مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

السرايا الواقعة في شهر ربيع الأول وذكر شيء من فقهها

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه.

    يعد شهر ربيع الأول الشهر الثالث في التقويم الهجري، يسبق شهر ربيع الثاني، ويأتي بعد شهر صفر، وقد وقع في هذا الشهر العديد من الأحداث الخاصة بالسيرة النبوية ومنها السرايا النبوية؛ ولأهمية هذا الموضوع أحببت أن أذكِّر نفسي وإياكم بهذه السرايا بإيجاز ، وقد انتقيت منها السرايا المتفق عليها بين علماء أهل السير  والمغازي، والتي وقعت في هذا الشهر دون الإشارة إلى تلك التي وقع فيها الخلاف، مرتبة لها على السنين، مع ذكر بعض الفوائد  المستنبطة من أحداثها، وهذا أوان الشروع في المقصود فأقول وبالله التوفيق: 

أولا: سرية محمد بن مسلمة لقتل كعب بن الأشرف النضري وملخص أحداثها:

1-ملخص أحداث السرية:

يعد كعب بن الأشرف النضري من زعماء يهود المدينة، وهو من أشد الناس حقدا على الإسلام والمسلمين، وكان يؤذي الرسول صلى الله عليه وسلم أشد الإيذاء، يذكر ابن إسحاق عن جمع من شيوخه: أنه استنكر مندهشا النتيجة التي آلت إليها غزوة بدر، قال: “فلما تيقن من الخبر خرج حتى قدم مكة، .. وجعل يحرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينشد الأشعار ، ويبكي على أصحاب القليب من قريش الذين أصيبوا”([1]) ، ولما  بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم ذلك قال : “من لكعب ابن الأشرف ؟ فإنه آذى الله و رسوله”، فقال محمد بن مسلمة: أنا، فأتاه فقال: أردنا أن تسلفنا وسقا، أو وسقين؟ فقال: ارهنوني نساءكم، قالوا: كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟، قال: فارهنوني أبناءكم، قالوا: كيف نرهن أبناءنا فيسب أحدهم فيقال: رهن بوسق، أو وسقين، هذا عار علينا؛ ولكنا نرهنك اللأمة قال سفيان: يعني: السلاح” ([2])  فوعده أن يأتيه، ففي ليلة مقمرة كما -حددها ابن سعد([3])– بأربع عشرة ليلة مضت من ربيع الأول على رأس خمسة وعشرين شهرا من الهجرة شيَّع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحاب السرية إلى بقيع الغرقد، وقال: “انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم”، فانطلقوا حتى أتو حصن كعب الذي كان حديث عهد بعرس فقتلوه([4])

2-ما يستفاد من السرية من الفقه والعبر :

في قوله: “ وجعل يحرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينشد الأشعار ، ويبكي على أصحاب القليب“؛ فيه دلالة على أن اللسان له صدى قويا  على النفوس في الحرب، وفيه دلالة كذلك على أن اليهود على مر التاريخ يسعون دائما إلى إشعال الفتن والحروب بين القبائل العربية.

وفي قوله : ” من لكعب ابن الأشرف فإنه آذى الله ورسوله؟ ” فيه دلالة على جواز قتل من سب النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان ذا عهد”  كما قال السهيلي([5]).

وقال المازري: “لأنه نقض عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهجاه، وسبه وعاهده أن لا يعين عليه أحدا، وجاءه مع أهل الحرب مُعينا عليه “([6]).

وفي قوله: “فقال محمد بن مسلمة: “أنا”؛ فيه دلالة على مبادرة الصحابة لتنفيذ أوامر النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان فيه مخاطرة بالنفس.

وفي قوله: “أردنا أن تسلفنا وسقا، أو وسقين…” فيه دلالة على جواز الكذب في الحرب؛ قال ابن بطال: “الفتك في الحرب على وجهين : أحدهما محرم ، والثاني جائز ، فالفتك الذي يحرم به الدم أن يصرح بلفظ يفهم منه التأمين؛ فإذا أمنه فقد حرم بذلك دمه والغدر به وعلى هذا جماعة العلماء ، وأما الوجه المباح منه فهو أن يخادعه بألفاظ هى معاريض غير تصريح بالتأمين ، فهذا يجوز ؛ لأن الحرب خدعة” ([7]).

في قوله: “نرهنك اللأمة” : قال ابن بطال: ليس في قولهم “نرهنك اللأمة” دلالة على جواز  رهن الحربيين السلاح؛ وإنما كان ذلك من معاريض الكلام المباحة في الحرب وغيره([8]).

ثانيا: سرية شجاع بن وهب الأسدي إلى بني عامر وما يستفاد منها من الفقه والعبر

1-ملخص أحداث السرية:

في شهر ربيع الأول من السنة الثامنة للهجرة كما حددها الواقدي في مغازيه قال:  “بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم شجاع بن وهب في أربعة وعشرين رجلا إلى جمع من هوازن بالسبي، وأمره أن يغير عليهم، فخرج فكان يسير الليل، ويكمن النهار حتى صبحهم وهم غارون، وقد أوعز إلى أصحابه قبل ذلك ألا يمعنوا في الطلب، فأصابوا نعما كثيرا وشاء، فاستاقوا ذلك كله، حتى قدموا المدينة واقتسموا الغنيمة، وكانت سهامهم خمسة عشر بعيرا ، كل رجل، وعدلوا البعير بعشرة من الغنم، وغابت السرية خمس عشرة ليلة”  ([9])

2-ما يستفاد من السرية من الفقه والعبر :

في سير الجيش الإسلامي بالليل، وكمونه بالنهار ؛ فيه دلالة على الحس القيادي للنبي صلى الله عليه وسلم الذي يتمتع به، حتى تخفى أخبار الجيش على العدو من جهة، ومن جهة أخرى حتى لا تنهك قوة الجيش بقيظ النهار وشدة حره .

وفي قوله: . “حتى صبحهم وهم غارون”  جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم الدعوة من غير إنذار بالإغارة.

وفي قوله: ” فأصابوا نعما كثيرا وشاء، فاستاقوا ذلك كله “؛ فيه جواز أخذ غنائم المشركين المحاربين، وقسمتها على المسلمين المشاركين في الغزو.

ثالثا: سرية كعب بن عمير الغفاري إلى ذات أطلاح([10])

1-ملخص أحداث السرية:

أرخ الواقدي السرية بشهر ربيع الأول من السنة الثامنة للهجرة قال الواقدي: “ثنا محمد بن عبد الله، عن الزهري قال: “بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن عمير الغفاري في خمسة عشر رجلاً حتى انتهوا إلى ذات أطلاح من الشام، فوجدوا جمعاً من جمعهم كثيراً فدعوهم إلى الإسلام، فلم يستجيبوا لهم ورشقوهم بالنبل، فلما رأى ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلوهم أشد القتال، حتى قُتلوا فأفلت منهم رجل جريح في القتلى، فلما برد عليه الليل تحامل حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهمَّ بالبعث إليهم فبلغه أنهم قد ساروا إلى موضع آخر فتركهم”([11])

2-ما يستفاد من السرية من الفقه والعبر :

في قوله: “فدعوهم إلى الإسلام” فيه دلالة على أن غرض السرية غرض دعوي بالدرجة الأولى، وفيه بيان أن من السنة قبل بدء القتال الدعوة إلى الإسلام،

وفي قوله: “فلم يستجيبوا لهم ورشقوهم بالنبل” ؛ فيه حث على أخذ الحيطة والحذر من مكر الأعداء ، وأنهم لا يؤمن جانبهم.

وفي قوله: ” قاتلوهم أشد القتال، حتى قُتلوا “؛ فيه دلالة على جواز القتال والدفاع عن النفس والدين، وهذا فيه دلالة كذلك على أن طريق الدعوة إلى الله تعالى طريق شاق لابد له من الصبر والتحمل والتضحية.

الخاتمة :

وفي ختام هذا المقال خلصت إلى الآتي:

  • أن شهر ربيع الأول من الشهور التي وقع فيه العديد من الأحداث الخاصة بالسيرة النبوية ومنها “السرايا النبوية “.
  • انتقيت في هذا المقال السرايا المتفق عليها بين علماء أهل السير والمغازي، التي وقعت في هذا الشهر، دون الإشارة إلى تلك التي وقع فيها الخلاف.
  • أن كل سرية من هذه السرايا تحمل في طياتها العديد من العبر والفوائد الفقهية وقد اشرت إلى بعضها في المقال.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

***********************

هوامش المقال:

([1])  سيرة ابن إسحاق بتهذيب ابن هشام (3 /13).

([2])   صحيح البخاري (2/210) كتاب الرهن، باب:  رهن السلاح برقم: (2510).

([3])  الطبقات الكبرى (2 /28-29).

([4])  انظر قصة قتله في صحيح البخاري (2/210) كتاب الرهن، باب:  رهن السلاح برقم: (2510).

([5])  الروض الأنف (2/ 123).

([6])  المعلم بفوائد مسلم (3/ 41).

([7])  شرح صحيح البخاري لابن بطال (5 /204).

([8])  شرح ابن بطال (7/ 23).

([9]) مغازي الواقدي (2 /753 فما بعدها)

([10])  ذات أطلاح: موضع من وراء وادي القرى إلى المدينة أغزاه رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن عمير الغفاري في شهر ربيع الأول سنة ثمان. المعالم الأثيرة (ص: 30)

([11]) مغازي الواقدي (2/ 752)، وانظر مرويات مغازي الزهري (2 /677)

**********************

لائحة المصادر والمراجع المعتمدة:

الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه. لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، قام بشرحه وتصحيحه وتحقيقه: محب الدين الخطيب، رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، وقام بإخراجه وأشرف على طبعه: قصي محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية القاهرة، ط1/ 1400هـ.

الروض الأنف .لأبي القاسم عبد الرحمن بن عبد الله السهيلي . طبع بمطبعة الجمالية بمصر. 1332هـ- 1974مـ.

زاد المعاد في هدي خير العباد. لابن القيم الجوزية. حقق نصوصه وخرج أحاديثه وعلق عليه: شعيب الأرنؤوط- عبد القادر الأرنؤوط. مؤسسة الرسالة بيروت. ط 3/ 1418هـ- 1998مـ..

السيرة النبوية. لابن هشام. علق عليها وخرج أحاديثها وصنع فهارسها: عمر عبد السلام تدمري. دار الكتاب العربي بيروت. ط3/1410هـ- 1990م.

شرح ابن بطال على صحيح البخاري.لعلي بن خلف بن عبد الملك ابن بطال البكري القرطبي. حققه وخرج أحاديثه: مصطفى عبد القادر عطا. دار الكتب العلمية بيروت . (د.ت)

صحيح مسلم. وفي طليعته: غاية الابتهاج لمقتفي أسانيد كتاب مسلم بن الحجاج . لمحمد بن محمد مرتضى الزبيدي.دار طيبة. الرياض. ط1/ 1427هـ-2006مـ..

الطبقات الكبير. لمحمد بن سعد بن منيع الزهري.  تحقيق: علي محمد عمر. منشورات: مكتبة الخانجي القاهرة. ط1/ 1421هـ – 2001مـ.

مرويات الإمام الزهري في المغازي. لمحمد بن محمد العواجي. منشورات الجامعة الإسلامية السعودية. ط1/ 1425هـ – 2004مـ.

المعالم الأثيرة في السنة والسيرة. محمد محمد حسن شراب. دار القلم دمشق- الدار الشامية بيروت. ط1/ 1411هـ – 1991 م.

المعلم بفوائد مسلم. لأبي عبد الله محمد بن علي بن عمر المازري . تحقيق وتقديم: محمد الشاذلي النيفر. المؤسسة الوطنية بيت الحكمة 1991مـ.

المغازي. لمحمد بن عمر بن واقد الواقدي. تحقيق: مارسدن. عالم الكتب (د.ت).

*راجع المقال الباحث: محمد إليولو

Science

دة. خديجة أبوري

  • أستاذة باحثة مؤهلة بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق