مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات محكمة

الفقه والحديث في عهد المرابطين والموحدين2

المذهب المالكي في عهد الموحدين

واصل علم الفقه على مذهب الإمام مالك تفرعه وانتشاره في العهد الأول من الدولة الموحدية كما كان من قبل أو أكثر[59] في إطار نهضة علمية شاملة شجع عليها قادة هذه الدولة وأمراؤها[60]، لكن مع ميل الفقهاء إلى الترجيح والتأويل ونبذ التعصب للأئمة السابقين، والتقليل من الإكباب على النظر في علم الفروع المجرد، المعول على أقوال أئمة المذهب، وذلك بالانصراف على دراسة الفقه في أصليه العظيمين- الكتاب والسنة وما يرجع إليهما- ، وهو سبب صمود المذهب ومنعته، وهو جوهر ما يتنادى به الخصوم أصحاب الاتجاه السائد الذي ارتضته الدولة ودعت إليه، وهو الرجوع إلى الكتاب والسنة، ونبذ آراء الرجال وكتبهم في الفروع، خاصة في عهد يعقوب المنصور الموحدي، الذي اشتط في تطبيق هذه الدعوة وإلزام الناس بها.

ظاهرية ابن حزم في حياة الموحدين:

كان حكم الموحدين يتسم بطابع ديني عميق، نتجت عنه حركة علمية كبيرة، فقد كان أكثر ملوك الموحدين وأمرائهم من أهل العلم والمعرفة لترابط السياسي بالثقافي في حكمهم.

 يعد المهدي ابن تومرت (524هـ) مؤسس الدولة الموحدية عالما ومشجعا للعلماء صنف كتبا مشهورة عند الموحدين ك”محاذي الموطأ” الذي حذف أسانيده وأعاد ترتيبه حسب الأحكام، وكتاب ” أعز ما يطلب”، و”المرشدة”، و”مختصر مسلم”، وكتب أخرى في العقيدة وغيرها.

 وتابعه في ذلك خليفته عبد المومن بن علي الكومي ( 558هـ) الذي عرف باهتمامه بالعلوم والفنون، وهو الذي  أنشأ مدرسة الحفاظ بمراكش، حيث جمع فيها المئات من الطلبة المصامدة وغيرهم، وألزمهم حفظ القرآن  والموطأ وعقيدة المهدي ومرشدته، وكان ابنه يوسف عالما حافظا يجمع كأبيه صفوة العلماء والمفكرين، وهو الذي احتضن العلامة أبا الوليد ابن رشد وولاه قضاء إشبيلية لما كان واليها، وبعد وفاة أبيه ولاه طائفة من المناصب القضائية والإدارية بالعدوتين.

أما يعقوب المنصور فقد فاق غيره في إحياء العلوم وتقريب العلماء، وفي عهده ظهرت نهضة علمية كبيرة وعقدت المجالس حيث المناظرات بين العلماء بحضرة المنصور.

 ولم تكن مجالس الأمراء في الولايات التابعة للموحدين أقل شأنا من مجالس العاصمة بل كانت عامرة أيضا.

وبالجملة فقد كان عصر الموحدين عصر علم حقا، سمح بظهور طائفة كبيرة من العلماء في شتى الفنون كالقراءات والحديث والأدب والطب…[61]

ولكن الميدان الذي كان محط عناية  الموحدين أكثر من غيره، هو ميدان الحديث، فقد وجه الموحدون الناس إلى كتب السنة النبوية للخروج من دائرة التقليد المذهبي، ونبذ كتب الفروع، إما تطبيقا لاختيار تبناه مؤسس الدولة الموحدية المهدي ابن تومرت ثم عبد المؤمن بن علي، ولقي من جاء بعدهما من الخلفاء في كتب ابن حزم ومذهبه توافقا مع ذلك الاختيار، فأعجبوا به وفضلوه على غيره من المذاهب الفقهية، وإما تأثرا بالرجل ابتداء، فدعوا الناس إلى منهجه العلمي الداعي إلى نبذ تقليد المذاهب الفقهية، والتمسك بالكتاب  والسنة، وقد قال يعقوب المنصور لما وقف على قبر ابن حزم: “إن كل العلماء عيال عليه”[62].

وقد كان الأمراء الموحدون أنفسهم محدثين حفاظا، فقد ذكر صاحب المعجب أن يعقوب المنصور كان يحفظ أحد الصحيحين، وكان يوسف بن عبد المؤمن “يحفظ متون الأحاديث ويتقنها”[63].

وعد المأمون أيضا من حفاظ الحديث، كان يسرد صحيح البخاري والموطأ وسنن أبي داود[64].

أما الأمير إبراهيم بن يوسف فلم يكن في العلماء بعلم الأثر المتفرغين لذلك[65].

وكان الأمير الشاعر أبو الربيع سليمان الموحدي قد أخذ  الحديث عن شيوخ وقته بالأندلس والمغرب، وأجاز له من الإسكندرية الإمامان أبو الطاهر بن عوف وأبو سعيد ابن جاز[66].

وأنشأ الموحدون مدرسة الحفاظ المشار إليها سابقا، وعددا من المدارس بفاس وسبته وغيرها من الحواضر والبوادي، وألزموا الطلبة حفظ موطأ المهدي وبعض كتب السنة. وقد أمر يعقوب المنصور جماعة ممن كان عنده من العلماء المحدثين بجمع أحاديث من المصنفات العشرة وهي: الصحيحان، وجامع الترمذي، والموطأ، وسنن أبي داود، وسنن النسائي، وسنن البزار، ومسند ابن أبي شيبة، وسنن الدارقطني، وسنن البيهقي.

وكان يعقوب المنصور يأمر أيضا بقراءة سنن أبي داود، فهو عنده العمدة في معرفة أحكام السنة النبوية.

ولا يخفى ما لابن حزم من تأثير في هذا المجال، فقد عدد مصادر السنة النبوية، وذكر ضمن ذلك الكتب العشرة السابقة الذكر.

وغدا المحدثون الطبقة المفضلة عند الموحدين، فإليهم كانت تصرف العناية الكبيرة وعليهم تغدق الأموال ونالوا خصوصا في عهد يعقوب المنصور ما لم ينالوه في أيام أبيه وجده[67]، ولكن من غير أن تعطى لهم سلطة الحل والعقد، أو سلطة القرار التي تمتع بها الفقهاء عند المرابطين.

استقدم الموحدون محدثين من الأندلس، وأسندوا إليهم وظيفة تدريس الحديث وبعض علومه في المدارس التي أنشأوها بالمغرب، وعقدوا لهم مجالس للمناظرات مع غيرهم من العلماء، جاء في كتاب” الإعلام” أنه في سنة 585هـ استدعى يعقوب المنصور العلماء ورواة الحديث من الأندلس، وأمرهم بتدريس  حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم[68] من هؤلاء أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله الخثمي السهيلي المالقي (581هـ)[69]، وابن الفخار أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الأنصاري المالقي (590هـ)[70]، وأبو محمد عبد الله بن محمد الحجري المري (591هـ)[71]، وأبو الحسن نجبة بن يحيى الرعيني الإشبيلي (579هـ)[72]، وأبو الوليد ابن رشد الحفيد (595هـ)[73]، وأبو جعفر أحمد بن عتيق البلنسي (607هـ)[74]، وأبو عبد الله محمد بن أحمد اللخمي التلمساني المعروف بابن الحجام (614هـ)[75]

فازدهرت الدراسات الحديثية بالمغرب بفضل هذه العناية الكبيرة، ونبغ علماء كبار منهم أبو الخطاب بن دحية السبتي، وابن القطان الفاسي، وأبو إسحاق المرادي الفاسي، وأبو عبد الله محمد بن يحيى بن صاف المعروف بالمواق المراكشي، وغيرهم ممن سأذكرهم لاحقا.

حمل الناس على المذهب الظاهري ومحاربة كتب الفروع:

عمد الموحدون- وهو يدعون الناس إلى العكوف على الكتاب والسنة- وإلى منع الفقهاء وطلبة العلم من النظر في كتب الفروع وخاصة كتب المذهب المالكي، بل إنهم أمروا بإحراق كتب المالكية، جاء في كتاب “القرطاس”، وفي “الاستقصاء”[76]، أن عبد المؤمن أمر سنة 555هـ بتحريق كتب الفروع ورد الناس إلى  قراءة الحديث، وكتب بذلك إلى طلبة المغرب والأندلس والعدوة.

يرى الأستاذ سعيد أعراب:أن عبد المؤمن كان أول من حارب كتب الفروع المالكية وشدد على الفقهاء في ذلك، وأنه كان يرمي من وراء ذلك إلى حمل الناس على مذهب ابن حزم الظاهري، والدليل على ذلك أن المسألة التي تذرع بها للطعن في مذهب مالك هي من صميم فقه ابن حزم، وقد أوردها في كتابه المحلى وبالغ في الرد على مالك، فعبد المؤمن هنا كان يتكلم بلسان ابن حزم…[77].

بينما يرى الأستاذ محمد المنوني أن الفكرة متأصلة من ابن تومرت، وأن النص السابق لا يفيد إلا أن عبد المؤمن، أمر بما ذكر ليس إلا، ولم يذكر أن الأمر نفذ لأن التنفيذ غير واقع، ولو وقع لكان جديرا بالتصريح به والتنصيص عليه[78]، ويرى أيضا أنه لم يدخل إلى حيز التنفيذ إلى على عهد يعقوب المنصور، واستنادا إلى عدد من المؤرخين في مقدمتهم عبد الواحد المراكشي، الذي كان معاصرا للدولة الموحدية ومطلعا على أخبارها، وهو الذي قال وهو يتحدث عن المنصور: “وفي أيامه انقطع علم الفروع وخافه الفقهاء، وأمر بإحراق كتب المذهب بعد أن يجرد ما فيها من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن، ففعل ذلك، فأحرق منها جملة في سائر البلاد، كمدونة سحنون، وكتاب ابن يونس، ونوادر ابن أبي زيد، ومختصره.. وما جانس هذه الكتب ونحا نحوها، لقد شهدت منه- وأنا يومئذ بمدينة فاس- يؤتى منها بالأحمال فتوضع ويطلق فيها النار”[79].

لقد كان عصر المنصور- كما يقول صاحب “القرطاس”- عصر “محو مذهب مالك وإزالته من المغرب مرة واحدة وحمل الناس على الظاهر من القرآن والسنة”[80].

ويعلق الأستاذ سعيد أعراب على هذا فيقول: “لقد كان حريصا على العمل بالكتاب والسنة لا يقلد أي مذهب من المذاهب، وأن الفقهاء في عهده كانوا لا يفتون إلا بالكتاب والسنة ولا يقلدون أحدا من الأئمة المجتهدين، ويؤكد ما ذهب إليه بما أجاب به المنصور ابن المواق حينما أطلعه على ما في كتب ابن حزم من عوار وطوام “أعوذ بالله أن أحمل أمة محمد صلى الله عليه وسلم على هذا…”، ويذهب الأستاذ سعيد أعراب إلى أبعد من ذلك حينما يجعل الخليفة يعقوب المنصور بفضل تكوينه الشرعي وعمله بالكتاب والسنة- “من أئمة الاجتهاد، وأحد المجددين على رأس المائة السادسة للهجرة، لأنه أحيى ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة وأمر بمقتضاها”[81]

وبذلك يحكم الأستاذ أعراب على دعوة الموحدين إلى العمل بالكتاب والسنة على أنها “كانت تجربة رائدة فريدة في تاريخ الإسلام بعد الخلفاء الراشدين”[82]

 ويرى الأستاذ عبد اللطيف شرارة أن سبب ميل الموحدين إلى الفكر الظاهري الحزمي، راجع إلى أنهم بنوا دولتهم حسب المنهجية الحزمية، فقد اعتمدوا على تأصيل الفكر الاجتهادي اعتمادا على ظواهر النصوص الشرعية ونبذ التقليد. يقول : “إن المذهب الظاهري الحزمي عرف فعلا شيئا من الازدهار في عهد الموحدين، وبرزت معالمه عند منظري هذه الدولة وساستها بشيء  من الوضوح، والدليل في ذلك يكمن في تأثير الفكر التومرتي- الذي سار عليه ملوك الموحدين في بناء دولتهم بالمنهجية الحزمية التي أسست على تأصيل الفكر الاجتهادي اعتمادا على النصوص الشرعية: القرآن والسنة والإجماع، ثم نبذ التقليد والقياس وترك الفروع[83].

ويربط الدكتور عباس الجراري بين محاربة الموحدين لكتب الفروع وبين محاربة خصومهم المرابطين فيقول: “لم يلجأوا إلى محاربة فقهاء الدولة المرابطية وكتبها إلا وسيلة لنسف حكمها وتقويض دعائمه الفقهية القائمة على الفروع…”[84].

الصفحة السابقة 1 2 3 4 5 6الصفحة التالية

د. عبد العزيز فارح

رئيس مختبر الأبحاث والدراسات في التراث الإسلامي كلية الآداب بوجدة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق