مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

مراعاة المصلحة في السيرة النبوية: صلح الحديبية أنموذجا

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين:

تقديم:

   إن الشريعة الإسلامية مبنية كلها على تحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد، ودرء المفاسد عنهم قال ابن القيم الجوزية: “إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد، في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها” ([1]).

ثم إن من هديه صلى الله عليه وسلم مراعاة ، فقد كان من هديه صلى الله عليه وسلم مراعاة تنوع الأحوال، واختيار الأمر الأنسب لكل حال، حرصا منه على مصالح العباد قال تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) ([2])، ومن  يتصفح سيرته الطاهرة يجدها حافلة بما يدل على ذلك، وقد انتقيت في هذا المقال للحديث عنه معاهدة صلح الحديبية التي عقدها النبي صلى الله عليه وسلم مع قريش في السنة السادسة للهجرة، والتي راعى فيها النبي صلى الله عليه وسلم المصالح العامة للمسلمين، وسيكون تقسيمي لهذا المقال على الشكل الآتي:

أولا: نبذة وجيزة عن أحداث صلح الحديبية.

ثانيا: رعاية الرسول صلى الله عليه وسلم للمصلحة في صلح الحديبية.

وهذا أوان الشروع في المقصود فأقول وبالله التوفيق:

أولا: نبذة وجيزة عن أحداث صلح الحديبية.

أرجع بعض علماء السير والمغازي سبب خروج النبي صلى الله عليه وسلم للحديبية، إلى رؤيا رآها النبي صلى الله عليه وسلم: أنه دخل البيت هو وأصحابه آمنين ومحلقين ومقصرين،    فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك فاستبشرو بالخبر([3]). قال الله تعالى: (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون… ) ([4])

ولا خلاف بين هؤلاء أن تاريخ هذا الحدث العظيم كان في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة النبوية ، قال النووي رحمه الله: “أجمع المسلمون أن الحديبية كانت سنة ست من الهجرة في ذي القعدة”([5])

قال ابن هشام: ” قال ابن إسحاق: واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب ليخرجوا معه وهو يخشى من قريش الذي صنعوا أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت فأبطأ عليه كثير من الأعراب ، وخرج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن لحق به من العرب ، وساق معه الهدي وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه وليعلم الناس أنه إنما خرج زائرا لهذا البيت ومعظما له”([6])

“ولم يحدد عدد المسلمين الذين خرجوا في هذه الغزوة على وجه التحديد ، ففي رواية للبخاري أنهم كانوا في بضع عشرة مائة([7]) ، وفي رواية لمسلم التي فيها تحديد لأصحاب بيعة الشجرة أنهم كانوا  ألفا وثلاثمائة([8]) ، وفي روايات أخرى في الصحيحين أنهم كانوا ألفا وأربعمائة([9])، وقيل غير ذلك.

وعندما وصل النبي صلى الله عليه ذي الحليفة نزل بها وصلى بها ([10])، ثم أحرم هو وأصحابه بالعمرة وساقوا الهدي([11]) ، وبعث عينا([12])، وقع التصريح باسمه في سيرة ابن اسحاق، وهو : بشر، أو بسر بن سفيان رضي الله عنه([13])،فأتاه بخبر  أن قريشا جمعوا له جموعا..، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:”أشيروا أيها الناس علي أترون أن أميل إلى عيالهم وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت، فإن يأتونا كان الله عز وجل قد قطع عينا من المشركين وإلا تركناهم محروبين، فقال أبو بكر: يا رسول الله خرجت عامدا لهذا البيت لا تريد قتل أحد ولا حرب أحد، فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه. قال: امضوا على اسم الله “([14]) .

لما نزلوا الحديبية أرسل النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان رضي الله عنه ، لكن قريشا حبست مبعوث رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها، فتأخر في الرجوع، وقد شاع بين المسلمين أنّه قتل. وأمام ما حصل، دعا النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى البيعة، فبايعوه على مواجهة قريش إن هي اختارت المواجهة تحت الشجرة فسميت ببيعة الشجرة([15]).

أرسلت قريش سهيل بن عمرو إلى المسلمين، ولما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: “قد سهل لكم أمركم، أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل”، فتكلم سهيل طويلاً ، ثم اتفقا على شروط الصلح.

ومن بين بنود هذا الصلح:

رجوع المسلمين إلى العام المقبل للعمرة .

وضع القتال بين الطرفين مدة عشر سنين.

السماح بدخول أيّ طرف في التحالف مع أيّة أطراف أحب.

من أتى النبي من قريش دون إذن وليه، يرده عليهم، ومن جاء قريشاً من محمّد لا يردّوه إليه.

لا يُستكره أحدٌ على ترك دينه، ويعبد المسلمون اللّه بمكة بحرية وأمان.

لا تعين قريشٌ على محمّد وأصحابه أحداً، سواء بسلاح أو أفراد([16]).

ثانيا: رعاية الرسول صلى الله عليه وسلم للمصلحة في صلح الحديبية.

إن المتأمل لأحداث صلح الحديبية  يجدها حافلة بما يدل على تحقيق المصلحة العليا ودفع المفسدة عن المسلمين، فقد راعى النبي صلى الله عليه وسلم فيها الحال واختار الأنسب لهم وهو الاتفاق على شروط وبنود صلح الحديبية التي سبقت الإشارة إليها باختصار، وقد ترتب عن هذا الصلح فيما بعد  من العز والرفعة والانتصار للإسلام والمسلمين،جعلها تستحق أن تقرن بغزوة بدر كما قال ابن عبد البر القرطبي رحمه الله قال: “ليس في غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم ما يعدل بدرا، أو يقرب منها إلا غزوة الحديبية، هذا هو الراجح عندنا”([17])

لقد طلبت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم مطالب هي في نظر أغلب الصحابة مجحفة، ذكر موسى بن عقبة أنه لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية راجعا ، فقال رجال من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “ما هذا بفتحٍ، لقد صددنا عن البيت، وصُدَّ هَدْيُنا”، وعكف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من المسلمين خرجا إليه، فبلغ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – قولُ أولئك: أن هذا ليس بفتح،، فقال: “بئس الكلام هذا، أعظم الفتوح، قد رضي المشركون أن يدفعوكم بالرَّاح عن بلادهم، ويسألونكم القضية، ويرغَبون إليكم في الأمان، وقد رأَوْا منكم ما كرهوا، وقد أظفَركم اللهُ عز وجل عليهم، وردَّكم سالمين، غانمين، مأجورين؛ فهو أعظم الفتوح، أتنسون يوم أحد؛ إذ تُصعِدون ولا تلوون على أحد، وأنا أدعوكم في أخراكم؟ أنسيتم يوم الأحزاب؟ إذ جاؤوكم من فوقِكم ومن أسفلَ منكم، وإذ زاغت الأبصارُ وبلغت القلوبُ الحناجرَ، وتظنُّون بالله الظنونا؟، قال المسلمون: صدَق الله ورسوله؛ فهو أعظم الفتوح، والله ما فكَّرْنا فيما فكَّرْتَ فيه، ولأنت أعلمُ بالله عز وجل  وبالأمور منا، وأنزل الله عز وجل سورة الفتح: (إنا فتحنا لك فتحا مبينا).. إلى قوله: (صراطا مستقيما) ([18])([19]).

فالحرب كما هو معلوم فيه عواقب وخيمة على المجتمع ماديا ومعنويا، وقد اختار النبي صلى الله عليه وسلم السلم  والصلح لما فيه من المصلحة قال ابن القيم الجوزية: “مصالحة المشركين ببعض ما فيه من ضيم على المسلمين جائزة للمصلحة الراجحة، ودفع ما هو شر منه، ففيه دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما”([20]).

فقبول شرط إرجاع من جاءه مسلما إلى أهله من الكفار  كان لتحقيق مصلحة كبرى، وهي إتمام الصلح وما سيترتب عليه من مصالح لعامة المسلمين. قال الخطابي رحمه الله: “وفي إجابته صلى الله عليه وسلم إياهم إلى ذلك أن يرد إلى الكفار من جاءه منهم مسلمًا دليل على جواز أن يقرّ الإمام فيما يصالح عليه العدو ببعض ما فيه الضيم على أهل الدين، إذا كان يرجو لذلك فيما يستقبله عاقبة حميدة، سيما إذا وافق ذلك زمان ضعف المسلمين عن مقاومة الكفار وخوفهم الغلبة منهم” ([21]).

كما مكنهم الصلح من التجهيز لغزوة مؤتة، خارج الجزيرة العربية، وكذلك على إرسالِ الرسائل إلى ملوك الفرس والروم وغيرهما بدعوتهم للإسلام.

كما كانت سببا في تحقيق النصر والفتح العظيم الذي أعز الله به الإسلام والمسلمين، ودخول الناس في دين الله أفواجا ، قال ابن القيم: “هذه الهدنة كانت من أعظم الفتوح؛ فإن الناس أمن بعضهم بعضا واختلط المسلمون بالكفار وبادءوهم بالدعوة وأسمعوهم القرآن وناظروهم على الإسلام جهرة آمنين وظهر من كان مختفيا بالإسلام ودخل فيه في مدة الهدنة من شاء الله أن يدخل ولهذا سماه الله فتحا مبينا  “([22]).

الخاتمة:

وفي ختام هذا المقال خلصت إلى الآتي:

إن الشريعة الإسلامية (قرآنا وسنة) مبنية كلها على تحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد، ودرء المفاسد عنهم .

في حدث صلح الحديبية راعى فيها النبي صلى الله عليه وسلم المصالح العامة للمسلمين.

ترتب عن هذا الصلح فيما بعد  من العز والرفعة والانتصار للإسلام والمسلمين.

اختار النبي صلى الله عليه وسلم السلم  والصلح لما فيه من المصلحة ؛ حيث أن قبول شرط إرجاع من جاءه مسلما إلى أهله من الكفار  كان لتحقيق مصلحة كبرى، وهي إتمام الصلح وما سيترتب عليه من مصالح لعامة المسلمين.

مكنهم الصلح من التجهيز لغزوة مؤتة، خارج الجزيرة العربية، وكذلك على إرسالِ الرسائل إلى ملوك الفرس والروم وغيرهما بدعوتهم للإسلام

كان الصلح سببا في تحقيق النصر والفتح العظيم الذي أعز الله به الإسلام والمسلمين، ودخول الناس في دين الله أفواجا  في يوم الفتح،

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

********************

هوامش المقال:

([1]) إعلام الموقعين عن رب العالمين (2 /12).

([2]) سورة الأنبياء (107).

([3]) انظر: مغازي الواقدي (2 /572)، تاريخ اليعقوبي (2 /54) وغيرهما.

([4]) سورة الفتح من الآية (27).

([5]) المجموع شرح المهذب (8 /131).

([6]) سيرة ابن هشام (3/ 255-256).

([7]) صحيح البخاري (1/ 518)، كتاب: الحج، باب: من أشعر وقلد بذي الحليفة ثم أحرم برقم :(1694)، (1695) .

([8]) صحيح مسلم (2 /901) كتاب الإمارة، باب:  استحباب مبايعة الإمام الجيش عند إرادة القتال، برقم (75) (1857).

([9]) صحيح البخاري (3/ 128) كتاب المغازي، باب: غزوة الحديبية، برقم: ( 4154 ). صحيح مسلم (2 /900) كتاب: الإمارة، باب: استحباب مبايعة الإمام الجيش عند إرادة القتال رقم: (67)(1856).

([10])صحيح مسلم (2 /901)كتاب: الإمارة ، باب: استحباب مبايعة الإمام الجيش عند إرادة القتال،  برقم: ( 70) (1856).

([11])صحيح البخاري كتاب الحج، باب: من أشعر وقلد بذي الحليفة ثم أحرم، برقم: ( 1694) (1695 ).

([12])صحيح البخاري كتاب المغازي ، باب: غزوة الحديبية، برقم: (4178) و (4179).

([13]) سيرة ابن هشام (3 /256).

([14])صحيح البخاري كتاب المغازي ، باب: غزوة الحديبية، برقم: (4178) و (4179).

([15]) انظر سيرة ابن هشام (3 /261-262 )بتصرف .

([16]) انظر سيرة ابن هشام (3 /263-265) (بتصرف).

([17])شرح ثلاثيات المسند (1/ 278).

([18]) سورة الفتح (1-2).

([19]) مغازي موسى بن عقبة (ص: 240).

([20]) زاد المعاد في هدي خير العباد (3/ 272)

([21]) زاد المعاد في هدي خير العباد (3/ 275)

([22]) زاد المعاد في هدي خير العباد (3/ 275)

**********************

لائحة المصادر والمراجع المعتمدة:

إعلام الموقعين عن رب العالمين. لأبي عبد الله شمس الدين ابن القيم الجوزية. رتبه وضبطه وخرج آياته: محمد عبد السلام إبراهيم. دار الكتب العلمية بيروت (د.ت).

تاريخ اليعقوبي. لأحمد بن أبي يعقوب بن جعفر اليعقوبي. دار صادر بيروت. ط6/1415هـ- 1995مـ.

الجامع الصحيح. أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، قام بشرحه وتصحيحه وتنقيحه: محب الدين الخطيب، ورقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، وراجعه وقام بإخراجه وأشرف على طبعه: قصي محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية القاهرة. ط 1/ 1400.

زاد المعاد في هدي خير العباد. لابن القيم الجوزية. حقق نصوصه وخرج أحاديثه وعلق عليه: شعيب الأرنؤوط- عبد القادر الأرنؤوط. مؤسسة الرسالة. بيروت ط3/ 1418هـ- 1998مـ

السيرة النبوية. لابن هشام. علق عليها وخرج أحاديثها ووضع فهارسها: عمر عبد السلام تدمري. دار الكتاب العربي بيروت. ط 3/ 1410هـ- 1990مـ.

شرح المهذب. لمحيي الدين أبي زكريا يحيى بن شرف النووي. تحقيق: مجموعة من الباحثين. دار الكتب العلمية بيروت لبنان. (د.ت).

شرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد. لمحمد السفاريني . زهير الشاويش. المكتب الإسلامي بيروت لبنان ط3/ 1399هـ.

صحيح مسلم. وفي طليعته: غاية الابتهاج لمقتفي أسانيد كتاب مسلم بن الحجاج للزبيدي. دار طيبة. الرياض. ط1/ 1427-2006.

كتاب المغازي. لمحمد بن عمر الواقدي تحقيق: د مارسدن جونس. عالم الكتب لندن 1968مـ

المغازي. لموسى بن عقبة.  جمع ودراسة وتخريج: محمد باقشيش أبو مالك. 1994مـ. منشورات جامعة ابن زهر أكادير.

*راجع المقال الباحث: يوسف أزهار

Science

دة. خديجة أبوري

  • أستاذة باحثة مؤهلة بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق