مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلاميةقراءة في كتاب

جديد مؤرخ العلوم د. رشدي راشد

تقديم : عبد العزيز النقر

مركز ابن البنا المراكشي

لا يزال مؤرخ العلوم المقتدر رشدي راشد يواصل أعماله العلمية الرصينة والمجددة رغم عمر ناهز سبعة وثمانين عاما. وهي أعمال علمية رصينة لعدة اعتبارات، أهمها أنها تستجيب لأرقى شروط وضوابط البحث العلمي على المستوى العالمي. أما بخصوص طابعها التجديدي، فلا يكاد ينحصر في إعادة رسم خارطة تاريخ العلوم العربية من خلال التعريف بأهم رياضيي الحضارة العربية الإسلامية وأهم منجزاتهم العلمية، بل إن بعض أعماله أسهمت أيضا في إغناء معرفتنا بتاريخ الرياضيات اليونانية (كتحقيقه لنصوص أبولونيوس وديوفانطس) وتاريخ الرياضيات في الفترة الحديثة (كأعماله حول ديكارت وفيرما).

   صدر للأستاذ راشد هذه السنة (2023) عن دار النشر الألمانية العريقة De Gruyter خمسة كتب علمية بالغة الأهمية. يتعلق العمل الأول بتحقيق وترجمة ودراسة لبعض نصوص الرياضي السجزي، بينما تمثل الأعمال الأربعة الأخرى تجميعا لعدة مقالات وأبحاث علمية أنجزها هذا المؤرخ على امتداد خمسين سنة. لا يخفى مدى الأهمية الكبيرة التي تكتسيها عملية إعادة نشر كل تلك المواد العلمية، إذ يحدث في أحيان كثيرة أن يكد الباحث بحثا عن مقال معين دون أن تكلل مجهوداته بأي توفيق لعدة أسباب، منها -مثلا- أن المجلة التي صدر ضمنها ذاك المقال لا تتوفر على أرشيف يضم المواد العلمية المنشورة قديما أو أن محتويات تلك الأعداد القديمة لم يتم رقمنتها[1] كي تغدو في متناول الباحثين الراغبين في اقتنائها والاطلاع عليها. بالتالي، تصير تلك المقالات غير المتوفرة للباحثين في عداد الأعمال العلمية النادرة النفيسة، وكأن حالها أشبه بحال تلك المخطوطات التي فُقدت ولم يصلنا منها إلا خبرها أو عنوانها !

يحمل الكتاب الأول العنوان التالي : “الهندسة وفلسفة الرياضيات في القرن العاشر الميلادي : الأعمال الرياضية للسجزي (الجزء الثاني)“.[2] وكما هو واضح من العنوان، فإن الأمر يتعلق بجزء ثان، أما الجزء الأول فقد صدر سنة 2004، وكان مخصصا لهندسة المخروطات ونظرية الأعداد في القرن العاشر الميلادي.[3] تُرجم هذا الجزء، أي الأول، إلى اللغة العربية من طرف د. محمد يوسف الحجيري وصدر عن مركز دراسات الوحدة العربية سنة 2008.

   يمتد الجزء الثاني، الذي أنجزه رشدي راشد رفقة الباحث المميز باسكال كروزي، على ما يقارب 896 صفحة. يقول رشدي راشد في مقدمة الكتاب مبينا أهمية أعمال السجزي الرياضية : “بما أن السجزي يشغل موقعا مركزيا داخل هذا الجيل [وهو جيل نشيط ومبدع يمثله رياضيون كابن سهل وأبي الجود وغيرهم] وفي هذه الفترة من تاريخ الرياضيات، فإن التحقيق النقدي لمتنه وترجتمه سيغنيان البحث في تاريخ وفلسفة الرياضيات.”[4]

ينقسم الكتاب إلى خمسة أبواب، إضافة إلى أربعة ملاحق ومقدمة. خُصص الباب الأول لبعض المسائل البيوبيبليوغرافية المتعلقة بالسجزي (سيرته، أعماله الرياضية عموما، أعماله الهندسية، تاريخ النصوص …). أما الباب الثاني فهو مخصص لعلم الهندسة ومواضيعه. ويضم، بعد المقدمة، تحقيقا نقديا وترجمة لنصين هما : “كتاب المدخل إلى علم الهندسة، تأليف أحمد بن محمد بن عبد الجليل السجزي”[5] و”رسالة أحمد بن محمد بن عبد الجليل : في أن الضلع غير مشارك للقطر”. يتعلق الباب الثالث بعلاقة أعمال السجزي بكتاب الأصول لأقليدس، ويحتوي على مقدمة مع تحقيق وترجمة لأربعة نصوص هي على التوالي : “براهين كتاب أقليدس في الأصول على سبيل التوسع والارتياض، استخراج أحمد بن محمد بن عبد الجليل”، و”رسالة أحمد بن محمد بن عبد الجليل إلى بعض أصدقائه في حل الشك الذي في الشكل الثالث والعشرين من المقالة الحادية عشرة من كتاب أوقليدس في الأصول وعمل آخر له”، و”استدراك وشك في الشكل الرابع عشر من المقالة الثانية عشرة من كتاب الأصول لبعض المتصفحين، حلها أحمد بن محمد بن عبد الجليل”، و”رسالة أحمد بن محمد بن عبد الجليل في جواب مسألة عن كتاب يوحنا بن يوسف من انقسام خط مستقيم بنصفين وتبيين خطأ يوحنا في ذلك”.

   يضم الباب الرابع النصوص التالية : “كتاب أحمد بن محمد بن عبد الجليل : في المسائل المختارة التي جرت بينه وبين مهندسي شيراز وخراسان، وتعليقاته”، و”كتاب أحمد بن محمد بن عبد الجليل : في تحصيل القوانين الهندسية المحدودة”، و”قول أحمد بن محمد بن عبد الجليل في خواص مربع قطر الدائرة”، و”رسالة في رسم المسدس في المربع والمربع في المسدس وتبيين مقدار [ذلك] كل منهما عند الآخر ونسبة الضلع من الضلع بعمل سهل وبرهان قريب عن أحمد بن محمد بن عبد الجليل السجزي المهندس”.

   أما فيما يخص الباب الخامس، فقد خصصه الباحثان (راشد وكروزي) لمسألة قسمة الأشكال، حيث تضمن تحقيقا وترجمة لنص السجزي المعنون بـ”كتاب أحمد بن محمد بن عبد الجليل في الأجوبة عن مسائل سألها عنه بعض مهندسي شيراز” (هكذا ورد العنوان في النص المحقق). أما في ما يتعلق بالملاحق، فهي عبارة عن نصين قصيرين يحملان العنوانين التاليين : “ملحق بشكل عح من كتاب السجزي في المسائل المختارة” و”براهين أخرى لبعض المسائل من كتاب السجزي في المسائل المختارة”. هذا بالإضافة إلى لائحتين تضمان عناوين لأعمال السجزي الرياضية. كما أضاف الباحثان، في آخر الكتاب، فهرسا لأهم المصطلحات الرياضية العربية التي استعملها السجزي مرفقة بمقابلاتها الفرنسية وأماكن تواجدها في تلك النصوص الرياضية.

هذا فيما يخص الكتاب الأول، أما فيما يتعلق بباقي الكتب الأربعة – المتضمنة لكثير من المقالات والدراسات التي أنجزها رشدي راشد على امتداد خمسين سنة – فيصعب في الحقيقة تقديم وصف دقيق لها بحكم كثرة الأعمال المدرجة فيها. ترجع هذه الأعمال في أصلها إما إلى مقالات نُشرت في دوريات ومجلات مختلفة أو ترجع إلى مداخلات ألقيت ببعض المؤتمرات العلمية ونشرت ضمن أعمالها المطبوعة.هذا فضلا عن أن تلك الكتب الأربعة تتضمن أيضا بعض الأعمال التي لم يسبق نشرها.لهذا، فإنه من المتعذر تماما تقديم كل تلك الأعمال نظرالكثرتها وتباين مواضيعها، ناهيك عن أن كل جزء منها يفوق عدد صفحاته 600 صفحة !

تنتظم مجمل هذه الأعمال حول مجال محدد هو “تاريخ الرياضيات وتطبيقاتها وفلسفتها”. وقد اختير لهذه الكتب الأربعة العنوان العام التالي : “كتابات في تاريخ وفلسفة العلوم”. يبدو أن تفادي تقييد هذا العنوان بعبارة “العلوم العربية” راجع أساسا إلى أن تلك المقالات لا تشمل فقط مجال تاريخ الرياضيات العربية، بل إنها تضم كذلك دراسات مخصصة لرياضيين ينتمون للحضارة اليونانية، كمينلاوس وأرشميدس وأبورلونيوس، كما تحتوي أيضا مقالات أخرى مخصصة لرياضيين ينتمون للثقافة الأوربية الحديثة، كفِرْما وديكارت.أما فيما يخص عناوين تلك الأجزاء الأربعة، كل على حدة، فقد جاءت على الشكل التالي : “الجزء الأول : علم العدد، الجبر ونظرية الأعداد”، “الجزء الثاني : الهندسات”، “الجزء الثالث : البصريات وعلم الفلك”، و”الجزء الرابع : الرياضيات والفلسفة”.

لئن كانت هذه المواد العلمية، المتضمنة في هذه الأجزاء الأربعة، مختلفة ومتباينة من جهة مواضيعها، فهذا لا يعني بالضرورة اختلافا في منهجها، إذ يمكن الحديث هنا عن منهج معين يتسم ببعض الخصائص العامة التي تسري على كل هذه الدراسات العلمية-الرياضية. يؤكد رشدي راشد في مقدمة الجزء الأول أن المنهج المعتمد في هذه الدارسات هو نفسه المنهج الذي وجه عملية تحرير كل كتبه السابقة. يرتكز هذا المنهج على العمل على ترجمة النص المعني مع تحقيقه تحقيقا نقديا، يرافق ذلك تقديم دراسة تاريخية دقيقة وتحليل رياضي يستعين بالمكتسبات الرياضية الرمزية المعاصرة. يتيح هذا الأمر، في منظور رشدي راشد، إمكانيةَ إبرازِ أهم المفاهيم الرياضية والممارسات العلمية التي تنطوي عليها تلك النصوص “القديمة”، كما تسمح تلك الطريقة أيضا بتتبع التطورات اللاحقة التي شهدتها هذه المفاهيم وتلك الممارسات، سواء ضمن التقليد العلمي العربي، أو داخل التقليد اللاتيني الوسيط والأوربي الحديث. ولا ريب في أن ما ينطبق على امتدادات الرياضيات العربية داخل الثقافة اللاتينية-الأوربية ينطبق بالأولى على الرياضيات العربية نفسها، وذلك نظرا لأن هذه الأخيرة ليست في كثير من مظاهرها إلا امتدادا وتطويرا لتقاليد يونانية أو هندية …[6]

   نأمل أن تجد مجمل هذه الأعمال العلمية الرصينة طريقها إلى الترجمة العربية. خصوصا وأن عملية ترجمة نصوص رشدي راشد، كتبا ومقالات، قد شهدت في السنين الأخيرة تراكما لا بأس به، حيث فاق عدد نصوصه المترجمة إلى اللغة العربية ثلاثة عشر كتابا. نُشرت معظم هذه الكتب ضمن المشروع الذي أطلقه مركز دراسات الوحدة العربية لنشر وترجمة الأعمال المخصصة لتاريخ العلوم العربية. وعنوان هذا المشروع هو “سلسلة تاريخ العلوم عند العرب”.

[1]– المقصود هنا توفير تلك المقالات على شبكة الأنترنيت وفق الضوابط القانونية المعمول بها في هذا الشأن، ولا علاقة للأمر، من قريب أو بعيد، بعمليات قرصنة الكتب.

[2]– Géométrie et philosophie des mathématiques au Xème siècle, Œuvre mathématique d’al-Sijzī (Volume II). Textes établis, traduits et commentés par RoshdiRashedet Pascal Crozet, De Gruyter, 2023. 895 pages.

[3]-RoshdiRashed, Œuvre mathématiques d’al-Sijzi Volume I : Géométrie des coniques et théorie des nombres  au Xéme siècle, Editions Peeters, 2004. 541 pages.

[4]Géométrie et philosophie des mathématiques au xesiecle, Œuvre mathématique d’al-Sijzī (Volume II). Op. cit., p. 7.

[5]– وضعنا هنا عنوان المخطوط كاملا كما أورده المحققان (رشدي وكروزي).

[6]– يقول رشدي راشد بخصوص المنهج المتبع في معظم هذه الدراسات :

” -Quant à la méthode, c’est celle qui a présidé à la rédaction de la plupart de mes livres : elle consiste à restituer les faits encore inconnus par l’édition critique et la traduction des textes des anciens mathématiciens, en les éclairant d’un commentaire historique et mathématique qui dégage les concepts et les pratiques à l’œuvre et permet de comprendre leurs développements.”. Ibid, p. V.

Science

ذ. عبد العزيز النقر

حاصل على شهادة الماستر في الفلسفة

باحث بمركز ابن البنا المراكشي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق