مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكتراث

تقريب نظم ابن عاشر شذرات من شرح العلامة الشيخ أبي عبد الله محمد بن قاسم جسوس على توحيد ابن عاشر(2)

وما اقتصر عليه الناظم رحمه الله من أن أول واجب المعرفةُ نفسها هو أحد الأقوال الإثنا عشر في أول واجب، ويُعزى للشيخ أبي الحسن الأشعري، وقيل: أول واجب النظر المؤدي إليها، وعليه اقتصر في الكبرى فقال: “أول ما يجب قبل كل شيء على من بلغ أن يُعمل فكره فيما يوصله إلى العلم بمعبوده من البراهين العقلية والقواطع السمعية”. قال في شرحها: وحاصله أن أول واجب النظر، قال: وهو مذهب جماعة منهم الشيخ الأشعري، وذهب الأستاذ [1] وإمام الحرمين إلى أن أول واجب القصدُ إلى النظر؛ أي توجيهُ القلب إليه بقطع العلائق المنافية. وقال القاضي: أولُ واجب أولُ جزء من النظر، ثم حكى القول بأن أول واجب الشك وردَّه. والقول بأن أول واجب الإقرارُ بالله ورسله عن عقد مطابق، قال: وسيأتي إبطاله، فهذه ستة أقوال. قال: وهي أقرب ما قيل في أول واجب. قال: وإنما اخترت من هذه الأقوال القولَ بأن أول واجب النظر لِتَكرُّرِ الحث على النظر في الكتاب والسنة حتى كأنه مقصد بخلاف ما قبل النظر من الوسائل، فإنما أخذ من قاعدة أن الأمر بالشيء أمر بما يتوقف عليه. انتهـى.

وقد ضعف المقترح القول بأن أول واجب النظر والقولَ بأنه أول جزء من النظر، وتبعه في شرح القصيد، فقال في تضعيف الأول: قائله إما أن يريد أول واجب مقصدا ولا يصح؛ لأن النظر وسيلة إلى المعرفة التي هي أول المقاصد الواجبة، وإما أن يريد أول واجب أداءً ولا يصح أيضا أن القصد إليه سابق عليه. وقال في الثاني جزء النظر لا يستقل بإفادة المعرفة، فلا يُسند إليه الوجوب على الانفراد كما لا يسند الوجوب لنصف اليوم أو ركعة مثلا. انتهـى.

وقد ضعف ابن العربي القول بوجوب الإيمان قبل النظر، وأورد سؤالا على ما اختاره من أن النظر واجب قبل الإيمان وأجاب عنه، فانظر ذلك كله في شرح الصغرى.

واعلم أنه لا منافاة بين القول الذي اقتصر عليه الناظم والقول بأن أول واجب النظر أو القصد إليه أو أول جزء؛ لأن أولية المعرفة أوليةُ الخطاب، وأولية النظر أو ما قبله أوليةُ اشتغال وأداء، وإن شئت قلت أوليةُ المعرفة أوليةُ مقصد، وأوليةُ النظر أو ما قبله أوليةُ وسيلة، فلا تناقض بين الأَوَّلِيَّتين، وقد أشار إلى ذلك في شرح الكبرى، وفي المراصد:

وأول الواجب شرعا في الأصح *****معرفة الله وذا قصدا وصح

وفي حاشية سيدي عبد الرحمن ما نصه: في العضد أن الأمة أجمعوا على وجوب معرفة الله تعالى وأنها لا تحصل بالتقليد، يعني ولا تنحصر في النظر كما عند الغزالي، على أن ما ذكره العضد سنده الأمر بالنظر وهو صادق بالندب، وأما آية: ﴿فاعلم أنه لا إله إلا الله﴾[2]؛  فالعلم قد يُطلق لغة على الظن الغالب، قاله السيد وغيره. انتهـى. أي فلا دليل في الأمر بالنظر على وجوبه، ولا في الآية على ذلك لما ذكره، وانظر هذا مع تكرار الأمر به، وقد قالوا إن الظواهر إذا تكررت في شيء أفادت القطع به، ولهذا قال في شرح الصغرى: والحق الذي يدل عليه الكتاب والسنة وجوب النظر الصحيح مع التردد في كونه شرطا في صحة الإيمان أو لا. انتهى. ويأتي نحوه في شرح صغرى الصغرى.

وفي الحاشية أيضا: قال الشيخ زروق: اختلف في تأثيمه بترك النظر مع القدرة عليه. وقال شيخنا أبو عبد الله السنوسي رحمه الله: هو كمال وإن لم يكن واجبا إجماعا، فلا ينبغي تركه لغير عذر. انتهـى. يعني أنه لا خلاف في أن الخروج من التقليد مطلوب وإن لم يكن واجبا، قال: لكن في الإجماع نظر لعزو الأقليشي لأكثر الشيوخ أنه مؤمن كامل إذا اجتنب المعاصي وأتى الطاعات. انتهـى.

وقال ابن الحاجب في أصلَيْه: لا تقليد في العقليات كوجود الباري جل اسمه. وقال العنبري بجوازه، وقيل النظر فيه حرام. انتهـى. وقد اختار القول بأن النظر شرط كمال في شرح المقدمات، واختاره أيضا كما في شرح الصغرى الشيخ ابن أبي جمرة والقشيري والغزالي وابن رشد وجماعة. وقال ابن حجر: حكى بعضهم الإجماع على الاكتفاء بالتقليد وعدم وجوب النظر، قال: وليس سبب إيجاب النظر إلا جعل الأصل عدم الإيمان، فيلزم إيجاب النظر المؤدي للمعرفة، وجعل الأصل عدم الإيمان معترض بقوله تعالى: ﴿فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها﴾، وحديث: (كل مولود يولد على الفطرة)[3]؛ فإن ظاهر الآية والحديث أن المعرفة حاصلة بأصل الفطرة، وأن الخروج عن ذلك يطرأ على الشخص لقوله عليه السلام: (يهودانه أو ينصرانه)[4]، ومن استقرت نفسه إلى تصديق الرسول ولم تنازعه إلى طلب الدليل توفيقا من الله وتيسيرا فهم الذين قال الله في حقهم: ﴿ولكن الله حبب إليكم الإيمان﴾[5] الآية، وليس هؤلاء مقلدين لآبائهم ولرؤسائهم؛ لأنهم كانوا لو كفر آباؤهم ورؤساؤهم لم يتبعوهم، بل يجدون النفرة من كل من سمعوا منه ما يخالف الشريعة، والآيات والأحاديث الموجبة للنظر إنما وردت في حق الكفار الذين اتبعوا من نُهوا عن اتباعه وتَركوا اتباع من أمروا باتباعه، وإنما كلَّفهم الله الإتيان بالبرهان على دعواهم بخلاف المؤمنين، فلم يَرِد قط أنه أسقط اتباعهم حتى يأتوا بالبرهان، فكل من خالف الله ورسوله فلا برهان له أصلا، وإنما كلف الإتيان بالبرهان تبكيتا وتعجيزا، ولا يحتاج إلى إقامة الحجة إلا من ليس بمؤمن، فاختلط الأمر على من اشترط ذلك والله المستعان، انتهى ملخصا.

الهوامش:


[1]– أي أبو إسحاق الاسفراييني.

[2] – سورة محمد، الآية: 19.

[3]– جزء من حديث رواه البخاري في صحيح، كتاب الجنائز، باب ما قيل في أولاد المشركين. وجزء من حديث رواه أبو داود في سننه، كتاب السنة، باب في ذراري المشركين، رقم: 4714.

[4]– جزء من الحديث الذي سبق تخريجه.

[5]– سورة الحجرات، الآية: 7.

الدكتور عبد الله معصر

• رئيس مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوك بالرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق