مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

من حدث ونسي: “تعريفه، وحكمه، ونماذجه، ومن صنف فيه”

بسم الله الرحمن الرحيم

تقديم:

      قد يُحدِّث الشيخ تلميذه بحديث، ثم ينساه بعد فترة، وهو ما يعرف عند المحدثين بـ: “من حدث ونسي”، ويعد النسيان أمرا طبيعيا في البشر، وقد رفع الله الإثم عن الناسي، فقال في دعاء المؤمنين: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) ([1])، وقال صلى الله عليه وسلم :  “إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه”([2])،  وقد تناول علماء المصطلح  هذا الموضوع في تصانيفهم، كما أفرده بعضهم بالتأليف؛ ولأهمية هذا الموضوع أردت أن أتناوله في هذا المقال، الذي قسمته إلى الآتي:

أولا : تعريف معنى: من حدث ونسي وحكمه.

ثانيا: نماذج منتقاة ممن حدث ونسي من الشيوخ.

ثالثا: من صنف فيه من العلماء.

وهذا أوان الشروع في المقصود فأقول وبالله التوفيق:

أولا : تعريف معنى: من حدث ونسي وحكم روايته.

1-تعريف معنى: من حدث ونسي

ومعنى: من حدث ونسي: هو أن لا يذكر الشيخ رواية ما حدث به تلميذه عنه([3]).

قال ابن الصلاح: “وقد روى كثير من الأكابر ، أحاديث نسوها بعد ما حدثوا بها، عمن سمعها منهم، فكان أحدهم يقول: حدثني فلان عني، عن فلان، بكذا وكذا”([4]).

2-حكم روايته:

ولعلماء مصطلح الحديث تفصيلاً في هذه المسألة، فإذا كان الذي نسي أنكر ذلك بصيغة الجزم واليقين ، وقال: ما حدثت بهذا قط، أو قال: هذا كذب علي؛ فلا تقبل روايته، قال الخطيب البغدادي: “وإن كان جحوده للرواية عنه جحود مصمم على تكذيب الراوي عنه، وقاطع على أنه لم يحدثه، ويقول: كذب علي، فذلك جرح منه له، فيجب ألا يعمل بذلك الحديث وحده من حديث الراوي، ولا يكون هذا الإنكار جرحا يبطل جميع ما يرويه الراوي….” ([5])، وأما إذا قال: لا أذكر، أو قال: إنه ثقة، وأنا قد نسيت، فإنه في هذه الحالة، تقبل روايته  قال الخطيب: “إن قال قائل: ما قولكم فيمن أنكر شيخه أن يكون حدثه بما رواه عنه؟ قيل: إن كان إنكاره لذلك إنكار شاك متوقف وهو لا يدري هل حدثه به أم لا، فهو غير جارح لمن روى عنه، ولا مكذب له، ويجب قبول هذا الحديث والعمل به؛ لأنه قد يحدث الرجل بالحديث وينسى أنه حدث به، وهذا غير قاطع على تكذيب من روى عنه”([6]).

وقال ابن الصلاح في المقدمة: “فالمختار أنه إن كان جازما بنفيه بأن قال: ما رويته ! أو كذب علي! أو نحو ذلك، فقد تعارض الجزمان والجاحد هو الأصل، فوجب رد حديث فرعه ذلك، ثم لا يكون ذلك جرحا له يوجب رد باقي حديثه؛ لأنه مكذب لشيخه أيضا في ذلك، وليس قبول جرح شيخه له بأولى من قبول جرحه لشيخه فتساقطا، أما إذا قال المروي عنه : لا أعرفه، أو لا أذكره، أو نحو ذلك، فذلك لا يوجب رد رواية الراوي عنه، ومن روى حديثا ثم نسيه : لم يكن ذلك مسقطا للعمل به عند جمهور أهل الحديث، وجمهور الفقهاء، والمتكلمين”([7]).

قال الخطيب في ” الكفاية ” : “ولأجل أن النسيان غير مأمون على الإنسان ، فيبادر إلى جحود ما روي عنه ، وتكذيب الراوي له ، كره من كره من العلماء التحديث عن الأحياء”([8]).

ثانيا: نماذج منتقاة ممن حدث ونسي من الشيوخ.

أورد علماء مصطلح الحديث أمثلة من هذا النوع في كتبهم ، وكذا الذين أفردوا هذا الموضوع بالتأليف كالسيوطي في كتابه: “تذكرة المؤتسي فيمن حدث ونسي” ، ومن هذه النماذج أقتصر على ثلاثة منها وهي:

المثال الأول:  حديث أبي سلمة رضي الله عنه، عن أبي هريرة رضي الله عنه جاء في صحيح مسلم بسنده، عن ابن شهاب، أن أبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، حدثه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: « لا عدوى »، ويحدث أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: « لا يورد ممرض على مصح ». قال:  قال أبو سلمة: كان أبو هريرة يحدثهما كلتيهما عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم صمت أبو هريرة بعد ذلك عن قوله: « لا عدوى ». وأقام على« أن لا يورد ممرض على مصح ». قال: فقال الحارث بن أبي ذباب – وهو ابن عم أبي هريرة – : قد كنت أسمعك يا أبا هريرة تحدثنا مع هذا الحديث حديثا آخر، قد سكت عنه، كنت تقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- « لا عدوى ». فأبى أبو هريرة أن يعرف ذلك، وقال « لا يورد ممرض على مصح ». فما رآه الحارث في ذلك حتى غضب أبو هريرة، فرطن بالحبشية فقال للحارث: أتدري ماذا قلت؟ قال: لا. قال أبو هريرة: قلت أبيت. قال أبو سلمة: ولعمري لقد كان أبو هريرة يحدثنا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال « لا عدوى ». فلا أدري أنسي أبو هريرة، أو نسخ أحد القولين الآخر “([9]).

المثال الثاني:حديث عمرو بن دينار، عن أبي معبد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:” كنت أعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكبير”([10]). قال عمرو بن دينار: “ثم ذكرته لأبي معبد فقال: لم أحدثكه. قال عمرو: قد حدثنيه وكان من أصدق موالي ابن عباس”([11]).. قال الشافعي: “كأنه نسيه بعدما قد حدثه إياه”([12]).

المثال الثالث:  حديث سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه: “أن النبي صلى الله عليه وسلم: قضى باليمين مع الشاهد”([13])

قال عبد العزيز: فذكرت ذلك لسهيل، فقال: أخبرني ربيعة وهو عندي ثقة، إني حدثته إياه ولا أحفظه، قال عبد العزيز: وقد كان أصاب سهيلا علة أذهبت بعض عقله، ونسي بعض حديثه، وكان سهيل بعد يحدثه عن ربيعة عنه، عن أبيه ([14])

ثالثا: من صنف من العلماء في هذا الموضوع:

    من المعروف أن علماء مصطلح الحديث تحدثوا في تصانيفهم عن هذه المسألة ضمن بحوث المصطلح، ومن العلماء من أفرده  بالتصنيف، وقد وقفت منها على ثلاث تآليف في الموضوع؛ وهي:

1-من حدث ونسي لأبي الحسن الدار قطني المتوفى (385هـ)؛  ذكره له السيوطي في تدريب الراوي([15]).

2-أخبار من حدث ونسي للخطيب البغدادي المتوفى (463هـ)؛ ذكره له ابن الصلاح في المقدمة  ([16]، والسيوطي في تدريب الراوي حيث قال بعد أن تناول مسألة نسيان الراوي لما رواه، وأنه لا  يقدح ذلك في ثبوت الحديث على مذهب أكثر أئمة الحديث أخبار: ” وصنف في ذلك الخطيب أخبار من حدث ونسي وكذلك الدار قطني”([17]).

3-تذكرة المؤتسي فيمن حدث ونسي لجلال الدين السيوطي المتوفى (911هـ).

والكتاب مطبوع بتحقيق: صبحي البدري السامرائي عن الدار السلفية في طبعته الأولى 1404 هـ- 1984مـ، وهو جزء فيمن حدث بحديث ثم نسيه، لخصه من كتاب الخطيب البغدادي، وعدد الروايات التي أوردها فيه سبع وثلاثون رواية.

الخاتمة:

وفي ختام هذا المقال خلصت إلى الآتي:

1-قد يعترض الشيخ النسيان، ولا يذكر رواية ما حدث به تلميذه عنه؛ وهو ما يسمى بـ: من حدث ونسي.

2-لعلماء مصطلح الحديث تفصيلا في حكم رواية من حدث ونسي؛ حيث إذا أنكر الشيخ على تلميذه ذلك بصيغة اليقين والجزم فلا يقبل الحديث وحده لا جميع مروياته عنه،  وأما إذا لم ينكر وقال: لا أتذكر، ونحوه، فروايته مقبولة، وهو المختار عند جمهور أهل الحديث والفقهاء والمتكلمين.

3-ذكرت ثلاثة نماذج منتقاة من روايات ممن حدث ونسي وكلها صحيحة.

4-تناول علماء المصطلح مسألة من حدث ونسي في كتبهم؛ بل ومنهم من أفردها بالتصنيف، وقد ذكرت ثلاثة كتب. 

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

********************

هوامش المقال:

([1]) سورة البقرة من الآية (286).

([2]) أخرجه الطبراني في المعجم الصغير (2 /52)، برقم: (765)، والمعجم الكبير (2 /97 )، برقم: (1430)، وابن حبان في صحيحه (16/ 202) برقم: (7219).

([3]) تيسير مصطلح الحديث (ص: 114 ).

([4]) مقدمة ابن الصلاح (ص: 303)..

([5])  الكفاية في علم الرواية (ص: 139)  .

([6])  الكفاية في علم الرواية (ص: 139). 

([7]) مقدمة ابن الصلاح (ص:  302) 

([8])  الكفاية في علم الرواية (ص: 139). 

([9])  أخرجه مسلم في صحيحه  (2 /1058)، كتاب: السلام، باب: لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر، ولا نوء ولا غول، ولا يورد ممرض على مصح، برقم: (2221).

([10])  أخرجه البخاري في صحيحه (1 /271)، كتاب: الأذان ، باب: الذكر بعد الصلاة، برقم: (842).

([11])  الكفاية في علم الرواية (ص: 380). 

([12])  الأم (2/ 288 ).

([13])  أخرجه أبو داود في سننه (2/ 515)، كتاب: الأقضية، باب: القضاء باليمين والشاهد ، برقم: (3610).

([14])  الكفاية في علم الرواية (ص: 222-223).

([15])  تدريب الراوي (2/ 397).

([16])  مقدمة ابن الصلاح  (ص303 ) .

([17])  تدريب الراوي (2/ 397).

*************

لائحة المصادر والمراجع المعتمدة:

الأم. لمحمد بن إدريس الشافعي. تحقيق: د رفعت فوزي عبد المطلب.  دار الوفاء المنصورة. ط1/ 1422هـ- 2001مـ

تدريب الراوي. في شرح تقريب النواوي. لجلال الدين السيوطي. تحقيق: نظر محمد الفاريابي. مكتبة الكوثر الرياض. ط2/ 1415هـ.

تيسير مصطلح الحديث. لمحمود الطحان. مركز الهدى للدراسات الإسكندرية. ط7/ 1415هـ- 1995مـ.

الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه. لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، قام بشرحه وتصحيحه وتحقيقه: محب الدين الخطيب، رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، وقام بإخراجه وأشرف على طبعه: قصي محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية القاهرة، ط1 /1400هـ.

الروض الداني إلى المعجم الصغير لسليمان بن أحمد الطبراني. تحقيق: محمود شكور محمود الحاج أمرير. المكتب الإسلامي بيروت- دار عمار عمان. ط1/ 1405هـ- 1985مـ. .

سنن أبي داود. لأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني. ضبطه: محمد عبد العزيز الخالدي. دار الكتب العلمية بيروت . ط1/ 1416هـ- 1996مـ..

صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان. لعلي بن بلبان الفارسي. لعلاء الدين مؤسسة الرسالة بيروت.  ط 2/ 1414هـ- 1993مـ.

صحيح مسلم. وفي طليعته: غاية الابتهاج لمقتفي أسانيد كتاب مسلم بن الحجاج للزبيدي.دار طيبة. الرياض. ط1/ 1427هـ-2006مـ.

الكفاية في علم الرواية. لأبي بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي. دار المعارف العثمانية. (د.ت).

المعجم الكبير. لسليمان بن أحمد الطبراني. تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي. مكتبة ابن تيمية القاهرة (د. ت).

مقدمة ابن الصلاح ومحاسن الاصطلاح. لعائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ. دار المعارف القاهرة (د.ت).

*راجع المقال: الباحث محمد إليولو

Science

دة. خديجة أبوري

  • أستاذة باحثة مؤهلة بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق