مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

اختلال الضبط بسبب فقد البصر

بسم الله الرحمن الرحيم

تقديم:

الحمد لله الذي حفظ لنا هذا الدين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي حث الأمة على حفظ الحديث وحسن أدائه، وعلى آله وصحبه أجمعين ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.

 وبعد:

      فقد اشترط أهل الحديث شرط الضبط في رواية الراوي العدل، ولم يكتفوا بعدالته، حفاظا على سنة النبي صلى الله عليه وسلم من التغيير ؛سواء في السند، أو المتن، أو هما معا، وقد عبر المحدثون عن أهمية الضبط في رواية الحديث؛ وفي هذا يقول ابن الزناد: “أدركت بالمدينة مئة كلهم مأمون ما يؤخذ عنهم شيء من الحديث يقال ليسوا من أهله”([1])، وقال الإمام مالك ” لقد أدركت سبعين ممن يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذه الأساطين وأشار إلى المسجد، فما أخذت عنهم شيئا؛ وإن أحدهم لو أئتمن على بيت مال لكان به أمينا؛ لأنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن”([2])، وقال يحيى بن سعيد: “ينبغي أن يكون في صاحب الحديث غير خصلة، ينبغي لصاحب الحديث أن يكون ثبت الأخذ، ويفهم ما يقال له، ويبصر الرجال ثم يتعهد ذلك”([3])؛ لأجل ذلك جاء هذا المقال ليسلط الضوء على تعريف الضبط لغة واصطلاحا، وأقسامه، مع  الوقوف على سبب إعلال رواية الراوي وهو: ذهاب البصر، وذكر نماذج منتقاة من الرواة الذين رد حديثهم  بهذه العلة، وهذا أوان الشروع في المقصود فأقول وبالله التوفيق:

أولا: تعريف الضبط لغة واصطلاحا.

1-تعريف الضبط في اللغة:

من معاني الضبط في اللغة: الإتقان للعمل بيديه، واللزوم، والشدة، والامتلاء، والحزم.

قال ابن فارس: “الضاد، والباء، والطاء، أصل صحيح. ضبط الشيء ضبطا. والأضبط: الذي يعمل بيديه جميعا.” ([4]).

وقال الفيروز آبادي: ” رجل وجمل ضابط: قوي شديد …. وتضبطه: أخذه على حبس وقهر”([5]).

وقال ابن منظور: “الضبط لزوم الشيء وحبسه”([6]).

2-تعريف الضبط اصطلاحا:

عرفه ابن الأثير  (606هـ) في جامع الأصول بقوله: “وهو عبارة عن احتياط في باب العلم ، له طرفان. طرف وقوع العلم عند السماع ، وطرف الحفظ بعد العلم عند التكلم حتى إذا سمع ولم يعلم ، لم يكن شيئا معتبرا ، كما لو سمع صياحا لا معنى له ، وإذا لم يفهم اللفظ بمعناه على الحقيقة، لم يكن ضبطا، وإذا شك في حفظه بعد العلم والسماع، لم يكن ضبطا([7]).

عرفه الجرجاني (816هـ) في التعريفات: “إسماع الكلام كما يحق سماعه، ثم فهم معناه الذي أريد به، ثم حفظه ببذل مجهوده، والثبات عليه بمذاكرته ّإلى حين أدائه إلى غيره”([8]).

وقال البقاعي (885هـ) في النكت الوفية بقوله: “المقصود من الضبط الوثوق بأن هذا سمع هذا الحديث مثلا من شيخه، وهو ممن يصح تحمله وأداؤه”([9]).

وعرفه المناوي (902هـ)  في كتابه التوقيف على مهمات التعريف بقوله: “سماع الكلام كما يحق سماعه، ثم فهم معناه الذي أريد به ، ثم حفظه ببذل المجهود، وهو الثبات عليه بمذاكرته إلى حين أدائه إلى غيره “([10]).

ثانيا: أقسام الضبط:

قسم أهل الحديث الضبط إلى قسمين:

الأول: ضبط الصدر؛ ويسمى أيضا ضبط حفظ وهو : “أن يثبت الراوي ما سمعه من شيخه متقناً لذلك في حافظته؛ بحيث أنه يتمكن عادة من استحضاره له متى شاء؛ لكن لا يشترط أن يكون استحضاره دفعياً؛ بل يكفي أن يستحضره شيئاً فشيئاً على التدريج”([11]).

الثاني: ضبط الكتاب؛ وهو:  “صيانته أي: الكتاب إن كان حدث فيه لديه، أي: عنده منذ سمع فيه، وصححه إلى أن يؤدي منه ليصير حينئذ على يقين من عدم إدخال أحد فيه ما ليس منه”([12]) .

ثالثا: من أسباب إعلال الحديث: ذهاب البصر.

    يعد البصر في مسألة الضبط بقسميه  أمر له أهميته ، فضابط الكتاب يحتاج أن يقرأ كتابه من أجل الرواية والمقابلة، وضابط الصدر يحتاج إلى أن يعاود حفظه وكتابه من أجل ضبط مروياته، إما أن يقوم بذلك بمفرده، أو يستعين بمن يثق به ليعاونه على ذلك،  وعليه فإن ذهاب البصر  قد يؤدي في بعض الأحيان إلى دخول الوهم في بعض روايات الرواة مما يؤدي إلى حصول الاختلاف بين الروايات([13])،  لكن من الطبيعي مع تغير الزمان وتبدل الصحة،  أن يطرأ هذا العارض  على بعض الرواة، فيفقد بصره؛ حيث كان قبل ذلك يعتمد على كتابه ولا يحفظ جيدا، فيحدث بعد هذا العارض من حفظه ويغلط، ولا يدخل في هذا الصنف من ذهب بصره ولكنه كان قبل ذلك يحفظ مثل: وهيب بن خالد الباهلي الذي قال عنه ابن سعد في الطبقات: “كان وهيب قد سجن فذهب بصره، وكان ثقة كثير الحديث حجة، وكان يملي حفظا ” ([14]).

إن معرفة الأحوال العارضة التي تطرأ على بعض الرواة من القضايا التي تناولها علماء الحديث بالبيان ، وأولو ها العناية اللازمة، حيث ميزوا روايات هؤلاء وسبروها  لما لها من الأثر في الحكم على الرواية صحة وضعفا. وفيما يلي أذكر بعض الرواة الذين تكلم فيهم العلماء وأعلوا رواياتهم بسبب هذه العلة.

رابعا: نماذج منتقاة من الرواة الذين أعل حديثهم بسبب فقد البصر:

وممن تكلم فيهم علماء أهل الحديث بسبب فقده للبصر أذكر الآتي:

وهيب بن خالد

وهو : وهيب بن خالد بن عجلان الباهلي، أبو بكر البصري، ثقة ثبت؛ لكنه تغير قليلا بآخره، مات سنة 165 هـ، وقيل بعدها([15]).

قال ابن سعد: “كان قد سجن فذهب بصره، وكان ثقة كثير الحديث،… وكان يملي من حفظا”([16]).

قال الآجري: “وسمعت أبا داود يقول: ذهب بصره وتغير وهو ابن ثمان وخمسين سنة إن شاء الله يعني: وهيب بن خالد”([17]).

محمد بن ميمون

وهو:  محمد بن ميمون المروزي، أبو حمزة السكري، ثقة فاضل، مات سنة 167ه، أو 168هـ. ([18]).

قال أبو داود: “سمعت أحمد قال: من سمع من أبي حمزة السكري وهو مروزي قبل أن يذهب بصره فهو صالح، سمع منه علي بن الحسن قبل أن يذهب بصره، وسمع عتاب بن زياد بعدما ذهب بصره”([19]).

قال النسائي في سننه في أبي حمزة : ” هو مروزي لا بأس به، إلا أنه كان ذهب بصره في آخر عمره . فمن كتب عنه قبل ذلك فحديثه جيد”([20]).

علي بن مسهر:

وهو: علي بن مسهر القرشي الكوفي، قاضي الموصل، ثقة له غرائب بعد ما أضر، مات سنة 189هـ([21]).

قال أحمد في رواية الأثرم : “كان علي بن مسهر قد ذهب بصره، فكان يحدثهم من حفظه” ـ([22])

عبد الرزاق الصنعاني:

وهو: عبد الرزاق  بن همام بن نافع الحميري مولاهم، أبو بكر الصنعاني، ثقة حافظ مصنف شهير، عمي آخر عمره فتغير وكان يتشيع، مات سنة 211هـ وله 85 سنة([23]).

قال أبو زرعة: أخبرني أحمد بن حنبل، قال:” أتينا عبد الرزاق قبل المئتين، وهو صحيح البصر ،ومن سمع منه بعدما ذهب بصره، فهو ضعيف السماع”([24]).

وقال ابن حجر ،عن الأثرم ،عن أحمد: “من سمع من عبد الرزاق بعدما عمي فليس بشيء، وما كان في كتبه فهو صحيح، وما ليس في كتبه، فإنه كان يلقن فيتلقن”([25]).

الخاتمة:

من خلال ما تقدم خلصت إلى الآتي:

1-من شروط الرواية: الضبط والعدالة.

2-أهمية الضبط في رواية الحديث.

3-من معاني الضبط في اللغة الإتقان للعمل بيديه، واللزوم، والشدة، والامتلاء، والحزم.

4-معنى الضبط اصطلاحا: سماع الكلام وفهم معناه، ثم حفظه والثبات عليه بمذاكرته إلى حين آدائه إلى غيره.

5-قسم أهل الحديث الضبط إلى: ضبط صدر وضبط كتاب.

6-يعد البصر في مسألة الضبط بقسميه  أمر له أهميته ، فضابط الكتاب يحتاج أن يقرأ كتابه من أجل الرواية والمقابلة، وضابط الصدر يحتاج إلى أن يعاود حفظه وكتابه من أجل ضبط مروياته، إما أن يقوم بذلك بمفرده، أو يستعين بمن يثق به ليعاونه على ذلك.

7-مع تغير الزمان وتبدل الصحة من الطبيعي أن يطرأ فقد البصر على بعض الرواة. .

8-إن معرفة الأحوال العارضة التي تطرأ على بعض الرواة من القضايا التي  تناولها علماء الحديث بالبيان؛ لما لها من الأثر في الحكم على الرواية صحة وضعفا.

9-هناك بعض الرواة الذين تكلم فيهم علماء الحديث بسبب فقدهم البصر وقد ذكرت أربعة منهم.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات   

**********************

هوامش المقال:

([1]) تهذيب الكمال في أسماء الرجال (1 /26).

([2]) ترتيب المدارك (1 /57).

([3]) معرفة علوم الحديث (ص: 15).

([4]) معجم مقاييس اللغة (2 /60) مادة: “ضبط”.

([5]) القاموس المحيط (ص: 675) مادة: “ضبط”.

([6]) لسان العرب (7 /340) مادة: “ضبط”.

([7]) جامع الأصول في أحاديث الرسول (1/ 72).

([8]) التعريفات (ص: 204).

([9]) النكت الوفية (1/ 169).

([10]) التوقيف على مهمات التعريف (ص: 221).

([11]) اليواقيت والدرر (1 /211).

([12]) اليواقيت والدرر (1 /211).

([13]) أثر اختلاف المتون والأسانيد (ص: 26) بتصرف يسير.

([14]) أثر اختلاف المتون والأسانيد (ص: 26) بتصرف.

([15])  التقريب (ص: 1045).

([16])  الطبقات الكبرى (7 /211).

([17])  سؤالات الآجري (3/ 275).

([18]) تقريب التهذيب (ص: 901).

([19]) سؤالات أبي داوود (ص: 359).

([20]) سنن النسائي الكبرى (2/ 122).

([21]) تقريب التهذيب (ص: 705).

([22]) شرح علل الترمذي (ص: 195).

([23]) تقريب التهذيب (ص: 607).

([24]) سير أعلام النبلاء (9 /565).

([25]) هدي الساري مقدمة فتح الباري (1 /577).

***************************

لائحة المصادر والمراجع المعتمدة:

أثر اختلاف الأسانيد والمتون في اختلاف الفقهاء. د ماهر ياسين الفحل. دار الكتب العلمية بيروت لبنان. 1430هـ- 2009مـ..

ترتيب المدارك وتقريب المسالك. لمعرفة أعلام مذهب مالك لأبي الفضل عياض بن موسى اليحصبي. ضبطه وصححه: محمد سالم هاشم. دار الكتب العلمية بيروت 2012مـ.

تقريب التهذيب. لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني. حققه وعلق عليه ووضحه وأضاف إليه: أبو الأشبال صغير أحمد شاغف الباكستاني. تقديم: بكر بن عبد الله أبو زيد. دار العاصمة الرياض. الطبعة2/1423هـ

تهذيب الكمال في أسماء الرجال. لأبي الحجاج جمال الدين يوسف بن عبد الرحمن المزي. تحقيق: عمرو سيد شوكت. دار الكتب العلمية بيروت لبنان 2018 مـ.

التوقيف على مهمات التعاريف. لعبد الرؤوف بن المناوي. تحقيق: د. عبد الحميد صالح حمدان. عالم الكتب القاهرة. ط1/ 1410هـ- 1990مـ

جامع الأصول في أحاديث الرسول. لأبي السعادات المبارك بن محمد ابن الأثير الجزري. حقق نصوصه وخرج أحاديثه وعليق عليه: عبد القادر الأرناؤوط. نشر وتوزيع: مكتبة الحلواني- مطبعة الملاح- مكتبة دار البيان. ط 1389هـ- 1969مـ.

السنن الكبرى. لأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي. دار الكتب العلمية بيروت لبنان. تحقيق: د عبد الغفار سليمان البنداري- سيد كسروي حسن. ط1/ 1411هـ- 1991مـ

سؤالات أبي داود لسليمان بن الأشعث السجستاني. لأحمد بن حنبل في جرح الرواة وتعديلهم.  دراسة وتحقيق: زياد محمد منصور. مكتبة العلوم والحكم المدينة المنورة السعودية. ط1/ 1414هـ- 1994مـ

سؤالات أبي عبيد الآجري أبا داوود السجستاني في الجرح والتعديل. دراسة وتحقيق: محمد علي قاسم العمري.  المجلس العلمي إحياء التراث الإسلامي الجامعة الإسلامية المدينة المنورة. ط 1399هـ- 1979مـ

سير أعلام النبلاء(ج 09). لشمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي. حققه:   شعيب الأرنؤوط- كامل الخراط. مؤسسة الرسالة بيروت. ط1/ 1402هـ- 1982مـ

شرح علل الترمذي. لأبي الفرج زين الدين عبد الرحمن ابن رجب الحنبلي. حققه وعلق عليه: خالد عبد الفتاح شبل. دار الكتب العلمية بيروت لبنان. 2007مـ

الطبقات الكبرى. لمحمد بن سعد بن منيع المعروف بابن سعد. دراسة وتحقيق: محمد عبد القادر عطا. 2017مـ

الطبقات الكبرى. لمحمد بن سعد بن منيع الهاشمي المعروف بابن سعد. دراسة وتحقيق: محمد عبد القادر عطا. دار الكتب العلمية بيروت لبنان. 2017مـ

القاموس المحيط. لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي. تحقيق: مكتب التراث في مؤسسة الرسالة بإشراف محمد نعيم العرقسوسي. ط8 /1426هـ- 2005مـ

لسان العرب. لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم ابن منظور . دار صادر بيروت. ط 3 / 1414هـ- 1994مـ.

معجم التعريفات (قاموس المصطلحات وتعريفات علم الفقه، واللغة، والفلسفة، والمنطق، والتصوف، والنحو ،والصرف، والعروض، والبلاغة). لعلي بن محمد بن علي بن الزين الشريف الجرجاني. دار ميراث النبوة القاهرة. ط1/ 1442هـ- 2021مـ.

معجم مقاييس اللغة. لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا الرازي. وضع حواشيه: إبراهيم شمس الدين. دار الكتب العلمية بيروت . 2011مـ

معرفة علوم الحديث. لأبي عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري. طبع تحت إدارة جمعية دائرة المعارف العثمانية حيدار أباد. تصوير : دار الكتب العلمية بيروت 2016مـ.

النكت الوفية بما في شرح الألفية. لبرهان الدين إبراهيم بن عمر البقاعي. حقق نصوصه وخرج أحاديثه وعلق عليه: د  ماهر ياسين الفحل. مكتبة الرشد الرياض. ط1/ 1428هـ- 2007مـ.

هدي الساري مقدمة فتح الباري. لشهاب الدين أحمد بن علي بن حجر العسقلاني . رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي. دار الكتب العلمية بيروت لبنان. 2011مـ.

*راجع المقال الباحث: محمد إليولو

Science

دة. خديجة أبوري

  • أستاذة باحثة مؤهلة بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق