مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

من ضوابط وحكم التدرج في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم

بسم الله الرحمن الرحيم

تقديم:

      فإن التدرج سنة مرعية في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي من السنن الربانية في خلقه وكونه، وقد تحدث القرآن الكريم عنها في العديد من آياته فقال: ﴿قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين  ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم  ﴾ ([1])، وقال أيضًا:    ﴿ إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش﴾ ([2])،  قال سعيد بن جبير  رحمه الله في معنى هذه الآية: ” كان الله قادرا على أن يخلق السماوات والأرض وما بينهما في لمحة ولحظة، فخلقهن في ستة أيام تعليمًا لخلقه التّثبّت والتأني في الأمور”([3])، وقال تعالى في خلق الإنسان: ﴿يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا ﴾([4])، وهي سنة مطردة في جميع الرسالات مذ نوح عليه السلام إلى خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، ومن يتأمل سيرته صلى الله عليه وسلم يتضح له أن التدرج هو السمة البارزة في مسار دعوته صلى الله عليه وسلم، ولأهمية هذا الموضوع  أحببت أن أتناول هذا  المقال من خلال الآتي:  

أولا: بعض أسس وضوابط التدرج في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم.

ثانيا : حكم التدرج في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم.

وهذا أوان الشروع في الموضوع فأقول وبالله التوفيق:

أولا: بعض أسس وضوابط التدرج في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم:

من بين أسس وضوابط التدرج في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم أذكر ثلاثة منها:

تقديم الأهم على المهم:

    والمتأمل في دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يجدها مبنية على هذا الأساس شأنها شأن دعوة الأنبياء جميعا ، فقد بدأ بالتوحيد أولا، حتى إذا آمن الناس  بتلك العقيدة واستقرت في نفوسهم جاءت التكاليف الأخرى، ويكفي من الأمثلة دلالة على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما بعث معاذا إلى اليمن قال له: “إنك تقدم على قوم أهل كتاب؛ فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا فعلوا فأخبرهم أن الله فرض عليهم زكاة من أموالهم وترد على فقرائهم، فإذا أطاعوا بها فخذ منهم وتوق كرائم أموال الناس” ([5])   

قال ابن حجر: “ووقعت البداءة بهما –أي الشهادات-؛ لأنهما أصل الدين الذي لا يصح شيء غيرهما إلا به”([6]) ، إلى أن قال: “بدأ بالأهم فالأهم، وذلك من التلطف في الخطاب لأنه لو طالبهم بالجميع في أول مرة لم يأمن النفرة”([7]).

مراعاة الترتيب في درجة المدعويين:

راعى النبي صلى الله عليه وسلم الترتيب في درجات المدعويين فبدأ بالأقربين، وبمن حوله أولا،  قال تعالى:   ﴿ وأنذر عشيرتك الأقربين﴾ ([8])، وكان ذلك سرا وهو أمر ضروري في تلك المرحلة؛ لأنه مع القلة المستضعفة، ومع الاستضعاف لا بد له من الكتمان وأخذ الحيطة والحذر ، ثم جاءت الدعوة الجهرية وما فيها من دعوة للقبائل، ثم الهجرة إلى الحبشة، ثم إلى المدينة، وإقامة الدولة المسلمة التي تحمي الدعوة  وتخدمها.

                                        مراعاة الأحوال والظروف خشية الوقوع في المفسدة:

وقد راعى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في دعوته فترك بعض الأمور التي كانت في الجاهلية فلم يتعجل في تغييرها؛ لعدم ملاءمة الظروف، فكان يتغاضى عنها ويسكت مؤقتا حتى يحين الوقت المناسب لتغييرها، وقد بوَّب  الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه بابا سماه: “باب من ترك بعض الاختيار؛ مخافة أن يقصر  فهم بعض الناس عنه، فيقعوا في أشد منه”، فعرض تحته قول النبي صلى الله عليه وسلم: “يا عائشة، لولا أن قومك حديث عهدهم – أي بكفر – لنقضت الكعبة فجعلت لها بابينِ، باب يدخل الناس، وباب يخرجون”([9]). قال الحافظ ابن حجر: ” لأن قريشا كانت تعظم الكعبة جدا ، فخشي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يظنوا لأجل قرب عهدهم بالإسلام أنه غير بناءها لينفرد بالفخر عليهم في ذلك ،  ويستفاد منه ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة ، ومنه ترك إنكار المنكر خشية الوقوع في أنكر منه”([10]).

ثانيا: من حكم التدرج في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم

ومن حكم التدرج في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم أذكر اثنتان وهما:

1-تهيئة النفوس لسماع الحق:

فتهيئة النفوس للسماع يعد أمرا مهما في الدعوة وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يهيء نفوس المشركين للسماع، ومن نماذج ذلك أذكر قصة ثمامة بن أثال الحنفي  رضي الله عنه ؛ حيث أبقاه مربوطا في سارية من سواري المسجد ثلاثة أيام، وكان في كل مرة من هذه الثلاث يأتيه ويقول له: ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي خير  يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ماشئت، وبعدها قال النبي صلى الله عليه وسلم: أطلقوا ثمامة، فانطلق ثمامة إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل، ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، يا محمد والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين كله إلي، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي.. “([11]).

2-تهيئة النفوس لقبول الحق تدريجيا دون عنت ولا مشقة:

ومن يتأمل دعوة الإسلام بجميع تشريعاته يجده كذلك، وفي هذا تقول السيدة عائشة رضي الله عنها : “إنما نزل أول ما نزل منه -أي: القرآن- سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار ،حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام ،ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر لقالوا : لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل لا تزنوا لقالوا: لا ندع الزنا أبدا، لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه و سلم وإني لجارية ألعب (بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر ) ([12]) . وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده،”([13]).

فالتدرج يهيئ النفس لقبول الأمر وتلقيه بسرعة دون عنت ولا مشقة قال ابن حجر: “فلما اطمأنت النفوس على ذلك، أنزلت الأحكام، ولهذا قالت: ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندعها؛ وذلك لما طبعت عليه النفوس من النفرة عن ترك المألوف”([14]).

من هنا تتبين لنا الحكمة  من هذا التدرج وهو أنه جاء تخفيفًا على الناس، وتماشيًا مع فطرته ؛حيث سهل عليهم قبول الأحكام والالتزام بالتكاليف بعد أن تهيأت نفوسهم لقبولها؛ لأن الإيمان إذا خالط قلب العبد سهل عليه قبول الحق دون مشقة.

الخاتمة:

من خلا ما تقدم خلصت إلى الآتي:

1-التدرج سنة مرعية في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي من السنن الربانية في خلقه وكونه.

2-من أسس وضوابط التدرج في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم:

أ-تقديم الأهم على المهم: وهو التوحيد أولا؛ حتى إذا آمن الناس  بتلك العقيدة واستقرت في نفوسهم جاءت التكاليف الأخرى.

ب-مراعاة الترتيب في درجة المدعويين؛ فبدأ بالأقربين، وبمن حوله أولا.

ج-مراعاة الأحوال والظروف خشية الوقوع في المفسدة؛ وقد راعى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في دعوته فترك بعض الأمور التي كانت في الجاهلية فلم يتعجل في تغييرها؛ لعدم ملاءمة الظروف.

3-من حكم التدرج:

أ-تهيئة النفوس لسماع الحق.

ب-ترويض النفوس على قبول الحق، فلم تفرض التكاليف دفعة واحدة وإنما جاء ذلك بالتدريج حتى تتهيأ النفوس لقبوله.

والحمد لله رب العالمين.

*********************

هوامش المقال:

([1]) سورة فصلت الآيات: (9-12)

([2]) سورة الأعراف من الآية: (54).

([3]) تفسير الخازن (2 /207).

([4]) سورة الحج من الآية:(5).

([5]) أخرجه البخاري في صحيحه (1/ 450-451)، كتاب: الزكاة، باب: لا تؤخذ كرائم أموال الناس في الصدقة، برقم: (1458) ، ومسلم في صحيحه (1 /30) ، كتاب: الإيمان، باب: الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، برقم: (19) واللفظ للبخاري.

([6])  فتح الباري(4/ 443)

([7])  فتح الباري (4 /444).

([8]) سورة الشعراء الآية: (214).

([9]) أخرجه البخاري في صحيحه (1 /62) كتاب: العلم، باب: من ترك بعض الاختيار؛ مخافة أن يقصر  فهم بعض الناس عنه، فيقعوا في أشد منه ، برقم: (126).

([10]) فتح الباري (2/ 299).

([11])  القصة أخرجها البخاري في صحيحه (3 /168) كتاب: المغازي، باب: وفد بني حنيفة وحديث ثمامة بن أثال، برقم: (4372)، ومسلم في صحيحه (2/ 844-845) ، كتاب:  الجهاد والسير، باب: ربط الأسير وجواز المن عليه برقم: (1764) (بتصرف يسير)..

([12])  سورة القمر الآية: (46).

([13])  أخرجه البخاري في صحيحه (3 /340) كتاب: فضائل القرآن، باب: تأليف القرآن، برقم: (4993).

([14])  فتح الباري (11 /49).

**********************

لائحة المصادر والمراجع المعتمدة:

الجامع الصحيح. أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، قام بشرحه وتصحيحه وتنقيحه: محب الدين الخطيب، ورقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، وراجعه وقام بإخراجه وأشرف على طبعه: قصي محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية القاهرة. ط 1/ 1400.

صحيح مسلم. وفي طليعته: غاية الابتهاج لمقتفي أسانيد كتاب مسلم بن الحجاج للزبيدي.دار طيبة. الرياض. ط1/ 1427-2006.

فتح الباري شرح صحيح البخاري. لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني. دار الكتب العلمية بيروت لبنان. (د.ت).

*راجع المقال الباحث: محمد إليولو

Science

دة. خديجة أبوري

  • أستاذة باحثة مؤهلة بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق