مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

الاستعداد لحجة الوداع في شهر ذي القعدة الحرام

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا  محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين

إن آخر حدث عظيم في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم الشريف، هو حجته الأخيرة، وهي حجة الوداع، وتسمى أيضا: حجة التمام، وحجة البلاغ[1]، وقد حدثت في التاسع من ذي الحجة، في العام: العاشر من الهجرة النبوية الشريفة، وختم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم رسالته، وحياته، بعد أكمل الله تعالى به الدين، وأتمم علينا نعمه، ورضي لنا الإسلام دينا.

ولنعد شريط الأحداث التاريخية إلى الوراء، قد مكث صلى الله عليه وسلم تسع سنين في المدينة لم يحج منها حاجا، مذ أن هاجر عليه السلام إليها، وفي السنة التي تلتها، وهي العاشرة، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر ذي القعدة من المدينة عامدا إلى مكة، فتجهز للحج، وأمر الناس بالجهاز له، فخرج وأخذ على طريق الشجرة، وذلك يوم الخميس لست بقين من ذي القعدة نهارا بعد أن ترجل وادهن، وبعد أن صلى الظهر بالمدينة، وقد أُذن في الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجٌّ، فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعمل مثل عمله[2]

إن العمل بمثل عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو دأب الصحابة، وقد كانوا شديدي الحرص على اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والتسنن بها قولا وفعلا، فقد روى مسلم[3] في صحيحه من كتاب: الحج، في باب: حجة النبي صلى الله عليه وسلم، من طريق جابر بن عبد الله رضي الله عنه، قال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحج، ثم أذن في الناس في العاشرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج، فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعمل مثل عمله».

فخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة لخمس بقين من ذي القعدة من السنة العاشرة، فقد روى مالك في موطئه[4] من كتاب: الحج، في: ما جاء في النحر في الحج، الشيخان في صحيحيهما: البخاري[5] من كتاب: الحج، في باب: ذبح الرجل البقر عن نسائه من غير أمرهن، ومسلم[6] من كتاب: الحج، في باب: بيان وجوه الإحرام، وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع والقران، وجواز إدخال الحج على العمرة، ومتى يحل القارن من نسكه، أن عائشة رضي الله عنها، قالت: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لخمس ليال بقين من ذي القعدة، ولا نرى إلا أنه الحج».

قال الحافظ ابن بطال (المتوفى رحمه الله تعالى سنة: 449هـ): “خروجه صلى الله عليه وسلم آخر الشهر بخلاف أفعال الجاهلية في استقبالهم أوائل الشهور في الأعمال، وتوجيههم ذلك، وتجنبهم بفضل الشهور من أجل نقصان العمر، فبعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم، يبيح ذلك كله ولم يراع نقصان شهر ولا ابتداؤه، ولا محاق قمر ولا كماله، فخرج في أسفاره على حسب ما تهيأ له، ولم يلتفت إلى أباطيلهم ولا طيرتهم الكاذبة، ورد أمره إلى الله، ولم يشرك معه غيره في فعله فأيده ونصره”[7].

قال الإمام القرطبي (المتوفى رحمه الله تعالى سنة: 656هـ) في تعيين الشجرة التي انطلق منها رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجا: “يعني والله أعلم: الشجرة التي بذي الحليفة؛ التي أحرم منها؛ كما قال ابن عمر في الحديث المتقدم –في إشارة إلى حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج من طريق الشجرة، ويدخل من طريق المعرس-، ولعلها هي الشجرة التي ولدت تحتها أسماء بنت عميس”[8].

وقال في المدة التي أقامها النبي صلى الله عليه وسلم في طريقه من المدينة إلى مكة: “قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة لأربع، أو خمس من ذي الحجة، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم في طريقه إلى مكة تسعة أيام، أو عشرة، والله تعالى أعلم”[9].

وقال الحافظ ابن حجر (المتوفى رحمه الله تعالى سنة: 852هـ) في تعيين المدة المجتازة في رحلة الحج من المدينة إلى مكة: “خرج لخمس بقين من ذي القعدة، أو أربع، وكان دخوله صلى الله عليه وسلم مكة صبح رابعة، كما ثبت في حديث عائشة، وذلك يوم الأحد، وهذا يؤيد أن خروجه من المدينة كان يوم السبت كما تقدم، فيكون مكثه في الطريق ثمان ليال وهي المسافة الوسطى”[10].

وقال العلامة الزرقاني (المتوفى رحمه الله تعالى سنة: 1122هـ) في شرح معنى حديث عائشة رضي الله عنها، نقلا عن جلة من العلماء: “سمي -أي: ذو القعدة- بذلك؛ لأنهم كانوا يقعدون فيه عن القتال، ومثل هذا التاريخ في حديث ابن عباس عند البخاري، واحتج به ابن حزم على أن خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة كان يوم الخميس، قال: لأن أول ذي الحجة كان يوم الخميس بلا شك؛ لأن الوقفة كانت يوم الجمعة بلا خلاف، وظاهر قوله يقتضي أن خروجه من المدينة يوم الجمعة، بناء على ترك عد يوم الخروج، وقد ثبت في الصحيح من حديث أنس أنه صلى الظهر بالمدينة أربعا، فبان أنه لم يكن يوم الجمعة، فتعين أنه يوم الخميس بإلغاء يوم الخروج، وتعقبه ابن القيم بأن المتعين أن يكون يوم السبت بناء على عد يوم الخروج، أو على ترك عده، ويكون ذو القعدة تسعا وعشرين يوما، أيده الحافظ بما رواه ابن سعد والحاكم في الإكليل: أن خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة كان يوم السبت لخمس بقين من ذي القعدة، وفيه رد على منع إطلاق القول في التاريخ لئلا يكون الشهر ناقصا، فلا يصح الكلام، فيقول مثلا: إن بقين بأداة الشرط، ووجه الجواز أن الإطلاق يكون على الغالب”[11].

خلاصة القول: إن حدث انطلاق حجة الوداع في آخر شهر ذي القعدة من السنة العاشرة من هجرته صلى الله عليه وسلم، يستشف منه عدة فوائد، منها:

أن شهر ذو القعدة سمي بذلك؛ لأن العرب كانوا يقعدون فيه عن القتال.

أن خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة كان يوم السبت لخمس بقين من ذي القعدة.

أن المدة المستغرقة التي أقامها النبي صلى الله عليه وسلم في طريقه من المدينة إلى مكة: كانت ثمانية أيام، أو تسعة، أو عشرة.

أن خروجه صلى الله عليه وسلم كان من الشجرة التي بذي الحليفة؛ التي أحرم منها.

أن خروجه صلى الله عليه وسلم آخر شهر ذي القعدة بخلاف أفعال الجاهلية في استقبالهم أوائل الشهور في الأعمال، وتوجيههم ذلك، وتجنبهم بفضل الشهور من أجل نقصان العمر.

أن خرجه صلى الله عليه وسلم في أسفاره على حسب ما تهيأ له، ولم يلتفت إلى أباطيل أهل الجاهلية ولا طيرتهم الكاذبة، ورد أمره إلى الله تعالى.

أن الحديث رد على منع إطلاق القول في التاريخ؛ لئلا يكون الشهر ناقصا، وأن الإطلاق يكون على الغالب.

************************

هوامش المقال :

[1]) الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء م1، ج2/ 415.

[2]) حجة الوداع لابن حزم ص: 115-127.

[3]) صحيح مسلم 2/ 887، رقم الحديث: 1218.

[4]) الموطأ رواية يحيى الليثي 3/ 576-577، رقم الحديث: 1469/ 401.

[5]) الصحيح 2 /171، رقم الحديث: 1709.

[6]) الصحيح 2/ 876، رقم الحديث: 1211.

[7]) شرح صحيح البخاري 5 /124-125 .

[8]) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم 3 /371 .

[9]) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم 3 /298 .

[10]) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 8/ 80.

[11]) شرح موطأ الإمام مالك 2 /515-516.

**********************

جريدة المراجع

الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء لأبي الربيع سليمان بن موسى الكلاعي الأندلسي، تحقيق: محمد كمال الدين عز الدين علي، عالم الكتب، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى: 1417 /1997.

حجة الوداع لعلي بن أحمد بن سعيد بن حزم القرطبي، تحقيق: أبو صهيب الكرمي، بيت الأفكار الدولية، الرياض- السعودية، الطبعة الأولى: 1998.

شرح صحيح البخاري لعلي بن خلف بن عبد الملك ابن بطال، تحقيق: ياسر بن إبراهيم، مكتبة الرشد، الرياض- السعودية، الطبعة الثالثة: 1425 /2004.

شرح موطأ الإمام مالك لمحمد بن عبد الباقي بن يوسف الزرقاني المصري، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة- مصر، الطبعة الأولى: 1424/ 2003.

فتح الباري بشرح صحيح البخاري لأحمد بن علي ابن حجر العسقلاني، المطبعة الكبرى الأميرية، بولاق- مصر، الطبعة الأولى: 1300.

المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لمسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت-لبنان، (د-ت).

المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم لأحمد بن عمر بن إبراهيم القرطبي تحقيق: محيي الدين ديب ميستو، أحمد محمد السيد، يوسف علي بديوي، محمود إبراهيم بزال، دار ابن كثير، دار الكلم الطيب، دمشق- سوريا، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى: 1417 /1996.

الموطأ لمالك بن أنس بن مالك بن عامر الأصبحي المدني، رواية: يحيى بن يحيى الليثي، تحقيق: محمد مصطفى الأعظمي، منشورات مؤسسة زايد بن سلطان آل نهيان للأعمال الخيرية والإنسانية، أبو ظبي- الإمارات، الطبعة الأولى: 1425 /2004.

Science

يوسف أزهار

  • باحث بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسير ة النبوية العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق