني ورع الخصوص، والثالث ورع خصوص الخصوص) [34].

وقيل بأن: (الْوَرَعُ عَلَى وَجْهَيْنِ: وَرَعٌ فِي الظَّاهِرِ، وَوَرَعٌ فِي الْبَاطِنِ، أَمَّا وَرَعُ الظَّاهِرِ فَلَا يَتَحَرَّكُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَمَّا الْبَاطِنُ فَلَا يَدْخُلُ قَلْبَكَ سِوَاهُ) [35]، وقيل: (الورع على ثلاثة مقامات: ورع في الطعام، وورع في اللسان، وورع في القلب) [36].

    وخلاصة ما تقدم أنّ التحلي بمقام الورع يجعل السالك لطريق أهل التصوف في مأمن من الوقوع في الفواحش ما ظهر منها وما بطن ويمنعه من التقصير والتفريط في أداء الواجبات، والورع بهذا المعنى هو طوق للنجاة من فتن الدنيا والانجراف نحو نعيمها الزائف الذي يمكن أن يهوي بالفرد في مزالق الهلاك والوقوع في سخط الله وغضبه.

   والتخلق بمقام الورع هو سبب لبذل المعروف وقناعة النفس وحفظ اللسان عن القيل والقال والغيبة والنميمة والغل والحسد والكبر والجشع والطمع وزرع العداوة بين الناس وإثارة الفتن، وإلا فالفرد مهدد ببطلان أعماله وذهاب حسناته هباءً منثوراً، وبالتالي وجب ترك ما قد يضر في الدار الآخرة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: (لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَاماً مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضاً فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُوراً، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، قَالَ: أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا) [37].

————————–

  1. إحياء علوم الدين، أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي، الناشر: دار المعرفة – بيروت. (ط/ت) ربع العادات، كتاب الحلال والحرام، ج: 2، ص: 95.
  2. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، الناشر: مطبعة السعادة – بجوار محافظة مصر، عام النشر: 1394 هـ – 1974م، ج: 1، ص: 212.
  3. صحيح البخاري، المحقق: د. مصطفى ديب البغا، الناشر: دار ابن كثير، دار اليمامة – دمشق، الطبعة: الخامسة، 1414 هـ – 1994م، كتاب اللقطة، باب: إذا وجد تمرة في الطريق، ج: 2، ص: 357 رقم الحديث:2299.
  4. صحيح البخاري، كتاب اللقطة، باب: إذا وجد تمرة في الطريق، ج: 2، ص: 357. رقم الحديث: 2300.
  5. مسند الإمام أحمد بن حنبل، المحقق: أحمد محمد شاكر، الناشر: دار الحديث – القاهرة، الطبعة: الأولى، 1416 هـ – 1995م. ج: 6، ص: 323 رقم الحديث: 6818.
  6. جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم، زين الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين البغدادي ثم الدمشقي الشهير بابن رجب، المحقق: شعيب الأرناؤوط – إبراهيم باجس، الناشر: مؤسسة الرسالة – بيروت، الطبعة: السابعة، 1417هـ – 1998م، ج: 1، ص: 401.
  7. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، الناشر: مطبعة السعادة – مصر، عام النشر: 1394 هـ – 1984م، ج: 4، ص: 84.
  8. التَّحبير لإيضَاح مَعَاني التَّيسير، لمحمد بن إسماعيل بن صلاح بن محمد الحسني، الكحلاني ثم الصنعاني، أبو إبراهيم، حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه وضبط نصه: محَمَّد صُبْحي بن حَسَن حَلّاق أبو مصعب، الناشر: مَكتَبَةُ الرُّشد، الرياض – المملكة الْعَرَبيَّة السعودية، الطبعة: الأولى، 1433 هـ – 2012م. كتاب: الزهد والفقر، الفصل الثاني: فيما كان النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه عليه من الفقر، ج: 4، ص: 575.
  9. التَّحبير لإيضَاح مَعَاني التَّيسير، كتاب: الزهد والفقر الفصل الأول: في مدحهما والحث عليهما، ج: 4، ص: 575.
  10. طبقات الأولياء، لابن الملقن سراج الدين أبو حفص عمر بن علي بن أحمد الشافعي المصري، تحقيق: نور الدين شريبه من علماء الأزهر، الناشر: مكتبة الخانجي، بالقاهرة، الطبعة: الثانية، 1415هـ- – 1994م. ص: 322.
  11. جامع الأصول في الأولياء ويليه متممات كتاب جامع الأصول في الأولياء وأنواعهم، للشيخ ضياء الدين أحمد بن مصطفى بن عبد الرحمن الكمشخانوي، تحقيق وتعليق أحمد فريد المزيدي، الناشر دار الكتب العلمية بيروت لبنان، سنة النشر 1971. ص: 86.
  12. الفوائد، لابن قيم الجوزية، المحقق: محمد عزير شمس، راجعه: جديع بن محمد الجديع – محمد أجمل الإصلاحي- علي بن محمد العمران، الناشر: دار عطاءات العلم، الرياض، الطبعة: الرابعة، 1440 هـ- 2019م. فصل: أقسام الزهد عجائب أحوال الخلق، ص: 171.
  13. مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، لمحمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية، تحقيق: محمد المعتصم بالله البغدادي، الناشر: دار الكتاب العربي – بيروت، الطبعة: الثالثة، 1416هـ – 1996م، ج: 2، ص: 23.
  14. مجموع الفتاوى، لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية، جمع وترتيب: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم رحمه الله، وساعده: ابنه محمد وفقه الله، الناشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف – المدينة المنورة – السعودية، عام النشر: 1425 هـ – 2003م. أصول الفقه، التمذهب المشروع من الزهد والورع، ج: 20، ص: 138.
  15. الرسالة القشيرية، لعبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك القشيري، تحقيق: الإمام الدكتور عبد الحليم محمود، الدكتور محمود بن الشريف، الناشر: دار المعارف، القاهرة، ج: 1، ص: 235.
  16. الرسالة القشيرية، ج: 1، ص: 235.
  17. مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، منزلة الورع، تعريف الورع وما قيل فيه، ج: 2، ص: 236.
  18. كتاب الزهد الكبير، لأحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردي الخراساني، أبو بكر البيهقي، المحقق: عامر أحمد حيدر، الناشر: مؤسسة الكتب الثقافية – بيروت، الطبعة: الثالثة، 1996. باب الورع والتقوى، ص: 318.
  19. مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، منزلة الورع تعريف الورع وما قيل فيه، ج: 2، ص: 24.
  20. المكاسب والورع والشبهة وبيان مباحها ومحظورها واختلاف الناس في طلبها والرد على الغالطين فيه، للحارث بن أسد المحاسبي، أبو عبد الله، المحقق: نور سعيد، الناشر: دار الفكر اللبناني – بيروت، الطبعة: الأولى، 1996م، باب صفة الورع، ص: 51.
  21. الآداب للبيهقي، لأحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردي الخراساني، أبو بكر البيهقي، اعتنى به وعلق عليه: أبو عبد الله السعيد المندوه، الناشر: مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت – لبنان، الطبعة: الأولى، 1418هـ – 1977م، باب من اتقى الشبهات مخافة الوقوع في المحرمات وتورع عن كل ما لا يعنيه واشتغل بما يعنيه، ص: 335. رقم الحديث: 831.
  22. صحيح ابن حبان: تحقيق: محمد علي سونمز، خالص آي دمير، الناشر: دار ابن حزم – بيروت، الطبعة: الأولى، 1433 هـ – 2012م، ج: 3، ص: 425. رقم الحديث: 2689.
  23. رياض الصالحين، لمحيي الدين يحيى بن شرف النووي، تعليق وتحقيق: الدكتور ماهر ياسين الفحل رئيس قسم الحديث – كلية العلوم الإسلامية – جامعة الأنبار، الناشر: دار ابن كثير للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق – بيروت، الطبعة: الأولى، 1428 هـ – 2007م. ص: 199، رقم الحديث: 595.
  24. صحيح مسلم، المحقق: محمد فؤاد عبد الباقي، الناشر: مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، القاهرة، عام النشر: 1374 هـ – 1955م، كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (من غشنا فليس منا) ج: 1، ص: 99.
  25. الجامع الكبير، سنن الترمذي، حققه وخرج أحاديثه وعلق عليه: بشار عواد معروف، الناشر: دار الغرب الإسلامي – بيروت، الطبعة: الأولى، 1996م. ج: 4، ص: 196. رقم الحديث: 2389.
  26. كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، للمتقي الهندي، المحقق: بكري حياني – صفوة السقا، الناشر: مؤسسة الرسالة، الطبعة الخامسة، 1401هـ-1981م. الترغيبات، الخماسي، ج: 16، ص: 243 رقم الحديث: 44313.
  27. المعجم الكبير، أبو القاسم الطبراني، المحقق: حمدي بن عبد المجيد السلفي، دار النشر: دار الصميعي – الرياض، الطبعة الأولى، 1415 هـ – 1994 م، ج: 2، ص: 359. رقم الحديث: 2510.
  28. صحيح مسلم، كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، ج: 3، ص: 219، رقم الحديث: 1599.
  29. شرح الأربعين النووية في الأحاديث الصحيحة النبوية، تقي الدين أبو الفتح محمد بن علي بن وهب بن مطيع القشيري، المعروف بابن دقيق، الناشر: مؤسسة الريان، الطبعة: السادسة 1412هـ- 2003م. الحلال بين والحرام بين، ص: 44.
  30. معالم السنن، وهو شرح سنن الإمام أبي داود، أبو سليمان، حمد بن محمد الخَطّابي، الطبعة: الأولى 1351 هـ – 1932م، طبَعهُ وصححه: محمد راغب الطباخ، في المطبعة العلمية بحلب، (ط/ت)، كتاب البيوع، ومن باب في اجتناب الشبهات، ج: 3، ص: 56.
  31. الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل، لعبد القادر بن موسى بن عبد الله بن جنكي دوست الحسني، أبو محمد، محيي الدين الجيلاني، أو الكيلاني، أو الجيلي، المحقق: أبو عبد الرحمن صلاح بن محمد بن عويضة، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة: الأولى، 1417 هـ – 1997م، ج: 1، ص: 251.
  32. اللمع، لأبي نصر السراج، حققه وقدم له وخرج أحاديثه: الدكتور عبد الحليم محمود، والدكتور طه عبد الباقي سرور، الناشر دار الكتب المصرية، 1380هـ-1960م، باب مقام الورع، ص: 70.
  33. الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل، عبد القادر بن موسى بن عبد الله بن جنكي دوست الحسني، أبو محمد، محيي الدين الجيلاني، المحقق: أبو عبد الرحمن صلاح بن محمد بن عويضة، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة: الأولى، 1417 هـ – 1997م. مجلس: في قوله تعالى: (وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون) (فصل) فإذا تخلص من مظالم العباد، ج: 5، ص: 251.
  34. اللُّمَع في التصوف، حققه وقدم له: الدكتور عبد الحليم محمود، والدكتور طه عبد الباقي سرور، الناشر دار الكتب المصرية، مكتبة المثنى ببغداد، سنة النشر: 1370هـ-1960م، ص: 44، 46.
  35. كتاب الزهد الكبير، أبو بكر البيهقي، المحقق: عامر أحمد حيدر، الناشر: مؤسسة الكتب الثقافية – بيروت، الطبعة: الثالثة، 1996م، باب الورع والتقوى، ص: 318. رقم الحديث: 856.
  36. الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل، لعبد القادر بن موسى بن عبد الله بن جنكي دوست الحسني، أبو محمد، محيي الدين الجيلاني، أو الكيلاني، أو الجيلي، المحقق: أبو عبد الرحمن صلاح بن محمد بن عويضة، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة: الأولى، 1417 هـ – 1997م، مجلس: في قوله تعالى: (وتوبوا إلى الله جميعا أيها المومنون لعلكم تفلحون) (فصل) فإذا تخلص من مظالم العباد، ج: 1، ص: 251.

37. سنن ابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر الذنوب، ج: 2، ص: 418 رقم الحديث: 4245.

Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق