مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكأعلام

مولاي الطيب بن محمد الوزاني(ت.1181هـ/1767م) سيـرة شيـخ وزاويـة

3- وظائفه الحيوية

منذ تصدره مشيخة زاوية وزان اضطلع الشيخ مولاي الطيب بوظائف حيوية لخدمة المجتمع والدولة على السواء، ولعل أبرز هذه الوظائف ما يتصل بالقضايا التربوية والاجتماعية والسياسية، والتي تصدى لها الشيخ بعزيمة وثبات، ونكران ذات، فتبوأت بذلك زاويته مكانة روحية واجتماعية معتبرة في الأوساط المغربية(49).

أ- وظيفته الاجتماعية

تعددت إسهامات الشيخ مولاي الطيب في خدمة أفراد المجتمع، والاستجابة لحاجاتهم الملحة، في زمن حطمت فيه الأزمات المتراكمة شروط الأمن والاستقرار. فذكرت المصادر التاريخية أنه كان «يحب المساكين، ويواصل أهل الدين، ويعظم أهل البيت ويأمر بمحبتهم وخدمتهم، يوقر الكبير، ويرحم الصغير، ويواسي الفقير، وينزل البعيد منزلة القريب»(50)، وأن زاويته اشتهرت خلال مشيخته بالجود والعطاء، وأصبحت داراً مجانية للضيافة، وإطعام الطعام للمريدين، والأتباع والوافدين، وذاع صيته في هذا المجال ذيوعاً كبيراً، حتى كانت «يده…بالخير مبسوطة، ومائدته بكل خير منوطة، يُطعم الوارد والصادر، والحاضر والمسافر، لا يبخل بالعطا، ولا يَمنُّ بما أعطى»(51).

وترك صاحب «نشر المثاني» شهادة بينة في حق هذا الشيخ توضح أنه كان مثالاً في الجود وإطعام الطعام «يطعم الجميع بأنواع الأطعمة على اختلاف أنواعها، يخص أهل الحواضر بطعامهم الذي يناسبهم، وأهل البوادي كذلك، ويستكفي جميع الزائرين على الدوام والاستمرار من غير كلفة ولا مشقة تلحقه في ذلك، ولم نسمع في هذه المائة -يقول القادري- من يطعم الطعام مثله لا بمشرق الأرض ولا في مغربها ولا في سُودانها، ومع هذا كله لا يباشر من الوقوف على ذلك شيئاً، وإنما يقف عليه نوابه غداةً وعشيًّا، حتى إذا نظرتَ إلى أبواب دُور الطعام المعيَّنة للطبخ تقول إنهم لن يطعموا أحداً، فإذا وصل وقتُ خروجه بُهِتْتَ من كثرته مع تنوعه وكثرة مَن يحمله إلى الأضياف»(52).

وسهر على تقديم الكساء للفقراء والمساكين، ومنح الصلات والعطايا للمحتاجين، فقد أخبرنا الطاهري أن هذا الشيخ أمر خُدَّامه بكسوة أحد الشرفاء العلميين وإرساله إلى أهله راشداً(53). وذكر صاحب «التحفة القادرية» أن قواد السلطان مولاي عبد الله العلوي لما نهبوا سكان زاوية صرصر قدِم أبناء الشيخ سيدي علي بن أحمد الصرصري(ت.1027هـ/1618م) على هذا الشيخ حفاةً عراةً «فكساهم بنحو ألف مثقال وفرق عليهم نحو ألف مثقال»(54)، وأنه فرَّق على شرفاء فاس وطلبتها وفقرائها نحو خمسمائة مثقال أثناء زيارته لهذه المدينة عام 1156هـ/1743م(55). أما الزبادي صاحب «سلوك الطريق الوارية» فيحدثنا عن نفسه أنه حلَّ بوزان عند رجوعه من زيارة ضريح مولاي عبد السلام بن مشيش، فوصله مولاي الطيب بوسقين من القمح، وتكفل بنفقة من يحملهما له إلى فاس(56). والإشارات من قبيل هذا المعنى كثيرة أضربنا عنها تجنباً للتطويل.

وتصدر الشيخ مولاي الطيب لوظيفة الصلح والوساطة بين الناس، سواء بين القبائل والمخزن من جهة أم بين القبائل المتناحرة فيما بينها من جهة أخرى، وذلك بهدف دفع المظالم وإحلال السلم والاستقرار في البلاد، وهي مهمة لم تكن تسند إلا لمن توفرت فيهم الشروط اللازمة لذلك، كالشرف والولاية والصلاح والاستقامة، والحياد في النزاع، والتجسيد الفعلي للحق والعدل في الأحكام، والتجرد من السلاح والسمعة الطيبة داخل البلاد(57).

فقد كان «يتلقى عن المسلمين الكلف بنفسه وماله، ويقاسي في إيصال ذلك إليهم الشدائد، ويرفع عنهم يد كل ظالم ومعاند»(58)، فمن مساعيه الحميدة في هذا الشأن مطالبته باشا فاس بتسريح رجل من أصحابه من قبيلة بني مالك(59)، وسعيه لدى السلطان المولى عبد الملك بن إسماعيل في إطلاق سراح بعض المساجين من قبيلة بني زروال(60)، ثم وساطته بين السلطان علي الأعرج بن إسماعيل وشرفاء فاس عام 1147 هـ/1734م في شأن تسريح مساجين أهل فاس من سجن مكناس(61).

وفضلاً على ذلك، كان كثيراً ما يتدخل لتهدئة الأوضاع بين القبائل المتنازعة عن طريق تفعيل وظيفة التحكيم، «إذ قد تُغير بعض الطائفة الباغية على ضعفاء المؤمنين ينهبون أموالهم، فيبعث إليهم براءته فيردون جميع ذلك»(62). وكان يستنيب أحياناً بعض أبنائه للقيام بهذه الوظيفة الاجتماعية(63).

ومما اشتهر به أيضاً على صعيد وظيفته الاجتماعية، توفير اللجوء والحماية للمضطرين، وهي وظيفة اجتماعية اضطلع بها أسلافه من قبله، فأضفيت على زاويتهم صفة «الحرم المقدس» الذي لا تنتهك ساحته، وبمقتضى هذه الصفة، أضحت زاوية وزان توفر الملجأ والحماية للخائفين والمذعورين، وتُجير كل مَن استجار بها فراراً من عنف المستبدين. بل إن الميزة المذكورة تُعد في واقع الأمر واحدة من الميزات العديدة التي تفسر مغزى تسمية زاوية وزان بـ«دار الضمانة»(64). أي أنها تضمن لمن لاذ بها الخلاص من السوء في الدنيا والآخرة! كما هو مرسَّخ في اعتقاد كثير من عامة الناس وخاصتهم.

فمما يُحكى عن الشيخ مولاي التهامي أنه كان يقول لأتباعه:

مَنْ جَا لْحَضرَتْنَا يَبْرَا
يْجِي نْحَاسْ يَمْشِـي نُقْرَا
  يَمْشِي بْقَلبُو مَسْتَامَنْ
وْسِيدْنَا مُحَمَّدْ ضَامَنْ(65)!.

ولئن كان مفهوم «دار الضمانة» يأخذ بعدا روحيا كما يبدو ذلك من تأكيد جملة من مقولات شيوخ الزاوية على(66)، فإن لهذا المفهوم مع ذلك أبعادا اجتماعية وسياسية لا تقل أهمية عن الأصول الروحية، ذلك أن «الضمان الذي اتسمت به الزاوية أصبح وَسْماً لها يؤول إلى دورها الوظيفي في المجال السياسي والاجتماعي، لأن مفهوم الضمانة يتضمن معنى الحماية والصَّوْن، وتحمُّل المسؤولية، وإسداء الخدمة…، فالزاوية ضمنت للمحتمين بها حق اللجوء، وكفَّت عنهم ملاحقة السلطة، وضمنت للمخزن نشر الأمن والسلم بين القبائل، وتصفية الأجواء بينها وبين الخارجين عن طاعتها، وضمنت للضعفاء الغذاء والكساء، والإيواء والدواء»(67)، فتبوأت «دار الضمانة» بهذه الوظيفة الحيوية مكانة روحية واجتماعية معتبرة في الأوساط المغربية(68).

ب- وظيفته التربوية

بالرغم من تكاثر عدد زواياه وتنامي أعباء التسيير اليومي لشؤون زاويته، لم يذخر الشيخ مولاي الطيب وسعاً في التصدر لتلقين العلوم الصوفية والدينية وأصول الطريقة الوزانية للوافدين عليه، وكان في تصدره لذلك «بحراً زاخراً تمتد عنه أنهار العلوم اللدنية، وشمساً صاحية شيعت منها أنوار الأمداد العرفانية»(71)، فأخذ عنه بزاويته الأم نخبة من مشاهير علماء فاس وبعض أرباب الطرق الصوفية في وقته، أمثال محمد بن عبد الرحمن ابن زكري، ومحمد بن الحسن بناني، وحمدون الطاهري الجوطي، والحاج محمد المهدي الصحراوي الأموي، ومحمد بن علي الزبادي المنالي، والتهامي بن أحمد الحمومي، وسليمان الحوات الشفشاوني، وأبو العباس أحمد التيجاني مؤسس الطريقة التجانية، ومولاي العربي الدرقاوي شيخ الطريقة الدرقاوية وغيرهم. كما دأب على عقد مجالس الوعظ والإرشاد بزاويته، فكان يحث فيها على الزهد والتقوى، وعلى اتِّباع السنة ومجانبة البدعة، وعلى التآخي والتعاون بين الفقراء لما فيه منفعة الجماعة والدين. وكانت هذه المجالس الدينية المعتادة تلقى إقبالاً متزايداً من قبل تلامذته ومريديه، وكان يحضرها جماعة من علماء مدينة فاس وغيرهم من علماء البوادي والحواضر المغربية(72).

وتذكر مناقب الزاوية الوزانية أن الشيخ مولاي الطيب كان بحق شيخاً مربيًّا، يدل على الله تعالى بأقواله وأفعاله وأحواله. فقد شهد في حقه صاحب «الكوكب الأسعد» بكونه «كان…في طريقة القوم وحسن التربية عارفاً بسبك ذهبها، وصنعة تصفيتها، انتفع به خلق كثير وجم غفير، من أهل الظاهر والباطن»(73). وأشاد صاحب «تحفة الإخوان» بعلو كعبه ورسوخ قدمه في التربية الصوفية، عندما صرح في حقه بأنه «عمَّر قلوب الفقراء المريدين بمحبته، فلا يرون به بديلاً، يداوي القلوب المرضى فلا ترى بساحته عليلاً، وإذا جلس بين الإخوان خِلتَه كالبحر الزاخر يرمي بموج الأسرار، أو كالشمس والقمر الزاهر تُستمد من سناه الأنوار، وفدت عليه الوفود من كل الأقطار والبلدان، وقصده من كل مكان أعيان الأعيان، فروى قلوب السالكين بلذيذ شرابه، وملأ بضاعة العارفين والمقوين من رطبه وأثماره، فهو بين العارفين إمام، يستسقى بوجهه الغمام»(74).

وقد ظل الشيخ مولاي الطيب وفيًّا للسلوك الذي سار عليه شيوخ الزاوية الأوائل في التربية الصوفية، والقائم على التربية بالنظر والهمة، من «تلاوة الأوراد والأذكار والأحزاب، وتلاوة القرآن، والصلاة على مولانا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، آناء الليل وأطراف النهار، مع اتَّباع السنة والتنفل بالصوم والتهجد بالليل، والشيخ يرقيه (أي المريد) مع ذلك كالمرأة الحاضنة للطفل من مقام إلى مقام إلى أن يصير كهلاً راشداً مرضيًّا»(75)، وذلك لأن «التربية بالاصطلاح اندثرت لضعف حال المريدين وقلة الرغبة في الدين، وكثرة الإقبال على الدنيا، وإعراض الناس عن الآخرة»(76). فكان مولاي الطيب بذلك السلوك أنموذجاً للشيخ المربي، الذي تُشد إليه الرحال من الآفاق البعيدة للاهتداء على يديه، بخلاف ما ذهب إليه الأستاذ محمد المنصور من أنه باستثناء الشيخ المؤسس مولاي عبد الله الشريف(ت.1089هـ/1678م) فإن باقي خلفائه عمدوا إلى استثمار شرف نسبهم على حساب الإرث الصوفي، بحيث أصبحوا -حسب رأيه- شيوخ بركة وحسب، يُقصدون للتبرك أكثر مما يقصدون للهداية الروحية(77). وهو رأي لا ينهض على أساس متين، ولا يقوى على الصمود أمام صراحة النصوص، التي قطعت القول بسلوك الشيخ مولاي عبد الله الشريف وخلفائه من بعده منهج التربية القائم على «النظر والهمة» أو «التبرك والتلقين»، أو «الإفادة بالهمة والحال»، وهي اصطلاحات لمعنى واحد(78).

ومهما يكن من أمر، فإن جميع تلامذة هذا الشيخ على الإطلاق يعتقدون فيه «الولاية الكبرى» ويصرحون بذلك، وهذا ما شهد به القادري عندما قال: «ولم نر ما ينفي اعتقادهم إلا ما يثبتونه، لما جمع فيه من علو النسب وكمال العرفان والولاية التي لا يبعد من أن يحكى الاتفاق عليها»(79).

وقد تعددت في حق هذا الشيخ الأوصاف والنعوت اللائقة بمقامه الروحي السامي، وأثنى عليه غير واحدٍ من العلماء والصوفية والمؤلفين الثناء الجميل، وأفصحوا عن مكنون مشاعرهم في إبراز مناقبه، وتعداد محاسنه وفضائله.

وممن أثنى عليه وذكر بعض أحواله محمد بن الطيب القادري، الذي زاره بوزان وتبرك به(81). ووصفه بـ«الشيخ الولي، الصالح الكبير، العارف بالله الشهير، المتبرك به حيا وميتاً، شرقاً وغرباً، قديماً وحديثاً…، وسع الناس بسطه، وعلا قدره وصيته»(82). وبـ«الشريف الأشهر، الوجيه الأغر، الشهير الصلاح عند عامة أهل المغرب بأقطاره، المتبرك به»(83).

وحلاَّه تلميذه صاحب «تحفة الإخوان» بـ«القطب المشهور، صاحب اللواء المنشور، الذي طلعت شمسه في سماء العلا، وصارت محاسنه وفضائله على ألسن الخلائق تُتْلى، الغيث الصَّيِّب…، فصار وارثاً لتلك الأنوار، جامعاً لتلك المعاني والأسرار، الورع شيمته، والتقوى بضاعته، والزهد سجيته، وحُسن الخلق طبيعته، والتواضع خلقه، والحياء رفيقه»(84).

ونعته تلميذه التهامي بن أحمد بن الحسن الحمومي بـ«الشيخ الرباني، الولي الصالح الواضح، شيخ الطريقة، وإمام الصوفية»(85). ووصفه أبو الربيع سليمان الحوات بـ«الجامع للأسرار اللدنية، والوارث للرتبة القطبية»(86). ونقرأ في «الدرر البهية» أن الشيخ مولاي الطيب « بدت أسراره للعيان بشهادة الأئمة الأعيان، وسعد بطلعة محياه خلق كثير، وانتفع به الجم الغفير، ورث القطبانية عن أخيه، واجتمع له ميراث جده وأبيه…، وسيع الأخلاق، منبسطاً عند التلاق، كريماً جواداً مضيافاً، سليم الصدر منصافاً»(87).

وهو في «سلوة الأنفاس» «القطب الأبهى، وعنصر الكمال الأشهى، الشهير الذكر في الآفاق، الذي وقع على جلالته وعلو مكانته الإطباق…»(88)، وفي «شجرة النور الزكية» هو «العارف بالله، الولي الواصل، المربي الشيخ الكامل»(89). إلى غير ذلك من النعوت والتحليات وعبارات الثناء الجميلة التي خصه بها كتاب المناقب والتراجم والحوليات التاريخية. وقد اعترف القادري بعجزه عن استيفاء أحواله ومآثره، وأوصى بأن يُفرد لهذا الشيخ مُصنَّفٌ خاص(90). بل إن تلميذه حمدون الطاهري الجوطي، الذي يعتبر أول مُؤلِّف خصَّه بترجمة وافية مستفيضة، أقر بكونه لم يذكر من شمائل هذا الشيخ وأوصافه الحسان إلا القدر اليسير، «تنبيهاً للجاهل بعلو مقامه»(91).

ترك مولاي الطيب «رسائل» وعظية بعث بها إلى مريديه، وقد احتفظ الطاهري ببعض الأمثلة منها(92)، و«حزباً صوفيًّا» طويلاً من تأليفه وتنسيقه(93).

الصفحة السابقة 1 2 3 4الصفحة التالية

د. محمد العمراني

أستاذ التعليم العالي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، سايس، فاس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق