مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكمعالم

تقريب (معلمة موطأ الإمام مالك) الحلقة (1)

(1) مقدمات أولية

لقي موطأ الإمام مالك عناية كبيرة من لدن العلماء على مر العصور، واستمرت هذه العناية على مدى الأزمان والبلدان حتى قال القاضي عياض: (لم يعن بكتاب من كتب الفقه والحديث اعتناء الناس بالموطأ)[ترتيب المدارك، ج2ص80].

ومن المجالات التي اعتنى بها العلماءُ: الحديث عن إسناد الموطأ، فتحدثوا عن شيوخ مالك ورجالات الموطأ جرحا وتعديلا، وبينوا مكانتهم في الرواية والدراية. ولقد عرّف العلماء بهؤلاء الشيوخ، ونظموا أسماءهم حسب حروف المعجم، حتى يسهل على طالب العلم الوصول إلى مراده ومبتغاه، بل إنهم تتبعوا أحاديث الموطأ، فوصلوا كل  حديث مقطوع جاء متصلا من غير رواية مالك، وتتبعوا كل حديث مرسل جاء مسندا من غير طريق مالك رحمه الله.

لذلك سنقتفي أثر هؤلاء في التعريف بشيوخ مالك الذين روى عنهم في الموطأ، وسنذكرهم حسب ترتيب حروف المعجم كما هو متعارف عليه في المدونات التي ترجمت لهم، وجمعت أو نصت على مروياتهم، مقتفين لآثارهم، وجامعين لمروياتهم من خلال موطأ مالك، لنقرن بين النظر والتطبيق، حتى يسهل على المتلقي فهم واستيعاب المرويات، واستذكارها عند المراجعة والمذاكرة؛ إذ القصد تقريب هذه الفوائد لعموم الباحثين والدارسين، وتيسير طرق أخذها، والوقوف على شاردها وواردها، واقتناص نكتها وفرائدها، وتحصيل ما بث في معانيها من أنوار محمدية توقد في القلوب وهج العناية بحديث رسولنا سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. فنحن لا نريد لها أن تبقى حبيس بعض المدونات، فلا يطلع عليها إلا الباحث المتخصص، ولكننا نريد تقريبها لعموم القراء والباحثين.

ولاشك أن موطأ الإمام مالك يعد موسوعة حديثية، ذات قيمة علمية، ويؤكد هذه الحقيقة ما قاله الشيخ ولي الله الدهلوي رحمه الله حيث قال:  (تيقنت أنه لا يوجد الآن كتاب ما في الفقه أقوى من موطأ الإمام مالك، لأن الكتب تتفاضل في ما بينها، إما من جهة فضل المصنف، أو من جهة التزام الصحة، أو من جهة شهرة أحاديثها، أو من جهة القبول لها من عامة المسلمين، أو من جهة حسن الترتيب واستيعاب المقاصد المهمة ونحوها، وهذه الأمور كلها موجودة في الموطأ على وجه الكمال، بالنسبة إلى جميع الكتب الموجودة على وجه الأرض الآن….، وطريق الاجتهاد وتحصيل الفقه بمعنى معرفة الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية مسدود اليوم على من رام التحقيق إلا من وجه واحد، وهو أن يجعل المحقق الموطأ نصب عينيه، ويجتهد في وصل مراسيله، ومعرفة مآخذ أقوال الصحابة والتابعين… ثم يسلك طريق الفقهاء المجتهدين في المذاهب…، وما قلناه:  إن طريق الاجتهاد مسدودة إلا من هذه الجهة الباعث على ذلك أن الأحاديث المرفوعة وحدها لا تكفي جميع الأحكام، بل لابد لها من آثار الصحابة والتابعين، ولا يوجد كتاب جامع لهذا وذاك الآن، ويكون مع ذلك مخدوما من العلماء، ونظر فيه نظر المجتهدين، طبقة بعد طبقة غير الموطأ، وهذا لا يحتاج إلى دليل عند من عرف الكتب المأثورة التي هي أصول الشرع، وعلم أيضا أهل العلم فيها، وأنظار المجتهدين في شرحها).[المسوى من أحاديث الموطأ:  لولي الله الدهلوي، ج1ص:  (17-30). دار الكتب العلمية، 1983م].

لقد جمع الإمام مالك رضي الله عنه في كتابه الموطأ بين الحديث والفقه والفتوى، وضمنه منهجه  العام في الفقه والفتوى، وبذلك أصل الإمام مالك لمذهبه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ما استخرجه الإمام بنفسه من كتاب الله وسنة رسوله الله صلى الله عليه وسلم.

ويمثل موطأ الإمام مالك الأصول الأولى للمذهب، وفيه يتجلى المنهج العام للإمام في الفقه والفتوى والقضاء، كما تتجلى فيه جهوده التطبيقية في تقعيد الفقه، وجمع أطرافه أصولا وفروعا ومسائل في الفنون الفقهية المرتبطة به.[انظر المقدمة التي كتبها المحقق الشيخ محمد الشاذلي  لكتاب موطأ الإمام مالك برواية ابن زياد].

ولقد بين الإمام منهجه الذي سار عليه في كتابه الموطأ، فانتقى فيه أحسن ما صح عنده من الأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وماروي عن الخلفاء الراشدين، وفقهاء الصحابة، ومن بعدهم من فقهاء المدينة، وما جرى عليه عملهم، مما يرجع إلى تلقي المأثور عن عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين وأئمة الفقه.

وبوب كتابه بحسب ما يحتاجه المسلمون في عباداتهم ومعاملاتهم وآدابهم، وجعل فيه بابا جامعا في آخره ذكر ما لا يدخل في باب خاص من الأبواب الفقهية المخصصة بفقه بعض الأعمال، وأضاف إلى ذلك ما استنبطه في الأحكام في مواضع الاجتهاد، مما يرجع إلى جمع بين متعارضين، أو ترجيح أحد الخبرين، أو تقديم إجماع، أو قياس، أو عرض على قواعد الشريعة.[ كشف المغطى:  محمد الطاهر بن عاشور، ج1ص27].

وقد اشتمل الموطأ على مادة علمية يمكن حصرها في الأقسام التالية:

القسم الأول:  أحاديث مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد متصلة من مالك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

القسم الثاني:  أحاديث مروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسانيد مرسلة.

القسم الثالث: أحاديث مروية بسند سقط فيه راو، ويسمى المنقطع.

القسم الرابع: أحاديث يبلغ في سندها إلى ذكر الصحابي، ولا يذكر فيها أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يكون الخبر مما يقال بالرأي، وهذا الصنف يسمى الموقوف.

القسم الخامس: البلاغات، وهي قول مالك رحمه الله: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ….

القسم السادس: أقوال الصحابة، وفقهاء التابعين.

القسم السابع: ما استنبطه الإمام مالك رحمه الله من الفقه المستند إلى العمل، أو إلى القياس، أو إلى قواعد الشريعة.[ كشف المغطى: ج1ص 29 – اصطلاح المذهب عند المالكية:  محمد إبراهيم أحمد علي، ص 93].

الدكتور عبد الله معصر

• رئيس مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوك بالرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق