مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةقراءة في كتاب

من آراء جورج طرابيشي في السيرة النبوية من خلال كتابه: (المعجزة وسبات العقل): عرض ونقد

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد؛ فقد استند أصحاب القراءات الحداثية للسيرة النبوية إلى مفهوم “العقلانية”، أو “العقل”، واتخذوه أصلا أصيلا لبناء المفاهيم والأفكار، ونادوا بضرورة إعادة القراءة العقلانية للسيرة النبوية ونقدها، من خلال الإبقاء على ما هو عقلاني فيها، وهدم اللامعقول.

وقد سببت المعجزات النبوية الواردة في كتب السيرة النبوية لهؤلاء الحداثيين نوعا من الصدمة الفكرية، وتحديا كبيرا لواقعيتهم التي لا تؤمن بالمعجزات والنبوءات، وكل ما هو غيبي؛ ولهذا كان موضوع المعجزات النبوية مادة دسمة لهم، صرفوا إليها كبير عنايتهم، وادعوا أنها مجرد أخبار تاريخية مضت مع مضي زمانها التي وقعت فيها، ولم يعد لها أي دور في العصر الحديث العقلاني، والواقعي، ولم يقفوا عند هذا الحد؛ بل حاولوا تفسيرها وتبريرها على ضوء التصورات العقلية المعاصرة؛ وإن أدى ذلك بأغلبهم إلى نفيها بالكلية.

وفي هذا المنحى ألف الأستاذ والمفكر والفيلسوف المسيحي السوري جورج طرابيشي كتابه:” المعجزة أو سبات العقل في الإسلام“؛ هذا الكتاب الذي تتبعته صفحة صفحة، ومن خلاله اطلعت فيه على قامة من قامات الحداثة العربية المعاصرة، تنبئك أن هؤلاء القوم فعلا يستغلون أوقاتهم في المنافحة عن الأفكار التي يؤمنون بها دون ملل، أو كلل، وللإنصاف والحق يقال، أنه على الرغم من كون جورج طرابيشي مسيحي عربي، فلم يحمله معتقده على التحامل على نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم في كتابه هذا؛ وإنما يتحدث عنه كنبي بتقدير واحترام، ولا يخاطبه إلا بالنبي والرسول وأحيانا يضع علامة (ص) كلما ذكر اسم نبينا عليه الصلاة والسلام، مما يعز وجوده في كتابات بعض إخوانه من الحداثيين المعاصرين.

 إضافة إلى كون جورج طرابيشي يعد من أساطين الحداثيين خبر الفلسفة الإسلامية والغربية على حد سواء، وترجم العديد من الأعمال الفلسفية الغربية إلى اللغة العربية، فهو مؤلف يملك ناصية اللغة بإحكام، وقلمه سيال لا تخونه العبارة، ولا تعوزه الكلمة، حتى قال في حقه د. علي بن إبراهيم العجين :” وجلد المؤلف على التنقير والبحث لا تخفى، وسعة اطلاعه على كتب التراث الإسلامي ظاهرة، وقدرته على التحليل والتفكيك لترويج فكره بينة؛ فإذا كان أهل الحداثة بهذه الصفات فالأجدر بنا أن نتصف بها؛ لنتمكن من نشر قيم ديننا، وتعليم الناس نور الكتاب والسنة ورد الباطل في نحره”[1].

ولأهمية المؤلف وكتابه، أحببت أن أخصه بهذا المقال الذي سأتناول فيه مطلبين:  

المطلب الأول: التعريف بالمفكر الحداثي : جرج طرابيشي.

المطلب الثاني: بعض آراء جورج طرابيشي في السيرة النبوية من خلال كتابه: (المعجزة أو سبات العقل) عرض ونقد.

وهذا أوان الشروع في المقصود؛ فأقول وبالله التوفيق:

المطلب الأول:

التعريف بالمفكر الحداثي: جرج طرابيشي:

1-اسمه، ولادته، نشأته، ومراحله الفكرية التي مر منها:

هو: الأستاذ جورج طرابيشي ،مفكر حداثي وفيلسوف ومترجم سوري، ولد بمدينة حلب عام 1939م، درس في جامعة دمشق وحصل فيها على الليسانس في اللغة العربية، ثم على درجة الماجستير في التربية من نفس الجامعة، ومارس تعليم اللغة العربية في ثانويتي: حلب، ودمشق، ثم عمل مديرا لإذاعة دمشق عام 1963-1964، ورئيسا لتحرير مجلة “دراسات عربية” 1972-1984، ورئيس تحرير بمجلة “الوحدة” 1984-1989م، ثم دخل لبنان وأقام فيها إلى أن بدأت الحرب الأهلية، فغادرها إلى باريس مستقرا فيها، ومتفرغا للبحث والترجمة إلى وفاته بها[2].

أما المراحل الفكرية التي مر منها جورج طرابيشي فهي محطات متنوعة عرفت انقلابات فكرية كبيرة، غيرت مسار حياته، يقول د. علي العجين:” وفي آخر مقال له وصف هذه الانقلابات الفكرية بأنها محطات في حياته (ست محطات في حياتي)، وكل محطة مثلت مرحلة فكرية، فمن التدين (المسيحي)، إلى الهرطقة (الإلحاد)، ومن مرحلة القومية العربية، والبعثية، واليسارية، والماركسية إلى مرحلة الحداثة والليبرالية، مرورا بشغفه بالتحليل النفسي لفرويد، وليس انتهاء بانقلابه على الراحل الجابري”[3]

2-آثاره:

ترك جرج طرابيشي إرثا فكريا كبيرا؛ فقد كان غزير الكتابة، واسع التأليف، كتب في حقول معرفية عدة: كتب في الماركسية، والفلسفة، والنظرية القومية، والنقد الأدبي للراوية العربية، وقاربت مؤلفاته الثلاثين كتابا، وخمسمائة بحث ومقال، بالإضافة إلى شغفه بالترجمة ؛ حيث ترجم لكبار فلاسفة الغرب كفرويد، وهيغل، وسارتر، وسيمون دو بوفوار، وريازانوف، وجارودي وغيرهم، وفاقت الكتب التي ترجمها إلى العربية المئة كتابا[4].

ومن مؤلفاته: من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث[5]، هرطقات عن الديموقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية[6]، معجم الفلاسفة[7]، ومن النهضة إلى الردة[8]، إشكالية العقل العربي[9]…وغيرها.  

3-وفاته:

توفي المفكر والأستاذ جورج طرابيشي يوم الأربعاء 16 مارس 2016م، في العاصمة الفرنسية باريس، عن عمر يناهز 77 عام[10].

المطلب الثاني:  

بعض آراء جورج طرابيشي في السيرة من خلال كتابه: (المعجزة أوسبات العقل) عرض ونقد.

لقد أطلق جورج طرابيشي مجموعة من الدعاوى حول معجزات النبي صلى الله عليه وسلم من خلال كتابه: (المعجزة أو سبات العقل)، وهي كثيرة وانتقيت منها بعضها، ومن ذلك:

1-ادعاء طرابيشي أن النبي صلى الله عليه وسلم نبي بلا معجزات، وأن معجزته الوحيدة هي القرآن :

حيث نجد طرابيشي عقد مبحثا كاملا في تسعة عشر صفحة باسم: (نبي بلا معجزات)[11] ومن خلاله شرع في طرح أسئلة ملغومة لا تنطلي إلا على من ليس له أثرة من علم، يقول:” هنا ينهض سؤال: إذا كانت المعجزة رفيقة درب كل نبي؛ فلماذا قضت المشيئة الإلهية أن ينفرد الرسول دون سائر الرسل والأنبياء بأن يكون نبيا بلا معجزة “[12]

وقال أيضا:” إن الرسول مبعوث ليبشر وينذر، وكل مهمته مقصورة على تبليغ رسالات ربه بدون سند من معجزة – خلافا لمن تقدمه من الرسل والأنبياء – غير سند إعجاز القرآن”[13] .             

وقال أيضا :”وفي بعض الآيات يتحول الرسول نفسه إلى طالب آية، وهذا ليس فقط رغبة منه في تسهيل مهمته في إقناع أللامقتنعين برسالته؛ بل أيضا – وهذا أبلغ دلالة – تعبيرا عن شكوكه هو نفسه إزاء صمت الله، وإزاء النصاب الذي خصه به دون سائر الأنبياء؛ نبي بلا معجزة” [14] .

الرد على هذه الدعوى:

أولا: لم يخرج طرابيشي قيد أنملة عن شرنقة المسار الحداثي العقلاني المجمع على نفي المعجزات الحسية عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن المعجزة الوحيدة له كانت معجزة عقلية وهي: القرآن؛ إلا أنه في الحقيقة إذا أمعنا البحث في أصل هذا الادعاء فإننا حتما سنجد أن طرابيشي في رأيه هذا لم يأت بجديد؛ إذ أن هذا الطرح قد سبقه إليه إخوانه من الفلاسفة ودعاة العقل والحداثة مثل: د. هيكل في كتابه: (حياة محمد) [15] ، ود. محمد عابد الجابري في كتابه: (المدخل إلى القرآن الكريم) [16]   والمهندس محمد شحرور في كتابه : (الكتاب والقرآن قراءة معاصرة) [17] ، وهي نفسها آرا المستشرقين من قبل، أخذها الحداثيون منهم كالببغوات، وأعادوا قولبتها في إطار العلمية والمذهب العقلي.

ثانيا: أما ادعاؤه أن النبي صلى الله عليه وسلم نبي بلا معجزة، وأن معجزته الوحيدة هي القرآن، فمردود عليه من خلال آيات القرآن الكريم الذي تضمنت الإشارة إلى بعض المعجزات الحسية الكبرى: كالإسرا والمعراج، قال تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير) [18]، ومعجزة انشقاق القمر قال تعالى: (اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية  يعرضوا ويقولوا سحر مستمر) [19]، ومعجزة مدد الملائكة للمسلمين يوم بدر قال تعالى: ( بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين)[20]، وكالإخبار ببعض المغيبات المستقبلية كغلبة الروم الفرس في بضع سنين قال تعالى: (آلم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين)[21]…إلخ.

وكذلك ما حوته كتب الحديث وعلى رأسها الصحيحين: البخاري ومسلم من الأحاديث المستفيضة عن معجزاته الحسية صلى الله عليه وسلم.

واختم هذا الرد بقول دة سمر عبد الفتاح: “إنكار معجزات النبي صلى الله عليه وسلم قد يكون قاسم مشترك بين الحداثيين … ولئن كان إنكارهم وقوع معجزات حسية للنبي صلى الله عليه وسلم وقيام هذه الأفكار في أذهانهم؛ إلا أنه من المؤكد أن لهم سابقين أوردوا تلك المقولات وعليه فقد جاء توظيفهم إياها في العصر الحاضر يمثل رجع الصدى لما سلف إليه غيرهم”[22]

2-ادعاء طرابيشي أن مصادر السيرة النبوية حولت حياة النبي صلى الله عليه وسلم إلى أسطورة :

حيث أورد جورج طرابيشي بعض المصادر  التي جمعت مرويات المعجزات ودلائل النبوة، وتفاوت كل مصنف عن آخر في عدد هذه المعجزات النبوية، ومن تلك المصادر التي ذكرها : سيرة ابن هشام، ودلائل النبوة للماوردي، ودلائل النبوة للبيهقي، والشفا للقاضي عياض، والبداية والنهاية لابن كثير، والسيرة الحلبية للحلبي…ثم قال بعد ذلك: “والواقع أن أكثر ما يلفت انتباه المتتبع لأدبيات السيرة هو أن النبي محمدا… قد أخضعت سيرته لعملية أسطرة لم تخضع لها أيت سيرة أي نبي آخر؛ ربما باستثناء عيسى الذي جرى تأليهه “[23]

وخص بالذكر أحد مصادر السيرة النبوية وهي السيرة الحلبية قال:” والحال أن السيرة الحلبية المصنفة في القرن الحادي عشر الهجري قد استفادت من كل التراكم في أدبيات السيرة لترقى بعملية الأسطرة إلى مستوى غير مسبوق، ولتحيط بهالتها لا الرسول وحده قبل مبعثه وبعده؛ بل كذلك قبيلته، وجده، وأمه، ومرضعته”[24].

ثم خرج بنتيجة مفادها: أن هذه المصادر أسهمت :”في إرساء عبادة حقيقة لشخص الرسول وفق النموذج العيسوي”[25].

الرد على هذه الدعوى:

أولا: ما ذكره طرابيشي من مصادر السيرة ، وممن ألف في المعجزات النبوية  وتكديسهم المعجزات، فهؤلاء علماء ثقات مشهود لهم بالعدالة والفضل والعلم، وإذا كانت كتبهم التي ألفوها في المعجزات والدلائل النبوية قد خالطها الضعيف، والصحيح، والموضوع ، إلا أن الغالب هو الصحيح، والمنهج العلمي المتبع في مثل هذه المؤلفات هو:  إعمال منهج الجرح والتعديل، ودراسة الحديث سندا ومتنا، فما منها يؤخذ به، وما لم يصح لا يؤخذ به، لا أن نلغي الكل بدعوى العلمية. فهذا ليس من العلم في شيء .

ثانيا: أما ادعاؤه أن مصادر السيرة أخضعت حياة النبي لعملية الأسطرة فكلام عام وغير علمي؛ فطرابيشي هنا لم يكن دقيقا حين جمع كل المصادر في سلة واحدة؛ لأن مصادر السيرة النبوية متفاوتة من حيث أهميتها وأصحيتها، فهناك المصادر الأصلية وعلى رأسها: القرآن الكريم، وكتب الحديث، وكتب المغازي والسير ….الخ، وهناك المصادر الفرعية؛ ككتب الأدب والشعر…إلخ، فهل القرآن الكريم، وأحاديث الصحيحين هي أيضا صنعت من النبي صلى الله عليه وسلم أسطورة من الأساطير؟ !!!

 إن الملاحظ للعيان أن طرابيشي ليس من أهل الاختصاص؛ وإنما حشر نفسه في فن لا يحسنه ، فكيف سولت له نفسه الحديث عن مصادر السيرة، وهو في الحقيقة لم يستطع حتى التفريق بين أخبار السيرة النبوية الصحيحة المروية من طرق ثابتة، وبين الأخبار الضعيفة والموضوعة، فجمع الكل في سلة واحدة؟ ! وهذا بطبيعة الحال بُعد عن المنهج العلمي، الذي يتشدق به الحداثيون؛ لأن السيرة النبوية أخضعها أهل الاختصاص من علماء الحديث للنقد والتمحيص، وبينوا الصحيح والزائف من أخبارها، وأغلبها وصلتنا بالأسانيد، رواها رجال معروفين عند علماء الجرح والتعديل..ورحم الله الإمام الذهبي حين قال:” ونبينا صلوات الله عليه وسلامه غني بمدحة التنزيل عن الأحاديث، وبما تواتر من الأخبار عن الآحاد، وبالآحاد النظيفة الأسانيد عن الواهيات، فلماذا يا قوم نتشبع بالموضوعات؟ فيتطرق إلينا مقال ذوي الغل والحسد؛ ولكن من لا بعلم معذور”[26].

ثالثا: أما قوله أن هذه المصادر أسهمت :”في إرساء عبادة حقيقة لشخص الرسول وفق النموذج العيسوي”[27]. فهذه دعوى عريضة لا دليل فيها لطرابيشي، بمعنى: أنه يريد أن يقول لنا أن إيمان المؤمنين بمعجزات النبي صلى الله عليه وسلم بمثابة عبادة له، وهذا غير صحيح؛ إذا لم يثبت على مر التاريخ الإسلامي سواء في الصدر الأول، أو في غيره من العصور أن قام المسلمون بعبادة النبي صلى الله عليه وسلم أو تأليهه، أو رفع مقامه مثل مقام الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا… فطرابيشي يقوم هنا بنوع من الإسقاط المتعمد لمبادئ النصرانية العيساوية المحرفة التي تدعوا في بعض اتجاهاتها إلى تأليه عيسى بن مريم، أو جعله ابنا لله،  تعالى الله عن ذلك علوا كبير….ثم في أي مصدر من مصادر السيرة النبوية وقف عليها طرابيشي تقول بتأليه النبي محمد صلى الله عليه وسلم وعبادته كما يدعي؟

3-ادعاء طرابيشي أن مرويات المعجزات النبوية جاءت كلها عن طريق أخبار الآحاد وبالتالي فلا  يعتد بها:

يقول في ذلك :” قصص المعجزات قد جاءت كلها كما يقر بذلك الماوردي في أعلام النبوة عن طريق الأخبار الآحاد، والحال أن الأخبار الآحاد كانت على الدوام في حقل نظرية المعرفة الإسلامية موضع جدال، وأخذ ورد بسبب نصابها ودرجتها من المصداقية” [28].

وقال في موضع آخر:” وعلى كل ما يخبر عنه من معجزات الرسول الحسية علما بأنها مروية كلها كما تقدم البيان عن أخبار آحاد”[29].

الرد على هذه الدعوى:

إن غرض الحداثيين هو: إعمال آليات تفكيك لعلوم الشريعة، ومن ذلك علوم الحديث الشريف، بغية هدمه وإعادة بنائه على قواعد آخرى غير قواعده، وأسس غير أسسه، فيردون الأحاديث الصحيحة بدعوى أنها أخبار آحاد، أو أنها تخالف العلم التجريبي والعقل.

وللأسف يظهر أن هؤلاء الحداثيين وعلى رأسهم طرابيشي يحشرون أنفسهم في علم صلف صعب المراس وهو علم الحديث، دون أن يكون لهم فيه أثرة من علم، بله أن يكونوا من رجاله، وأغلبهم ليسوا من أهل الاختصاص فيه، فمن قال أن أخبار الآحاد لا يعتد بها، ولا تقوم بها حجة؟ إلا أفراخ المعتزلة من المستشرقين والحداثيين ومن سار على دربهم.

أما المسلمون وأهل العلم فقد أجمعوا على وجوب العمل بأحاديث الآحاد، لم يخالف في ذلك أحد منهم، يقول الإمام ابن عبد البر القرطبي (463هـ) رحمه الله، في مقدمة كتابه التمهيد:” وأجمع أهل العلم من أهل الفقه والأثر في جميع الأمصار، فيما علمت على قبول خبر الواحد العدل، وإيجاب العمل به إذا ثبت، ولم ينسخه غيره من أثر أو إجماع، على هذا جميع الفقهاء في كل عصر من لدن الصحابة إلى يومنا هذا، إلا الخوارج وطوائف من أهل البدع، شرذمة لا تعد خلافا”[30].

ويقول الخطيب البغدادي رحمه الله (463هـ) :” وعلى العمل بخبر الواحد كافة التابعين ومن بعدهم من الفقهاء الخالفين في سائر أمصار المسلمين إلى وقتنا هذا ، ولم يبلغنا عن أحد منهم إنكار لذلك ولا اعتراض عليه، فثبت أن من دين جميعهم وجوبه”[31]

وقال الإمام ابن بطال القرطبي رحمه الله(449هـ) :”انعقد الإجماع على القول بالعلم بأخبار الآحاد”[32]

والخلاصة أن الحداثيين -وعلى رأسهم  جورج طرابيشي- لا يهمهم الحديث سواء كان آحادا أو متواترا، بقدر ما يهمهم تفكيك قواعد الاستمداد والاحتجاج الحديثي، والمحصلة التشكيك فيه، والهدم لأسسه، والطرح لأصول الشريعة الغراء بدعوى العقل والحداثة المتهافة.

الخلاصة:

وفي ختام هذا المقال خلصت إلى الآتي:

1-أصحاب الفكر الحداثي استندوا إلى مفهوم العقلانية كميزان لقراءة السيرة النبوية، خصوصا في موضوع: المعجزات النبوية.

2-الحداثيون وقفوا أمام موضوع المعجزات النبوية موقف الشك والنفي لها؛ لأنها بحسب فهمهم تخالف العقل.

3-المفكر جورج طرابيشي ألف كتابه : المعجزة أو سبات العقل في الإسلام، ليؤكد فيه آراء من سبقه من إخوانه الحداثيين بخصوص المعجزات النبوية.

4-أورد طرابيشي في كتابه: “المعجزة أو سبات العقل” آراء ودعاوى عريضة لا تصمد أمام الأدلة والبراهين من نصوص العقل والنقل، ومما ادعاه من آراء.

أ-أن النبي صلى الله عليه وسلم هو نبي بلا معجزات حسية، وأن معجزاته الوحيدة عقلية ، وهي القرآن، وقد تم تفنيد دعواه في المقال.

ب- اعتبر مصادر السيرة النبوية خصوصا في باب المعجزات أنها حولت حياة النبي صلى الله عليه وسلم إلى أسطورة، وقد بينت في المقال تهافت دعواه.

ت-عد مرويات المعجزات النبوية أنها جاءت كلها عن طريق أخبار الآحاد ، وبالتالي فهي غير صحيحة لا يعتد بها، وفي المقال ذكرت ما ينقض هذه الفكرة من خلال أقوال العلماء.

والحمد لله رب العالمين

**********************

هوامش المقال:

 [1]  من الهرطقة إلى الأصولية: قراءة في فكر جورج طرابيشي في كتابه: من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث (ص: 7).

[2]  – انظر ترجمته في: من الهرطقة إلى الأصولية(ص: 11)، وفي بحث: الرد على طعونات المفكر جورج طرابيشي للإمام مالك من خلال كتابه: من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث (ص: 4-5-6).

[3]  – من الهرطقة إلى الأصولية (ص: 23).

[4]  – الرد على طعونات المفكر جورج طرابيشي للإمام مالك من خلال كتابه: من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث  (ص: 5) بتصرف.

[5]  – طبع عن دار الساقي ، بيروت ط2، 2011م.

[6]  – طبع عن دار الساقي ط1، 2008م.

[7]  – طبع عن دار الطليعة، بيروت ط3، 2006م.

[8]  – طبع عن دار الساقي، بيروت، 2003م.

[9]  – صدر عام 2000م عن دار الساقي، بيروت.

[10] – الرد على طعونات المفكر جورج طرابيشي للإمام مالك من خلال كتابه: من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث  (ص: 6)

[11]  – (من ص: 11 إلى ص: 29) من كتابه: “المعجزة أو سبات العقل في الإسلام”.

[12]  –  المعجزة أو سبات العقل (ص: 17) .

[13]  –  المعجزة أو سبات العقل (ص: 32) .

[14]  –  المعجزة أو سبات العقل في الإسلام (ص: 12) .

[15]  –  انظر: حياة محمد (ص: 71) .

[16]  –  المدخل إلى القرآن (ص: 144-145) .

[17]  –  انظر : الكتاب والقرآن : قراءة معاصرة  (ص: 185-186) .

[18]  –  سورة الإسراء (1).

[19]  –  سورة القمر (2).

[20]  –  سورة آل عمران (3).

[21]  –  سورة الروم (1-2-3-4).

[22]  –  الاتجاه الحداثي وموقفه من المعجزات (ص: 483-486).

[23]  –  المعجزة أو سبات العقل في الإسلام (ص: 77).

[24]  –  المصدر السابق (ص: 77).

[25]  –  المصدر السابق (ص: 77).

[26]  –  سير أعلام النبلاء (20/ 216).

[27]  –  المعجزة أو سبات العقل في الإسلام (ص: 77).

[28]  –  المعجزات أو سبات العقل (ص: 57).

[29]  –  المعجزات أو سبات العقل (ص: 67) الهامش: 5.

[30]  –  مقدمة كتاب التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (1 /2).

[31]  –  الكفاية في علوم الرواية (ص: 33).

[32]  –  نقلا من فتح الباري (16/ 393).

********************

لائحة المصادر والمراجع:

الاتجاه الحداثي وموقفه من المعجزات الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وسلم : دراسة تحليلية نقدية، بحث أعدته: دة . سمر عبد الفتاح حسب الله سيد أحمد. نشر في مجلة كلية الدراسات الإسلامية بكفر الشيخ. العدد: 2 المجلد 6/ 2018مـ.

أيامي مع جورج طرابيشي: اللحظة الآتية. لهنرييت عبودي (زوجة طرابيشي). دار مدارك للنشر بيروت. 2020مـ.

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد: لابن عبد البر القرطبي. ت: مصطفى بن أحمد العلوي ومحمد عبد الكبير البكري. وزارة الأوقاف. 1387هـ- 1967مـ.

حياة محمد: لمحمد حسين هيكل . مؤسسة هنداوي. القاهرة. (د.ت).

الرد على طعونات المفكر جورج طرابيشي للإمام مالك من خلال كتابه: من إسلام القرآن إلى إسلام الحسين: لمريم إخلف بحث منشور بجامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية قسنطينة (د.ت).

سير أعلام النبلاء: للذهبي. ت: شعيب الأرنؤوط ومحمد العرقسوسي . مؤسسة الرسالة بيروت. ط1/ 1405هـ- 1985مـ.

فتح الباري شرح صحيح البخاري : لابن حجر العسقلاني. دار الكتب العلمية بيروت لبنان. 2011مـ.

الكتاب والقرآن: قراءة معاصرة: لمحمد شحرور، الأهالي للطباعة والنشر . دمشق، سوريا (د.ت).

الكفاية في علم الرواية: للخطيب البغدادي. ت: زكريا عميرات دار الكتب العلمية بيروت لبنان. 2006مـ.

المدخل إلى القرآن الكريم: لمحمد عابد الجابري. مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط 2006مـ.

المعجزة أو سبات العقل في الإسلام: لجورج طرابيشي. دار الساقي بيروت لبنان  . ط1/ 2008م.

من الهرطقة إلى الأصولية: قراءة في فكر جورج طرابيشي في كتابه: من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث: د علي بن إبراهيم العجين . الأثرية للطباعة والنشر . الأردن ط1/ 1440هـ- 2019مـ .

*راجعت المقال الباحثة: خديجة ابوري

Science

د. محمد بن علي اليــولو الجزولي

  • أستاذ باحث مؤهل بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة النبوية العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء بالرباط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق