مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات محكمة

الفقه والحديث في عهد المرابطين والموحدين2

الصراع بين الظاهرية والمالكية

إذا ذكر المذهب الظاهري في الأندلس ذكر رائده العلامة أبو محمد بن حزم، فقد كان حقا المنافح عن هذا المذهب والمبشر به، والمجادل لخصومه الجدال العنيف. ولم يكن خصومه بالأندلس إلا المالكية.

لقد سعى ابن حزم بما امتلكه من العلم بالأندلس، إلى إبطال حججهم وتسفيه أقوالهم[51]، قال القاضي عياض في وصف ذلك وهو يتحدث عن القاضي أبي الوليد الباجي أول مقدمه إلى الأندلس بعد رحلته المشرقية: “ووجد عند وروده بالأندلس لابن حزم الداودي صيتا عاليا،وظاهريات منكرة، وكان لكلامه طلاوة، وقد أخذت قلوب الناس[52]، وله تصرف في فنون تقصر عنها ألسنة فقهاء الأندلس في ذلك الوقت، لقلة استعمالهم النظر، وعدم تحققهم به، فلم يكن يقوم أحد بمناظرته، فعلا بذلك شأنه، وسلموا الكلام له على اعترافهم بتخليطه…”[53]

فلما عاد أبو الوليد الباجي من رحلته العلمية عقدت له مجالس لمناظرته، فاستطاع بفضل سعة علمه وكثرة اطلاعه وتمكنه من فني الجدل والمناظرة أن يبطل أقوال ابن حزم وحججه، ويرد تشكيكه في المذهب المالكي وأصوله، وينتصر لصاحب المذهب وأقواله ويعيد الاعتبار لجهود المالكية وكتاباتهم واجتهاداتهم، لقد نصر أبو الوليد الباجي مذهب مالك وأنصف أصحابه، فاندحر المذهب الظاهري وولى أنصاره القهقرى، قال الإمام ابن العربي: ‘إن الله تدارك الأمة به وبالأصيلي حيث رحلوا وأفادوا وجاءوا بلباب العلم فرشوا على القلوب الميتة، وعطروا الأنفاس الذفرة”[54]. وتذكر المصادر أن ابن حزم خرج من البلد الذي يقيم فيه الباجي معترفا له بقوته في النقد والمناظرة وبكثرة اطلاعه وسعة معرفته، قائلا: “لم يكن للمالكية بعد عبد الوهاب مثل أبي الوليد”[55].

  • من كتب أبي الوليد الباجي في خدمة المذهب المالكي:

  لا تخلو كتب أبي الوليد من نفحات المنافحة عن الإمام مالك ومذهبه وأصحابه، سواء كانت كتب حديث أم كتب أصول وفقه، إلى جانب ما ألفه في فن الجدل والمناظرة. ولنأخذ أشهرها، نعرف به ونجلي قيمته العلمية وأثره في خدمة العلم عامة، وما يخص المذهب المالكي خاصة:

–  كتاب المنتقى:

وهو شرح لموطأ الإمام مالك انتقاه من كتابه الاستيفاء طلبا للاختصار والتيسير، قال الإمام الباجي في مقدمة هذا الكتاب: “أما بعد وفقنا الله وإياك لما يرضيه، فإنك ذكرت أن الكتاب الذي ألفت في شرح الموطأ المترجم بكتاب “الاستيفاء” يتعذر على أكثر الناس جمعه، ويبعد عنهم درسه، لاسيما لمن لم يتقدم له في هذا العلم نظر، ولا تبين له فيه بعد أثر…فأجبت إلى ذلك، وانتقيته من الكتاب المذكور، على حسب ما رغبته وشرطته”[56].

يشرح الإمام الباجي في كتابه “المنتقى” ما تضمنه الموطأ برواية يحيى بن يحيى الليثي من الأحاديث المسندة وغيرها، مع المسائل الفقهية وأقوال العلماء، لكن من غير أن يقف عند أسانيد الأحاديث كما فعل الحافظ ابن عبد البر في التمهيد. لذلك فإن الطابع الغالب على كتاب “المنتقي” هو شرح الأحاديث والوقوف على المسائل الفقهية التي تزخر بها، حتى إن المؤلف يقسم شرح الحديث إلى فصول انطلاقا من الفقرات أو المسائل التي يتضمنها ذلك الحديث. وفي غضون ذلك يورد أقوال الفقهاء المالكية، وقد يحفل بالجانب اللغوي فيشرح الغريب وغيره ويورد أقوال أصحاب اللغة، ويبين ما يترتب على ذلك من الأحكام الفقهية وما ينتج عنه من الخلاف.

هكذا كان فقهاء المالكية بالأندلس- وهم كثير– يذبون عن مذهبهم ويردون هجوم ابن حزم وغيره عليه، ويبينون أصالته وانبناءه على القرآن والسنة مفسرة نصوصهما وفق ضوابط وأصول، ولم يكن هؤلاء العلماء في تلك الجهود طلاب دنيا ومكاسب مادية، فقد زعم الأستاذ سالم يفوت[57] أن هؤلاء غدوا أكبر عضد لأمراء الطوائف في تبرير طغيانهم وظلمهم وانحرافهم ابتزازا لأموالهم، وسعيا وراء المناصب عندهم، فاحتضنهم الأمراء الطغاة فأغدقوا عليهم الأموال.

وزعم أيضا أن القياس والاستحسان قد أصبحا مركبا ذلولا استطاع به هؤلاء الفقهاء أن يوائموا بين أحكامهم وفتاويهم، وبين مقتضيات الحياة الفاسدة ! …[58]

إن هذا الكلام أبطل من الباطل، ومحض هراء، وهو ينم عن قراءة معكوسة للتاريخ وسوء ظن بالعلماء حماة الشريعة عبر الزمان، وفهم خاطئ لمعنى القياس والاستحسان عند الأصوليين.

الصفحة السابقة 1 2 3 4 5 6الصفحة التالية

د. عبد العزيز فارح

رئيس مختبر الأبحاث والدراسات في التراث الإسلامي كلية الآداب بوجدة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق