مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكتراث

تقريب نظم ابن عاشر شذرات من شرح العلامة الشيخ أبي عبد الله محمد بن قاسم جسوس على توحيد ابن عاشر(3)

ووجدت بخط شيخنا العلامة سيدي محمد بن عبد الرحمان بن زكري رحمه الله تعالى ونفعنا ببركاته فيما قيده على شرح الكبرى ما نصه: أول الواجبات باعتبار المقاصدِ المعرفةُ، وباعتبار الوسائلِ النظرُ، ومُتعلَّقُ النظر أي المنظور فيه عنده هو البراهين الُمكتسَبة من النظر، وهذا وجهُ غلطِ جمهور المتكلمين الذين تبعهم المصنف وجرى مجراهم، فإنهم قالوا تجب معرفة الله بالأدلة العقلية التي يُنتجها النظر الصحيح، فيجب النظر في الأدلة العقلية، ولا تكفي عندهم الأدلة السمعية في العقائد، والمستنِد في عقائده إليها مقلد، ومذهب أئمة القلوب المحققين كابن أبي جمرة والقشيري والغزالي وابن عباد وابن عطاء الله ومن أهل الظاهر ابن رشد وابن حجر والقرطبي أن النظر الواجب الذي يُخرجُ من التقليد هو النظر في المعجزة التي تَثبُت بها الرسالة؛ إذ التقليد هو الأخذ بقول غير المعصوم بغير حجة، أما الأخذ بقول المعصوم فهو أقوى الحجج، وأما النظر في الأدلة العقلية فمندوب إليه؛ لأنه يزيد العقائد رسوخا ووضوحا وليس شرطا في صحة الإيمان، نعم يجب في حق من لم تَسكُن نفسه إلى التصديق بالنظر في المعجزات، وإنها أوجبه الله في القرآن على المكذبين بالآيات كقوله: ﴿ إن الذين حقت عليهم كلمات ربك لا يومنون﴾، إلى قوله: ﴿قل انظروا ماذا في السماوات والأرض﴾ [1] الآية، وكقوله: ﴿والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم﴾، إلى قوله: ﴿ أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض﴾[2]، وهو كثير، انتهى. وقد أورد على هذا الذي اعتمده هنا سؤالا وأجاب عنه، ويأتي نص ذلك.

فالقول بوجوب النظر وأنه أول واجبٍ فيه ما ترى، بل قال في النصيحة الكافية: “قال الباجي عن شيخه السمناني: إن القول بأن النظر أول الواجبات مسألة من الاعتزال بقيت في المذهب على من اعتقدها، نقله ابن أبي جمرة”. قال شيخنا في شرحها: أبو جعفر السمناني من رؤوس الأشاعرة، وتمام مقالته كما في ابن حجر: وتفرع عليها أن الواجب على كل أحد معرفةُ الله بالأدلة الدالة عليه، وأنه لا يكفي التقليد في ذلك. انتهى.

وقد سبق أنه لا سبب لإيجاب النظر إلا جعل الأصل عدم الإيمان، وتقدم ما فيه، ثم قال: والمقصود من سَوْق هذه المقالة بيان ضعف القول بأنه لابد من المعرفة التي تنتجها الأدلة العقلية، وأنه لا يكتفى إلا بذلك، فضعَّفَته هذه المقالة بأنه متفرع على القول بأن النظر أول الواجبات، والقول بذلك مسألةٌ بقيت في المذهب من أصول المعتزلة، وليس المراد أن اعتقاد ذلك اعتزال؛ فإن ذلك وإن كان من أصول المعتزلة لكنه من المسائل التي لا تقدح في الاعتقاد. انتهى. وسيأتي ما قيل في إيمان المقلد.

وقد تعرض في شرح الكبرى لرد القول بتحريم النظر، والقول بأن طريق المعرفة الكتاب والسنة، ويحرم ما سواهما، والقول بأن طريق المعرفة الرياضةُ والمجاهدة وتصفية الباطن، والقول بأن الطريق الإلهامُ، والقول بأن لا مقلد مطلقا، ولبيان معنى القاضي أبي بكر بن الطيب: لا يوجد مومن إلا هو عارف بالله، إلا أن منهم من له قدرة على التعبير، ومنهم من لا، ولبيان معنى ما نقل عن طائفة من أهل العلم أن الله تعالى معروف بضرورة العقل، وأنه [غرز] معرفة وجوده في خلقه، فانظر ذلك كله فيه.

ثم اعلم أنه لا يشترط في حصول المعرفة على القول بوجوبها أن تكون على طريقة المتكلمين، قاله ابن رشد في أجوبته، وكذا غيره، قال: ولا يعتقد هذا إلا جاهل. قال الشيخ زروق في شرح القرطبية: يعني أن ذلك أمر حادث لم يكن في الصدر الأول، بل يكتفى بدليل وجود المخلوقات وحدوثها بعد أن لم تكن على وجود خالقها، ويستدل على صحة قول مدعي الرسالة بوجود الخارق على يده موافقا لدعواه، مع عجز المتحدى لهم عن المعارضة، وقد نبه الله تعالى عن هذا المعنى بقوله: ﴿يا أيها الناس اعبدوا ربكم﴾، إلى قوله: ﴿ولن  تفعلوا﴾، فدلالة أول الآية على ينابيع التوحيد والمعرفة، ودلالة آخرها أعني قوله: ﴿وإن كنتم في ريب﴾[3] الآية على تحقيق صدق الرسول فافهم.

وفي عهود الإمام الشعراني: كان سيدي علي الخواص يقول: قد أعرض أهل هذا الزمان عن اتباع سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكثر الأعمال والأقوال، واشتغلوا بعلم المقال والخوض في علم الكلام، وقد ذم جمهور الأئمة علم الكلام، فإن بعضه ينقض بعضا، وكل طائفة تدعي أن الحجج القطعية العقلية معها دون جميع المخالفين هنا، وكان الإمام مالك رحمه الله يقول: ليت شعري بأي عقل يوزن الكتاب والسنة، ولو كنا كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تبعناه لتركنا ما جاءنا به جبريل إلى النبي [68] صلى الله عليه وسلم. وقد ألف بعض السلف كتابا ست مجلدات بين فيه أن العقل الصحيح لا يخالف النقل الصريح أبدا، وأنه إن فُرض دليلان قطعيان فهو من فرض المحال، وربما يقول بعضهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات ولم يبين حقائق التوحيد، وذلك كذب وافتراء، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما تركت شيئا يقربكم إلى الجنة إلا وقد حدثتكم به، ولا شيئا يباعدكم من النار إلا وقد حدثكم به)[4].

وقال الإمام أبو ذر رضي الله عنه: لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر في الجو يقلب جناحيه إلا ذكر لنا منه علما. وكان الإمام الشافعي رضي الله عنه يقول: الصحابة فوقنا في كل شيء. وكان ابن سرين رحمه الله يقول: لو أردنا فقر الصحابة لما أطاقته عقولنا، وكيف يصح قول من قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من الدنيا ولم يُبين لأصحابه حقائق التوحيد الذي عليه أساس الدين، مع أنه بين لهم الخرا وكيفية الاستنجاء، هذا كالمحال. انتهى محل الحاجة منه.

وقد علمتَ مما تقدم كله أن في حكم النظر اضطرابا كثيرا هل هو واجب، شرط أو غير شرط، أو شرط كمال، أو ليس بمطلوب أصلا بل هو جائز، أو حرام، ويأتي أنهم اختلفوا هل الدليل التفصيلي مندوب فقط أو واجب، وعليه فهل على الأعيان أو على الكفاية. ولم يحتج الناظم أن يقول: أول واجب شرعا كمال. قال في الصغرى: ويجب على كل مكلف شرعا؛ لعدم اختصاص القيد بهذا الواجب، بل الأحكام كلها إنما تثبت عند أهل السنة بالشرع، وحكَّمت المعتزلة فيها العقل، وسيأتي إن شاء الله الرد عليهم في محله. قاله في شرح الكبرى، ويعني في فصل التحسين والتقبيح، ثم ذكر ما لهم من البحث هنا وجوابه.

الهوامش:


[1]– يقصد قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَ۬لذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَٰتُ رَبِّكَ لَا يُومِنُونَ (96) وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ ءَايَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ اُ۬لْعَذَابَ اَ۬لَالِيمَۖ (97) فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَٰنُهَآ إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ ءَامَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ اَ۬لْخِزْيِ فِے اِ۬لْحَيَوٰةِ اِ۬لدُّنْي۪ا وَمَتَّعْنَٰهُمُۥٓ إِلَى حِينٖۖ (98) وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَأٓمَنَ مَن فِے اِ۬لَارْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاًۖ اَفَأَنتَ تُكْرِهُ اُ۬لنَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُومِنِينَۖ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ اَن تُومِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اِ۬للَّهِۖ وَيَجْعَلُ اُ۬لرِّجْسَ عَلَي اَ۬لذِينَ لَا يَعْقِلُونَۖ (100) قُلُ اُ۟نظُرُواْ مَاذَا فِے اِ۬لسَّمَٰوَٰتِ وَالَارْضِ وَمَا تُغْنِے اِ۬لَايَٰتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٖ لَّا يُومِنُونَۖ﴾. سورة يونس، من الآية: 96 إلى الآية: 101.

[2]– يقصد قوله تعالى: ﴿وَالذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِے لَهُمُۥٓۖ إِنَّ كَيْدِے مَتِينٌۖ (183) اَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْۖ مَا بِصَٰحِبِهِم مِّن جِنَّةٍۖ اِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٞ مُّبِينٌۖ (184) اَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِے مَلَكُوتِ اِ۬لسَّمَٰوَٰتِ وَالَارْضِ وَمَا خَلَقَ اَ۬للَّهُ مِن شَےْءٖ وَأَنْ عَس۪يٰٓ أَنْ يَّكُونَ قَدِ اِ۪قْتَرَبَ أَجَلُهُمْۖ فَبِأَيِّ حَدِيثِۢ بَعْدَهُۥ يُومِنُونَۖ (185) ﴾. سورة الأعراف، من الآية: 182 إلى الآية: 185.

[3]– سورة البقرة، الآية: 23.

[4]– جزء من حديث رواه ابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب الزهد، باب ما ذكر عن نبينا صلى الله عليه وسلم في الزهد، رقم: 34332. وجزء من حديث رواه الحاكم في المستدرك، كتاب البيوع، رقم: 2136. بلفظ: (ليس من عمل يقرب إلى الجنة إلا قد أمرتكم به، ولا عمل يقرب إلى النار إلا قد نهيتكم عنه، لا يستبطئن أحد منكم رزقه، إن جبريل عليه السلام ألقى في روعي أن أحدا منكم لن يخرج من الدنيا حتى يستكمل رزقه، فاتقوا الله أيها الناس، وأجملوا في الطلب، فإن استبطأ أحد منكم رزقه، فلا يطلبه بمعصية الله، فإن الله لا يُنال فضله بمعصية).

الدكتور عبد الله معصر

• رئيس مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوك بالرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق