مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

اغتنام الشرة وترشيد الفترة

بسم الله الرحمن الرحيم

          عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ شِرَّةً، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةً، فَإِنْ كَانَ صَاحِبُهَا سَدَّدَ وَقَارَبَ فَارْجُوهُ، وَإِنْ أُشِيرَ إِلَيْهِ بِالأَصَابِعِ فَلاَ تَعُدُّوهُ.”[1]

        الشِّرة بكسر الشين المعجمة وتشديد الراء، الحدة والنشاط، يقال: أعوذ بالله من شرة الغضب، ومنه شرة الشباب؛ حرصه ونشاطه، و الشرارة ما يتطاير من النار، جمعه شرر[2] ، ومنه قوله تعالى: “إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ” [المرسلات:32]، وفي الشـرة اندفاع وتوهج لا يستمر، كما في الشـرارة سواء، فلهيبها يتلاشى  ويضمحل في الهواء، و ربما اندفع و بقي متوهجا إلى أن يحرق الجسم الذي سقط عليه، فلا ينتفع به الانتفاع الرشيد.

  فقوله: “إن لكل شيء شرة” أي: حرصاً على الشـيء، ونشاطاً ورغبة في الخير أو الشر، والمراد بها في الحديث رغبة النفس في الخير وحرصها عليه، كما يفهمه سياق الحديث،  “ولكل شرة فترة” بفتح الفاء وسكون التاء أي وهناً وضعفاً وسكوناً، “فإن” شرطية، “كان صاحبها سدد وقارب” أي: جعل صاحب الشـرة عمله متوسطاً، وتجنب طرفي إفراط الشـرة وتفريط الفترة، “فارجوه” أي :ارجو الفلاح منه، فإنه يمكنه الدوام على الوسط، وأحب الأعمال إلى الله أدومها، “وإن أشير إليه بالأصابع” أي: اجتهد وبالغ في العمل ليصير مشهوراً بالعبادة والزهد، وصار مشهوراً مشاراً إليه، “فلا تعدوه” أي: لا تعدوه  ولا تحسبوه من الصالحين.. ولم يقل: فلا ترجوه، إشارة إلى أنه قد سقط، و يمكنه تدارك ما فرط.

         ولكل شرة فترة، أي ضعف وخمول، وسكون في آخره، فالعابد يبالغ في العبادة أولا، ثم تسكن شرته وتفتر عزيمته، لذا وجه النبي صلى الله عليه وسلم أصحاب هذه الحال بقوله:  “فمن كانت فترته” أي : فمن كانت فترة خموله وضعفه إلى سنتي فقد اهتدى، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم الاقتصاد والتوسط مع المداومة والإخلاص لله، وعدم الرياء و السمعة، “ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلك”.[3]؛ لأن من سلك غير هديه فقد ضل واعتدى، وزاغ عن السواء و ما اهتدى

      قال أبو جعفر: “فطلبنا معنى هذه الشرة المذكورة في هذه الآثار ما هو؟ فوجدنا بكار بن قتيبة قد حدثنا، قال: حدثنا إبراهيم بن بشار، قال: حدثنا سفيان عن عمرو عن طاوس قال: ” ذكر الاجتهاد، فقيل: تلك حدة الإسلام وشرته, ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنة فقد هدي, ومن كانت فترته إلى بدعة أو ضلالة فقد ضل. قال أبو جعفر: فوقفنا بذلك على أنها هي الحدة في الأمور التي يريدها المسلمون من أنفسهم في أعمالهم التي يتقربون بها إلى ربهم عز وجل, وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب منهم فيها ما دون الحدة التي لا بد لهم من التقصير عنها، والخروج منها إلى غيرها, وأمرهم بالتمسك من الأعمال الصالحة بما قد يجوز دوامهم عليه, ولزومهم إياه حتى يلقوا ربهم عز وجل عليه، وروي عنه صلى الله عليه وسلم في كشف ذلك المعنى أنه: ” أَحبُّ الأعمالِ إلى اللهِ أَدْومُها وإن قَلَّ”[4].

      أدلفت بهذه النصوص بين يدي الموضوع تنبيها على ظاهرة تدر بقرنها بعد انسلاخ شهر رمضان؛ حيث إن كثيرا ممن لا يفهم جوهر التدين وكنهه، يخف عزمه، وينحل قصده، وتفتر همته، فلا يبقى له النشاط و الإقبال الذي كان عليه في رمضان، فربما ترك تدينه كلية، وإما تسـرب إليه الداء رويدا رويدا حتى يفرط في ضروري الدين ومتحتمه، فيتهاون بالصلاة المكتوبة، وربما يتركها كلية، ويهجر تلاوة كتاب ربه وسماعه، ويتبرأ مما اعتاد الإتيان به في شهر رمضان من خلال مرضية، وأعمال منجية… وقد صار هذا الحال عادة  كثير من المنتسبين للإسلام، يتعبد شهرا ويجتهد فيه أيما اجتهاد، ويشد الرحال للصلاة في المساجد البعيدة وربما أضاف إلى ذلك ما تيسـر له من نوافل الخيرات.. فإذا ما أهل شهر شوال، ودع ما المساجد، وترك التبتل، وتنكر لحاله، وارتد وارتكس، و تقاعس وارتكس، وركب الهوى، وتمنى على الله الأماني، وكأن عبادة الواحدة مشـروعة في رمضان، و سواه من الأيام راحة واستجمام.

          إن الذي ينبغي أن يعقد عليه المسلم قلبه، ويجعل تحقيقه غاية مراده، هو أن يدخل دائرة العبدية حياته، وأن لا يفتر عن قرع الباب، ولزوم الأعتاب، والمبادرة إلى رضى رب الأرباب، ولا يتأتى منه ذلك إلا إن كان عليما بدواخل نفسه، خبيرا بمؤشر الإيمان في قلبه، فإن وجد من نفسه خفة ونشاطا، بادرها بالأعمال واجتهد، وعلم أن تلك الحال شرة، وهي اندفاع وطاقة وقتية، فليغتنمها، وليوجهها، و لينشد مع الشاعر قوله: “إذا هبت رياحك فاغتنمها”، وإن لمس منها رعونة وانقباضا، علم أن تلك هي الفترة المخبر عنها في الحديث: “ولكل شرة فترة”  فيلزمها آكد أوامر الإسلام، وليتجند لذلك وليتصبر، وليقاوم ويتجلد، تيقنا منه أن الاستخفاف بذلك موقع له في حبالة عدوه، مجهز على حياة قلبه، معكر عليه صفاء روحه.

            قال ابن القيم: “فتخلل الفترات للسالكين أمر لازم لابد منه، فمن كانت فترته إلى مقاربة  وتسديد، ولم تخرجه من فرض، ولم تدخله في محرم، رُجي له أن يعود خيرا مما كان، قال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: إن لهذه القلوب إقبالا وإدبارا، فإذا أقبلت فخذوها بالنوافل، وإن أدبرت فألزموها  بالفرائض.’ وفي هذه الفترات والغيوم والحجب، التي تعرض للسالكين: من الحكم ما لا يعلم تفصيله إلا الله، وبها يتبين الصادق من الكاذب، فالكاذب ينقلب على عقبيه، ويعود إلى رسوم طبيعته وهواه، والصادق ينتظر الفرج، ولا ييأس من روح الله، ويلقي نفسه بالباب طريحا ذليلا مسكينا مستكينا[5]“.

فيقظة المكلف أن يستغل حال الشرة وتوهجها، فإذا ما خبت، وتملك نفسه الوهن، و اعترى همته الضعف، بقَّى على ما به قوام تدينه، مما لا ينبغي التفريط فيه بحال.

نسأل الله حسن التحنت، وكمال التنسك.

[1] رواه الترمذي في السنن، رقم:2453.

[2] مختار الصحاح.

[3] ينظر تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، 5/184.

[4] شرح مشكل الآثار، باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: ” لكل عمل شرة ” وأورد فيه جملة أحاديث، 3/270.

[5] مدارج السالكين، 3/122.

Science

د.عبد الجليل الحوريشي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق