مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلاميةتراث

مكتبة بيت الحكمة

عبد الغني زيدان

مركز ابن البنا المراكشي

تقديم:

تعتبر دار الحكمة أول بيت الحكمة من بين أشهر و أعظم دار كتب في الإسلام، وقد تأسست في بغداد عاصمة الدولة العباسية في القرن الثامن الميلادي على يد الخليفة هارون الرشيد(193 ه/ 809م) خلال العصر الذهبي للإسلام، استمرت هذه المكتبة في شهرتها و ازدهارها في عهد الخليفةالمأمون“(218ه/833م) الذي يعُتبر بحق المؤسس الأصلي لبيت الحكمة .

لقد ضمت مكتبة دار الحكمة ملايين من الكتب في الطب و الهندسة و الفلك و غيرها، كما عمل فيها أكبر العلماء في التاريخ كالخوارزمي و الكندي و الطبري، و لأكثر من 4 قرون ظلت أبوابها مفتوحة أمام العلماء من مختلف أنحاء العالم.

بداية تأسيس بيت الحكمة:

منذ أنشأ الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور مدينة بغداد، حيث بعدها بدأ بتأسيس مكتبة ضمت مجموعة من كتب الشعر و المخطوطات القديمة، لكن مع تولي الخليفة هارون الرشيد عام 786ه قام ببناء أول دار علمية و أطلق عليها اسم “بيت الحكمةو نقل إليها جميع الكتب التي جمعها والده و جده، و لم يكتف بذلك بل أتى بكثير من الكتب اليونانية في مختلف المجالات العلمية و ترجمها إلى اللغة العربية.

و مع تولي الخليفة المأمون الحكم  عام 813 ه و عدم قدرة المكتبة على استيعاب الكتب المتراكمة بداخلها، قام بتوسيع و تنظيم المكتبة و فتح أبوابها أمام جميع العلماء لتتحول سريعا إلى أكاديمية علمية كبيرة تجذب العلماء و المفكرين و الأدباء من مختلف أنحاء العالم.

مكانة بيت الحكمة العلمية:

لعبت مكتبة بيت الحكمة دورا رئيسيا في نمو المعرفة العلمية خلال العصر العباسي، و ذلك عبر ترجمة العلوم من مختلف الثقافات حول العالم إلى اللغة العربية، مما ساعد في تحقيق المزيد من التقدم بمجالات عديدة مثل: الطب و الرياضيات و الفلك و الفلسفة  حيث قام بعض العلماء الكبار بترجمة معظم النظريات العلمية و أصبحت أعمال الفلاسفة و الأطباء اليونان من أمثال  أرسطو و أفلاطون و جالينوس و غيرهم متاحة باللغة العربية. وقد ساعد هذا العمل على تقدم الطب و الزراعة  وعلم الاقتصاد و الهندسة و غيرها و ساهم في فتح آفاق للاكتشافات جديدة لا سيّما مع اعتماد مترجمي بيت الحكمة على الترجمات المنقحة و إضافة التعليقات التصحيحية  لتسهيل فهم النصوص العلمية التي تم نقلها من الحضارات القديمة.

لم تقتصر هذه النهضة على الترجمة فقط بل قام علماء مكتبة بيت الحكمة بإنتاج أبحاث و دراسات أصلية مهمة، فعلى سبيل المثال ألف عالم الرياضيات الشهير محمد بن موسى الخوارزمي كتاب الجبر و المقابلةفي مكتبة بيت الحكمة مساهما بذلك في تطوير علم الجبر ،كما أنه قدّم كتاب عن نظام الأرقام العربية التي يعمل بها اليوم في أغلب الدول حول العالم.

وقد أسهم الفيلسوف العربي المسلم يعقوب بن إسحاق الكندي الذي يعتبر من أبرز علماء بيت الحكمة في ذلك الوقت، من تقديم فلسفة أرسطو للعرب و جعلها منسجمة مع اللاهوت الإسلامي فضلا عن مساهماته في علم الرياضيات و في تأسيس بعض المصطلحات العلمية العربية بالتعاون مع مترجمي بيت الحكمة.

و مع اهتمام الخليفة المأمون بعلم الفلك، قام بإنشاء أول مرصد فلكي في العالم الإسلامي عام 216 هـ في بغداد، أدار هذا المرصد علماء فلك كانوا يشتغلون بمكتبة دار الحكمة و كان منهم كبير الفلكيين: يحيى بن أبي منصور و سند بن على اليهودي، مما ساعد المسلمين و مكّنهم من رصد الشمس و القمر و حركة الكواكب و حساب ساعات الليل و النهار عبر آلة الإسطرلاب.

أما في المجال الطبي فقد قدم حنين ابن إسحاق رسالة مهمة في طب العيون في الوقت الذي كتب فيه علماء آخرون عن الالتهابات و الجراحة و الجدري و غيرها. و تأتي عظمة مكتبة بيت الحكمة حين أصبحت الكتب التي ألفت فيها فيما بعد كتبا مدرسية قياسية خلال عصر النهضة الأوروبية.

خاتمة:

لم تكن بيت الحكمة مجرّد مكتبة، فقد كانت قاعدة انطلق منها العلماء و الأكاديميون و المؤلفون و المترجمون بكتاباتهم إلى التاريخ و الإنسان، كما أنها أسهمت في إنتاج عدد ضخم من الأعمال العلمية و أشرفت على إجراء مختلف الأبحاث و الدراسات في الكيمياء و الرياضيات و الفلك و غيرها من العلوم، ما جعلها أن تصبح أعظم المكتبات في العالم الإسلامي و التاريخ الإنساني برمته.

فالمسلمين كانوا في ذلكم الوقت أغنى أغنياء الأمم بالكتب و المكتبات، يقول القلقشندى في الجزء الأول من كتابه صبح الأعشى : “أن الكتب المصنفة أجل من أن /تحصى و أكثر من أن تحصر، لا سيّما الكتب المؤلفة في الملة الإسلامية، فإنه لم يصنف مثلها في ملة من الملل، و لا قام بنظيرها أمة من الأمم”.

المراجع المعتمدة:

شمس العرب تسطع على الغرب، زيغريد هونكه، نقله عن العربية، فاروق بيضون، كمال دسوقي، ط 8، 1993.

تاريخ المكتبات الإسلامية و من ألف في الكتب، الشيخ محمد عبد الحي عبد الكبير الكتاني، ضبط و تحقيق، د. شوقي بنبين، د. عبد القادر سعود، ط1، 2013.

اللغة العربية و الخط و أماكن العلم و المكتبات للترجمة و آثارها، د.حنان قرقوري، ط1، 2006.

 

 

Science

ذ. زيدان عبد الغني

باحث مركز ابن البنا المراكشي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق