مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكأعلام

مولاي الطيب بن محمد الوزاني(ت.1181هـ/1767م) سيـرة شيـخ وزاويـة

2- نشأته، مشيخته ونفوذ زاويته

مولاي الطيب بن محمد بن عبد الله الشريف الحسني العلمي اليملحي الوزاني هو الشيخ الرابع لزاوية وزان، يتصل عمود نسبه بسيدي محمد بن إدريس بن إدريس بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء بنت سيدنا ومولانا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم(28). ولد بحي «دار السقف» بوزان في عام 1101هـ/1689م، وبها «نشأ…في كفالة الولاية، راضعاً لبن السلوك من ثدي الهداية»(29).

أخذ العلوم الصوفية عن والده الشيخ سيدي محمد، وعن أخيه الشيخ مولاي التهامي، فكان له من كل واحد يومئذ شيء يُغْنيه، ثم أخذ أيضاً عن الشيخ سيدي محمد ابن الفقيه الزجني(ت.1136هـ/1724م) دفين زاويته الشهيرة به بمدارج العيون بفاس. وكان أخوه الشيخ مولاي التهامي في قائم حياته ينوه بقدره، ويخبر بعلو مقامه وفخامة أمره، قرَّبه منه بعد وفاة أبيهما عام 1120هـ/1708م، فشمله بعنايته ورعايته، وأمره أن لا يفعل فعلاً إلا عن إذنه ومشورته، وأن لا ينتسب في الطريقة إلا إليه، قائلاً له: «السِّرُّ سِرِّي، فَسِرْ بِسَيْرِي ولا تُنْسَبْ إلى غَيْرِي»(30). فانقطع مولاي الطيب حينئذ إلى أخيه مولاي التهامي، وشمر عن ساق الجِد لخدمته، لما استشعر بإشارته من جميل القصد، وأنه لا محالة يطلعه في دروج سعده، ويقصر الأمر عليه، وفي تولية عهده(31).

وحين توفي الشيخ مولاي التهامي عام 1127هـ/1715م، لم تنتقل المشيخة إلى ذريته وإنما انتقلت إلى أخيه مولاي الطيب، ومن يومها وهي في عقبه. وقد احتفظت المصادر التاريخية بإشارات صريحة عن توريث الشيخ مولاي التهامي سرَّه ومشيخة زاويته من بعده لأخيه مولاي الطيب، فمن ذلك ما أورده حمدون الطاهري الجوطي في مؤلَّفه «تحفة الإخوان» عن الفقيه العلامة محمد المشاط الفاسي(ت.1136هـ/1724م) حينما كان مقيماً عند الشرفاء بوزان أنه قال: «كنتُ جالساً مع مولاي التهامي فقلتُ: يا سيدي، إذا قضى الله بوفاتك فلمن تتركنا من بعدك؟ فقال: ألم تره ها هو مقبل؟ قال: فالتفتُّ فإذا جماعة من إخوانه، فقلتُ: هؤلاء إخوانك بارك الله فيهم، فمن هو منهم؟ فقال رضي الله عنه: ألم تَرَ الطيِّب! الطيِّب ونعم الطيِّب، حملوا له الحمل وزادوه العلاوة!»(32).

ومنها ما انفرد به أحمد ابن الحاج السلمي في «الدر المنتخب» حينما ذكر في معرض ترجمته لسيدي محمد بن مولاي التهامي الوزاني دفين حومة الشرشور بفاس(ت.1150هـ/1737م) قائلاً: «ولما مرض والده مولاي التهامي بوازان سار (سيدي محمد) إليه، وأقام أيَّاماً حتى احتضر، فطلب منه الفقراء أصحابه أن يبيِّن لهم مَن هو الوارث سره فقال لهم: لو كان ذلك بالعصبة لم يكن أحد أحقّ به من أخي عبد الله هذا، وكان حاضراً، لأنه كان يسير في الملبس والأكل والركوب بسيرة الولاة، ولو كان بقرابة اللحم والدم لم يكن أحدا أحق به من محمد هذا، وكان حاضراً، يعني ولده، وحيث كان ذلك لمن هو أقرب روحاً ونفساً فليس له أحد أقرب روحاً ونفساً من هذا الطيب بن محمد، يعني أخاه مولاي الطيب، وكان حاضراً، فأذن له بمحضرهم في قبول الخلق وتربيتهم وجمعهم على الله، وتلقينهم الأحزاب والأوراد والجلالة وغير ذلك مما هو معلوم في طريقهم، فأقام مولاي الطيب بذلك بعده أحسن قيام»(33).

وخلال مشيخته الطويلة(1127-1181هـ/1715-1767م) عرفت الزاوية الوزانية تطوراً ملحوظاً على المستويين الروحي والمادي: فعلى المستوى الروحي تمكن الشيخ مولاي الطيب من تأسيس زوايا جديدة بجهات متعددة من المغرب، ففرض نفوذه الروحي حتى في بلاد ظلت منذ أزمان بعيدة موقوفة على زوايا معينة، كبلاد تادلة، حيث كان أهلها من أتباع الزاوية الشرقاوية يأتون كل سنة إلى وزان لزيارة هذا الشيخ، حاملين هداياهم إليه، قصد التبرك به والتتلمذ عليه، إلى أن ترسخ في عقول الناس أن «أهل وزان يتصرفون في بلاد تادلة، والشرقيون لا يتصرفون في البلاد الهبطية!»(34). وصار الشرقاويون على درجة كبيرة من الاعتقاد في بركته وولايته، إلى الحد الذي جعل شيخ زاويتهم صاحب «ذخيرة المحتاج في الصلاة على صاحب اللواء والتاج» سيدي المعطي بن الصالح الشرقي(ت.1180هـ/1766م) يُقْسِم في حقه قائلاً: «والله لو تغيرت في مولاي الطيب شعرةٌ واحدةٌ ما ربح واحدٌ في هذا القطر المغربي لا أنا ولا غيري!»(35).

ولم يقتصر نفوذه الروحي على بلاد المغرب وحسب، وإنما امتدَّ إلى أطراف بعيدة من البلاد العربية والإسلامية(36)، وهذا ما يشير إليه صاحب «الروضة المقصودة» من أن هذا الشيخ «طار له الصيت المعجب في جميع البلاد من المشرق والمغرب، فانحشر الناس لزيارته من أقصى المعمور، ووقع خبره على وفق الخبر المأثور، فكان لا يصل الزائر لزيارته في الغالب إلا بعد أيام، فعلى بابه يُقال: تَنَكَّبْ لاَ يقَطِّرْكَ الزِّحَامُ. فمن ثَمَّ انتشرت أتباعه في عامة الأقطار، وعمرت زواياه بالإخوان والفقراء في سائر البوادي والأمصار»(37).

ونقرأ في «التقاط الدرر» وفي «نشر المثاني» عن هذا الإشعاع الروحي لزاوية وزان في عهد مولاي الطيب، بأن الشيخ مولاي الطيب كان «له صيتٌ عال كبير جدًّا، تشد لزيارته الرحال من كل الآفاق البعيدة، وزواياه في غالب ما استحضر اسمه من مدن المغرب وما والاه وبعض المشرق»(38).

وهكذا يبدو أن هذا الشيخ أعطى لزاويته سمعة دولية مهمة، ويكفي أن نذكر على سبيل المثال أن الفضل في انتشار الطريقة الوزانية واتساع مجالها الجغرافي في الجزائر وتونس يُعزى إليه وحده، حتى كانت الزوايا الوزانية الموجودة هنالك تدعى بـ«الزوايا الطيبية»(39).

إن هذه المعطيات التاريخية التي تكشف بجلاء كبير عن هيبة الشيخ مولاي الطيب ومنزلته الروحية داخل المغرب وخارجه تجعلنا نشكك فيما حكاه عنه المؤلف أبو محمد عبد السلام بن أحمد السكيرج(ت.1250هـ/1834م) في كتابه «نزهة الإخوان»، عندما قال إن والده أحمد السكيرج أخبره بأنه لما ذهب إلى طنجة مقر الباشا أحمد بن علي الريفي وجد أمام هذا الباشا رجلاً طويل القامة، أشهب، عليه سلهام بالجمم من القْيام، وقد التفت إليه الباشا أحمد وقال له: إن السلطان مولاي إسماعيل أَمَرَ أن لا يشاركني أحد في الظلم، وأنت تطلق أحفادك في المداشر ينصفون الناس(أي يقبضون منهم الهدايا)، عليَّ عهد الله إن شعرتُ بواحد من أحفادك أتى مدشراً لأقلعنَّ رأسك. قال والد المؤلف السكيرج: فسألت عن ذلك الرجل، فقيل لي هو مولاي الطيب الوزاني، وقد مضت عليه مدة ثلاثة أشهر وهو ينتظر سماح الباشا له بالمقابلة، فلم يسمح له بذلك إلا في هذا اليوم!(40)

إنها رواية يصعب على مَن أوتي عقلاً سليماً أن يصدقها ويُسلِّم بصحة مضمونها، نظراً لغرابتها من ناحية، ومبالغتها في شأن الباشا المذكور، وتهويلها من نفوذ سلطته وسطوته من ناحية أخرى. إذ كيف يتأتى لشيخ صوفي «انحشر الناس لزيارته من أقصى المعمور»، ولصاحب زاوية شهيرة توسع امتدادها المجالي داخل المغرب وخارجه أن تمضي عليه مدة ثلاثة أشهر وهو واقف بباب قائد مخزني ينتظر السماح له بالمقابلة؟ هل يستقيم الحديث عن تهديد قائد مخزني لشيخ زاوية بقطع رقبته في ظل علاقة هذا الشيخ الطيبة بسلطان الوقت؟ نعم، قد حصل هناك توتر في علاقة الباشا بالشيخ المذكور حسبما نذكره لاحقاً، لكنه توتر لم يصل إلى حد التهديد بقطع الرأس كما رأينا. لذلك نعتبر ما قيل عن الشيخ مولاي الطيب في الحكاية المذكورة كلاماً أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع، بل هو الخيال عينه حسب اعتقادنا من أول وهلة.

أما على المستوى المادي فإن وزان أضحت في عهد هذا الشيخ مدينةً متكاملة المعالم، بحيث تحولت من قرية صغيرة إلى مدينة تضاهي في الحضارة سائر مدن المغرب(41)، فقد جدَّد بناء المسجد الأعظم ووسَّعه بأن زاد فيه أكثر مما كان عليه من بناء جده مولاي عبد الله الشريف، وزيَّنه بالزليج الفاسي الرفيع، وبالخصة التي أهديت له من طنجة، وبسقاية الماء، وبنى المدرسة، والحوانيت، والفنادق، وعمَّر الأسواق، ومدَّ قنوات الماء، وغير ذلك مما ميَّزها عن حال المداشر إلى حال التمدن والحواضر(42)، وهو ما جعل العديد من تجار المدن الأخرى كفاس وأعيان القبائل الحريصين على تأمين ذويهم وأموالهم داخل حرم الزاوية يتقاطرون على مدينة وزان(43)، ويُسهمون إلى جانب شرفاء «دار الضمانة» في تنمية المدينة وتحضُّرها.

كما تكوَّنت لديه ثروات طائلة، إذ منذ تولّيه المشيخة صرف جهده لتنمية مداخيل الزاوية، فاشتغل بشراء الأراضي الزراعية والتملك بالدور والدكاكين حتى أضحى من أغنياء عصره، وصار «له مال عريض، قلما تخلو بلاد من مدن المغرب وباديته من أملاكه مما هو معتبر جِدًّا عند أهله»(44). وقد أكد تلميذه حمدون الطاهري الجوطي على اتساع ثروة هذا الشيخ وتعدد أملاكه حينما قال: «فلا تكاد تمر بقطر من الأقطار إلا وتجد له فيه ربعاً وبساتين وثماراً وأشجاراً»(45).

وإلى هذا الشيخ يعود فضل السبقية في انتشار غراسة الحوامض بمدينة تازة وأحوازها، إذ يشير تلميذه صاحب «الكوكب الأسعد» أن شيخه مولاي الطيب كانت له أراضي بمصب الماء داخل تازة فـ«أتقن غرسها، وجعل فيها من أصناف الأشجار على اختلاف أنواعها، وجعل فيها ما كان مفقوداً ومعدوماً في مدينة تازة من اللتشين وما في معناه من الأترنج والليمون الحلو والحامض وغير ذلك من أنواعه، وكان ما ذُكر من اللتشين وأنواعه مفقوداً بمدينة تازة وأحوازها، وكان لا يأتيها إلا مجلوباً من البلدان من وازان وجبالها، ومن وقتئذ كثر غرسه والنفع به في المدينة ونواحيها إلى وقتنا هذا ببركة شيخنا مولاي الطيب»(46)، على حسب شهادته.

وكانت هدايا الزوار وعطاياهم من المصادر الأساسية لثراء زاوية الشيخ مولاي الطيب، بحيث كان الواردون عليه من أتباعه ومحبيه «يقصدونه بالهدايا من كل أوب، ويتقربون إليه بذلك من كل صقع، ومن تعذر عليه الوصول إليه يبعث له الهدية مع الأصحاب أو المقدمين خلائفه فيهم، و(كانت) تأتيه الهدايا من مشرق الأرض ومغربها وسودانها برًّا وبحراً»(47). واستمر الأمر على هذه الحال طول أيامه إلى أن «اتسعت أمواله من جباية الزائرين بما لم يعهد مثله لأحد من أكابر الصالحين، حتى تملك من ذلك رباعاً معتبره في كثير من البلاد»(48).

الصفحة السابقة 1 2 3 4الصفحة التالية

د. محمد العمراني

أستاذ التعليم العالي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، سايس، فاس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق