مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات وأبحاثدراسات عامة

دفع شبه المستشرقين في عدم اهتمام المحدثين بنقد متن الحديث

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين وأصحابه المجتبين، ومن تبعهم من العلماء العاملين إلى يوم الدين.

وبعد:

فإن السنة النبوية هي المصدر الثاني في التشريع الإسلامي، وهي من الأهمية والمكانة العظمى في المعرفة الإسلامية؛ بيد أنه ظهر ثلة من المستشرقين المغرضين، حملوا حملة شعراء للتشكيك، والطعن في السنة النبوية، من خلال تحاملهم على المنهج النقدي  الحديثي الذي أبدعه علماء الحديث في ضبط السنة النبوية، وادعوا أن نقاد الحديث النبوي عبر تاريخهم الطويل إنما انصب منهجهم فقط على الأسانيد دون المتون، وأن معيار صحة الحديث عندهم ينحصر في النظر في صحة الإسناد دون النظر في المتن، الشيء الذي جعلهم يتهمون المحدثين بالإخلال بالمنهج العلمي، والقصور المنهجي في الاعتناء بالشكل دون المضامين، النتيجة حسب تصورهم فقدان الثقة التامة بمنهج المحدثين، وبالتالي اطراح الحديث النبوي نفسه، والتشكيك فيه جملة وتفصيلا؛ لأنه لم يعالج بمعايير علمية صحيحة، -زعموا-

ولأهمية هذا الموضوع، ارتأيت أن أفرده بهذا المقال من خلال إيراد بعض شبه هؤلاء المستشرقين في دعواهم أن المحدثين أهملوا نقد المتن مع الرد على بعض هذه الشبه ، وذلك وفق المطالب الآتية: 

المطلب الأول: التعريف بمصطلح الاستشراق والنقد لغة واصطلاحا.

المطلب الثاني: ذكر بعض شبه المستشرقين في عدم اهتمام المحدثين بنقد متن الحديث

المطلب الثالث:  الرد على هذه الشبه.

فأقول وبالله التوفيق:

المطلب الأول: التعريف بمصطلح الاستشراق والنقد لغة واصطلاحا:

1-التعريف بمصطلح الاستشراق لغة:

الاستشراق سداسي لازم، أصله من (شرق) قال ابن منظور في لسان العرب: ” (شرق): شرقت الشمس، تشرق، شروقا، وشرقا: طلعت واسم الموضع: المشرق، وكان القياس المشرق” [1].

2-الاستشراق اصطلاحا:

عرفه د إدوارد سعيد بقوله: “أسلوب غربي للسيطرة على الشرق، وإعادة بنائه، والتسلط عليه”[2].

وعرفه د. ألبرت حوراني بقوله: “الاستشراق نظام أكاديمي لدراسة وفهم الشرق، أو هو نمط من التفكير يرتكز على التمييز بين ما يعرف بـ: (الشرق)، وآخر يدعى (الغرب)، ومن مقتضياته وجود مؤسسة تعنى بهذه المنطقة المترامية الأطراف، من أجل معرفتها وفهمها ، وربما السيطرة عليها”[3].

3-النقد في اللغة:

النقد لغة كما جاء في لسان العرب لابن منظور: من “النقد والتَّنْقاد: تمييز الدراهم، وإخراج الزيف منها”[4].

4-النقد في الاصطلاح:

والنقد في الاصطلاح كما جاء في معجم المصطلحات الحديثية: “علم يبحث في تمييز الأحاديث الصحيحة من الضعيفة، وبيان عللها ، والحكم على رواتها جرحا وتعديلا، بألفاظ مخصوصة، ذات دلالئل معلومة عند أهل الفن”[5].

المطلب الثاني: ذكر بعض شبه المستشرقين في عدم اهتمام المحدثين بنقد متن الحديث:

تناول بعض المستشرقين منهج المحدثين النقدي بالشك والطعن، وأن جل اعتنائهم كان للسند دون المتن، وسأذكر بعض من هؤلاء، وأذكر أقوالهم ، ومن تم الرد عليهم.

قال المستشرق الإيطالي ليون كايتاني (1935مـ) Leone Caetani: “كل قصد المحدثين ينحصر ويتركز في واد جدب ممحل من سرد الأشخاص الذين نقلوا المروي، ولا يشغل أحد نفسه بنقد العبارة والمتن نفسه”[6].

وقال أيضا: “سبق أن قلنا : إن المحدثين والنقاد المسلمين لا يجسرون على الاندفاع في التحليل النقدي للسنة إلى ما وراء الإسناد؛  بل يتمنعون  عن كل نقد للنص؛ إذ يرونه احتقارا لمشهوري الصحابة، وقحة ثقيلة الخطر على الكيان الإسلامي”[7].

ويقول المستشرق الألماني جوزيف شاخت (1969مـ)  Josef Shacht : “ومن المهم أن يلاحظ أنهم –أي: المحدثين- أخوا نقدهم لمادة الحديث وراء نقدهم للإسناد نفسه “[8].

ويقول المستشرق الفرنسي غاستون ويت (1971مـ) Gaston Wiet: “لقد نقل لنا الرواة حديث الرسول مشافهة، ثم جمعه الحفاظ، ودونوه؛ إلا أن هؤلاء لم ينقدوا المتن؛ لذلك  لسنا متأكدين أن الحديث وصلنا كما هو عن رسول الله، من غير أن يضيف إليه الرواة شيئا بحسن نية أثناء روايتهم للحديث”[9].

وقال أيضا: “قد درس رجال الحديث السنة بإتقان؛ إلا أن تلك الدراسة كانت موجهة إلى “السند” ومعرفة الرجال، وانتقائهم، وسماع بعضهم من بعض … لقد نقل لنا الرواة حديث الرسول مشافهة، ثم جمعه الحفاظ ودونوه؛ إلا أن هؤلاء لم ينقدوا المتن؛ ولذلك لسنا متأكدين من  أن الحديث قد وصلنا كما هو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير أن يضيف عليه الرواة شيئا”[10].

المطلب الثالث: الرد على هذه الشبه:

 وأقول ردا على مزاعم هؤلاء المستشرقين: كايتاني،وشاخت، وغاستون ويت:

أنه من المعروف أن نقد المتون الحديثية عند علماء الإسلام، خصوصا المحدثين والفقهاء قد بدأ في فترة مبكرة قبل الجرح والتعديل وبروز الأسانيد، ومن أدلة ذلك أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يعترضون على بعضهم البعض في فهم نصوص ومتون الأحاديث النبوية، وهذا نوع من نقد النصوص المبكر؛ حيث نجد أمنا عائشة رضي الله عنها تعترض على كثير من الصحابة في الأحاديث.

كما أن ظهور المذاهب الفقهية، واختلافها في كثير من فروع الشريعة مبني على نقد المتون، وفهم النصوص،  قال د. نجم عبد الرحمن خلف:  ” فالشافعي يختلف مع غيره في كثير من الأحيان، لا في ثبوت النص؛ وإنما في فهم النص؛ بل إن أتباع المذهب الواحد تتباين أنظارهم تبعا لفهمهم للمتن وتفسيره” [11].  

كما أن المحدثين قعدوا قواعد تأصيلية لنقد المتن، فكل خبر يناقض العقل فهو باطل، وعدوا من علامات الكذب في الأخبار مخالفتها لصريح القرآن، والسنة الصحيحة المتواترة، وكل هذا يعد نوع من نقد النصوص عند المحدثين.

يقول الخطيب البغدادي: “ولا يقبل خبر الواحد في منافاة حكم العقل، وحكم القرآن الثابت المحكم، والسنة المعلومة، والفعل الجاري مجرى السنة، كل دليل مقطوع به؛ وإنما يقبل به فيما لا يقطع به مما يجوز ورود التعبد به كالأحكام”[12].

ومن أمثلة نقد المحدثين للمتون من خلال عرضها على القرآن الكريم؛ أن الإمام عامر الشعبي (104هـ) سمع رجلا من القصاص يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الله تعالى خلق صورين له في كل صور نفختان: نفخة الصعق ونفخة القيامة، قال الشعبي: فلم أضبط نفسي أن خففت صلاتي، ثم انصرفت فقلت: ياشيخ اتق الله !! ولا تحدثن بالخطأ، إن الله تعالى لم يخلق إلا صورا واحدا؛ وإنما هي نفختان: نفخة الصعق، ونفخة القيامة”([13]).

وقد فهم الإمام الشعبي هذا من قوله تعالى في سورة الزمر: (ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون) ([14]).

كما أن المحدثين نجدهم: “أعطوا ألقابا اصطلاحية للأحاديث، وهي صفات خاصة بالمتن دون السند، مثل : الحديث الشاد، والمقلوب، والمضطرب، ومدرج المتن، والمحرف، والمصحق، ونحوها من الاصطلاحات”([15]). فكلها اصطلاحات علمية تؤكد عناية المحدثين بالمتن.

كل هذا وغيره يفند دعوى اتهام المستشرقين: كايتاني، وشاخت، وغاستون ويت.. وغيرهم من خلال اتهامهم للمحدثين بالاعتناء بالأسانيد دون المتون، وهي تهمة باطلة، لا أساس لها من الصحة، لأن عناية المحدثين بالحديث النبوي كان على شقيه المتن والسند معا، وأن دعوى المستشرقين ما هي إلا محض تمحلات وتخيلات، مبنية على الهوى والأغراض، وتنم عن مدى عجزهم عن استيعاب هذا المنهج النقدي الدقيق الذي أبدعه المحدثون، لم تسبق إليه أمة من الأمم من قبل.

الخاتمة:

وفي ختام هذا المقال خلصت إلى:

-أن السنة النبوية هي المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي لها أهميتها القصوى.

-ظهور بعض الآراء الاستشراقية المغرضة تدعي: أن المحدثين اعتنوا فقط بالسند دون المتن، وممن تحمل هذا الادعاء من المستشرق: كايتاني، وشاخت، وغاستون ويت.

-مزاعم هؤلاء المستشرقين المغرضين لا أساس لها من الصحة، وقد بينت زيفها ومخالفتها لواقع المحدثين الذين اعتنوا بالحديث النبوي: سندا ومتنا.

والحمد لله رب العالمين.

*********************

هوامش المقال:

[1]  – لسان العرب (10 /173) مادة: (شرق).

[2]  – الاستشراق (ص: 45-46).

[3]  – الاسلام في الفكر الأوروبي (ص: 78) .

[4]  – لسان العرب (3 /425) مادة (نقد).

[5]  – معجم المصطلحات الحديثية لسعيد عبد الماجد الغوري (ص: 816) .

[6]  – انظر: اهتمام المحدثين بنقد الحديث (ص: 470) .

[7]  – المصدر السابق (ص: 470) .

[8]  – المصدر السابق (ص: 470).

[9]  – السنة حجيتها، ومكانتها في الإسلام (ص: 240) .

[10]  – السنة قبل التدوين (ص: 254) .

[11]  – نقد المتن  بين صناعة المحدثين ومطاعن المستشرقين (ص: 13) .

[12]  – الكفاية في علم الرواية (ص: 371) .

([13]) تحذير الخواص من أكاذيب القصاص  (ص: 204).

([14]) الزمر (68).

([15]) اهتمام المحدثين بنقد الحديث سندا ومتنا (ص: 473).

********************

لائحة المصادر والمراجع:

الاستشراق: المفاهيم الغربية للشرق، إدوارد سعيد ترجمة: د محمد عناني دار رؤية 2006هـ

الإسلام في الفكر الأوروبي . د ألبرت حوراني. الدار الأهلية للنشر بيروت 1994مـ.

اهتمام المحدثين بنقد الحديث سندا ومتنا ودحض مزاعم المستشرقين وأتباعهم . لمحمد لقمان السلفي. دار الداعي الرياض. ط2/ 1420هـ

تحذير الخواص من أكاذيب القصاص. لجلال الدين السيوطي. ت: د محمد لطفي الصباغ. المكتب الإسلامي. بيروت ط2/1404هـ- 1984مـ

السنة حجيتها ومكانتها في الإسلام. لمحمد لقمان السلفي. مكتبة الإيمان المدينة . ط1/ 1409هـ- 1989مـ.

السنة قبل التدوين. لمحمد عجاج الخطيب. مكتبة وهبة. ط2/ 1408هـ- 1988مـ.

الكفاية في علم الرواية. للخطيب البغدادي. ت: زكريا عميرات . دار الكتب العلمية 2006مـ

لسان العرب. لابن منظور. دار صادر بيروت. ط 1/ 1417 هـ- 1997مـ

معجم المصطلحات الحديثية لسعيد عبد الماجد الغوري . دار ابن كثير. دمشق ط1/ 1428 هـ- 2007مـ

نقد المتن بين صناعة المحدثين ومطاعن المستشرقين. لنجم عبد الرحمن خلف. مكتبة الرشد الرياض. ط1/ 1409هـ- 1989مـ.

*راجعت المقال الباحثة: خديجة ابوري

Science

د. محمد بن علي اليــولو الجزولي

  • أستاذ باحث مؤهل بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة النبوية العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء بالرباط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق