وحدة الإحياءقراءة في كتاب

المسلمون والسياق الكوني المعاصر.. انطلاقا من كتاب: “مطارحات حول المجتمعات الإسلامية في سياق العولمة” للدكتور أحمد عبادي

تمثل العولمة أحد أشكال التعارف الثقافي والتدافع الحضاري، غير أنها قد تؤثر في تهديد الأسس الإنسانية للمنظومة القيمية عبر التاريخ، سواء طال ذلك الأثر المستوى الفردي أو الأسري أو المجتمع أو العالم ككل، ولعل أهم المداخل الكبرى لمقاربة ظاهرة العولمة في هذا التوصيف أربعة:

المدخل الأول: جانب العلم: ويتشخص ذلك في ما أسداه البحث العلمي اللامحدود من خدمات للإنسان في اتجاه الاستخلاف والشهود بقطع النظر عن أبعادهما الثقافية، قد يتجاوز ذلك إلى المساس بالجوانب الروحية وما يتعلق بها من قيم إنسانية نبيلة خصوصية أو عالمية.

المدخل الثاني: جانب المال ومن أدق تجلياته ما أضحى يعرف بالخوصصة أو الخصخصة، وهي من أشد الخصوم المفترضين لمنظومة القيم، لكونها لم تعد مبدأ تهديد للمخيال الجمعي للخدمات المادية المشتركة، بل أصبحت مخاطرها تطول الأبعاد القيمية في الإنسان بما في ذلك الجوانب الروحية. حتى أصبحت مجموعة من قيمنا الإنسانية تنقض عروة عروة بتأثير من التشييء المادي لمضامينها.

المدخل الثالث: جانب الإعلام، وهو من المداخل الأكثر خطورة، لما يحمله من رموز متعينة وسميائيات فكرية عابرة للثقافات وخارقة للحضارات، إن على المستوى القيم النفسية أو الأسرية أو الاجتماعية أو حتى العالمية.

المدخل الرابع: جانب القوة: حيث إن دلالات السلطة المتضمنة في أوجه العولمة بصياغتها القسرية “الفوعلة” بما تحمله من فهومات الإكراه في التغيير، من تحويل ثقافي وتغيير حضاري ستطول لا محالة المفردات القيمية لدى الإنسان، وأولها مفهوم الحرية أو الإكراه في المعتقد، أو في الفكر، وهذا مؤشر على أن الدفع في هذا الاتجاه يمنح الأولوية للمظاهر على الجواهر.

وإن مما تتميز به العولمة في هذا التدافع الحضاري المعاصر هو انطواؤها على خلفية اختراقات ناعمة للقيم الإنسانية ويبدو ذلك في أمرين:

الأول؛ أن العولمة المعاصرة بمظاهرها وتجلياتها تتسلل إلى المناطق الحساسة في القيم الروحية، إلى أن يستأنس الإنسان مع أشكال تطبيعية إلى درجة العادة والأمر الواقع.

الثاني؛ أن مبلغ التطبيع والتعاقد النفسي مع الأشكال العولمية التي تمس الجوانب القيمية في الإنسان، يصعب معها التخلص من تلك الأشكال وإعادة الاعتبار لتلك القيم بعد ذلك التطبيع. مما يتطلب جهدا ضافيا ومدروسا في تغيير الوضع القائم.

في خضم هذا التوجس الفكري والثقافي من الهيمنة المختلفة المشارب، كان من الطبيعي أن لا تتردد عدد من الأقلام الأكاديمية المقتدرة في السياق الإسلامي من محاولةٍ لتحرير هذا الإشكال برؤية مختلفة عما هو سائد ومتداول. ومن أبرز ذلك كتاب: “مطارحات حول المجتمعات الإسلامية في سياق العولمة ” الصادر قبل ثلاث سنوات، للمفكر الألمعي الدكتور أحمد عبادي، الأمين العام للرابطة المحمدية لعلماء المغرب، وهو من منشورات كلية أصول الدين بتطوان، التي ألقى فيها الكاتِب محاضرة واعية لمضامينه الأصلية.

في فكرة الكتاب المركزية

يأتلف هذا الكتاب الماتع في ناظم معرفي، يرصد فيه الكاتب سؤال العولمة المعاصرة بلغة نافذة بصيرة، وفكر نبيه، وقد وزع موضوعات عِقده بين سبعة مباحث، ستتولى هذه الورقة عرض أهم أفكارها.

ويفصح المؤلف منذ مستهل الكتاب عن مسوغ عملي أصيل في مطارحاته الفكرية، ويتمثل في فقه الواقع باعتباره شرطا مسلتزما للنهوض بالفكرة الإسلامية، بل إن ذلك المسوغ يتبعه آخر لا يقل قيمة اعتبارية، لتكون “هذه المطارحة لها مبرر مركزي وآخر بالتبع، أما المبرر المركزي فهو: أن تحقيق المناط يستلزم المعرفة بقرائن الأحوال ومستأنفاتها، وبتضاريس الواقع الذي يوجد فيه هذا المناط، وإذا لم يكن عندنا علم بالواقع، فإن إناطة الأحكام بمتعلقاتها وبمناطاتها يصبح أمرا في غاية العسر”([1]) وكل ذلك التحقيق الفكري والتشخيصي في عالم اليوم، لأنه مفارق كل المفارقة لما سبقه من عوالم موغلة في التاريخ، مما يتطلب استبصارا جديدا، وبأدوات حديثة تتناسب مع قضاياه وأسيقته، بل “إن عالم اليوم ليس هو العالم الذي كان يعرفه أسلافنا، ولا أجدادنا، ولا آباؤنا، ولا حتى نحن بالأمس القريب”([2]).

فمبحث العولمة والواقع، يستهله الدكتور أحمد باستشكال تعريف العولمة متسائلا “هل العولمة يمكن أن يحيط بها تعريف كلامي، أو حد جامع مانع؟ كما يقال، أم أن القضية تتجاوز ذلك؟”([3]) وهو سؤال بقدر صعوبة تحريره، يتعذر معه خوصصته بحضارة متعينة، لأن الحاصل في الأخير “أن العولمة ضرب من الميل الحضاري، فحين تصبح لحضارة معينة إمكانات تَفُوق إمكانات حضارة أخرى، يصبح عندنا نوع من التدفق الحضاري المؤثر، من الحضارة المهيمنة نحو الحضارة المُهَيمَن عليها”([4]).

 إنما قد تتباين صور العولمة على تعددها زمنيا وحضاريا، بحسب ثابتها الحضاري المميز لها، لأن الحضارة الإسلامية مثلا، عرفت صورة هي الأخرى من العولمة، إنما ” كانت عولمةً قيمية بالأساس، وكانت عولمة فيها من النبل ومن الجاذبية، بحيث إنه لم يفتأ أئمة هذه الأمة يُذَكّرون بأن المسلمين بُعثوا دعاة، ولم يُبعثوا جباة”([5]).

وعولمة الأمة هذه، متفردة بقبلتها ووجهتها، “فقد سمي «أمة»؛ أي أن لها قبلة؛ وهي تتيمم شطرها، وتؤمّه انطلاقا من وجهات متعددة ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ (البقرة: 147)، فالأمة مشتقة من هذا الاعتبار؛ أي تيمم شطر قبلة معينة، والإمامة هي هذا الأَمُّ للجموع الحضارية أفرادا أو جماعات، نحو هذه القبلة الموحدة.”([6]) وعلى الرغم من ذلك، يبقى في نهاية التحقيق “أن القاسم المشترك بين جميع العولمات هو حضور مركزية معينة، وشخوص قطب جاذب متعارف عليه بين المنضوين تحتها. واستشعار الرسالة؛ أي وجود مركزية معينة”([7]).

وأما مبحث العولمة ومراتب الوجود، فيرى الدكتور أحمد أن العولمة باعتبارها ميلا حضاريا، فهي منظومة من “شبكة التمثلات المعتمدة لديها (التصورات، والقيم، والتشريعات، والسلوكات)”([8]) لأنه منها تستمد قوتها، وهذا ما “يشكل نقطة جذب للمنتظمات التي تنخرط في هذا التصور والتمثل للعالم، وهو عندنا يسمى العقيدة/الاعتقاد الذي يكتنز خارطة الوجود، ويزخر بقدرة تفسيرية هائلة للحياة والأحياء”([9]). إضافة إلى نقطة القوة والجذب هذه يتوثق معها عامل آخر مؤثر، وهو “الذي يمنح لحضارة تأهلها لأن تصبح رأس حربة عولمة، فهو متانة وسلامة سلسلة الإدراك”([10]).

لذلك، فإن الحالة العولمية المؤثرة وفقا للعاملين السابقين، يقتضي الاستناد إلى مراتب وجودية، قائمة بالمطلوب علما وعملا، وإن تحدث علماؤنا عن مراتب الوجود باعتبارها أربعة مراتب([11])، مضيفا إليها الكاتب مرتبة خامسة، بحسب مستجدات اليوم، ما نعته بمرتبة الوجود الافتراضي.

أما الأولى: فهي مرتبة الوجود العيني المشخص؛ أي عين هذا الواقع الذي نعيش ونحيى فيه، فالواقع له سُنَن وقوانين لا يمكن بدون الوعي بها أن يُتعامل برشد وفاعلية معه، أو أن يتم تسخيره.

والثانية من مراتب الوجود: فمرتبة الوجود الذهني؛ حيث يتم فيها، النقل للمعلومات والمدركات، من الوجود العيني المشخص إلى الوجود الذهني، وهو نقل قد تقع فيه انكسارات معرفية.

والثالثة: مرتبة الوجود اللفظي؛ كيف أعبر؟ كيف أنقل هذا الذي نقلته إلى ذهني إلى الآخر؟ وقبل ذلك، كيف خزّنته؟

وأما الرابعة فهي مرتبة الوجود البَنَاني (الكتابي): وتعتبر الصورة النهائية لتشكل المراتب السابقة

والخامسة المحينة حضاريا ووجوديا، فهي مرتبة الوجود الافتراضي: وهي مرتبة لها قوتها الضاربة اليوم؛ فالذاكرات الافتراضية، هي الأكثر حضورا، غير أنها بدورها تحصل معها انكسارات معرفية لابد من رصدها والحرص على تصحيحها، ولابد أن نستثمر بجدية كبيرة، في مجال النظر، والتحليل، والرصد، وفي الكيفية التي تتوارث بها المعارف والمعلومات عبر مراتب الوجود المختلفة.

في حين ينظر المبحث الثالث في العولمة وعملية الانتقال من ضبط سلسلة الإدراك إلى بناء شبكة التمثلات، إذ صدره الدكتور بملحظ متبصر مفاده:” أن الذي يرصد مختلف العولمات التي شهدها هذا الكويكب الصغير، سوف يجد أن لها علاقة عضوية بكيفية الإدراك؛ لأن طبيعة الإدراك، ومنهج الإدراك يكون وراء التكييفات التي سوف تتجسد، بحسبها وتأسيسا عليها، أفعال الإنسان ([12]) وينبني على سلسلة الإدراك، باعتبارها قاعدة شبكة تمثلات مقومات خمسة كبرى:

أما المقوم الأول: فهو شبكة التصورات؛ ذلك أن “الحضارة التي تقود العولمة تكون عند تمثلاتها وتصوراتها، كما سبقت إليه الإشارة، قدرة تفسيرية للحياة وللأحياء، وإذا لم تكن في مقابلها قدرة تفسيرية مساوية، أو أقوى، فإن الاستلحاق إلى هذه القدرة التفسيرية الغالبة سوف يكون حتميا” ([13]).

وأما المقوم الثاني فهو البعد القيمي؛ ولعل”القرآن المجيد فيه خارطة قيمية في غاية الوضوح، حيث إنك ترى في القرآن المجيد سلالم قيمية، وترى كيف أن هذه القيم تتغير من حيث أولويتها بحسب مواضعها في القرآن المجيد، فهناك مواطن يكون فيها الإيثار قيمة عليا، وأخرى تكون فيها التضحية قيمة عليا، وفي أخرى العلم”([14]).

في حين يقوم الثالث على التشريعات؛ التي تعد مضمار معركة حامية الوطيس لاعتمال قضايا حارقة ومؤرقة لإنسان اليوم، “كقضية حقوق الإنسان، والتي يعد الغرض منها، بالشكل الذي تم التوافق عليه كونيا، هو الحرية والكرامة للإنسان، ولكن، لا شك أن هناك تأسيسا لهذا الميثاق العالمي لحقوق الإنسان على مرجعيات، ليست بالضرورة هي مرجعيتنا نحن. فالحل ليس أبدا في الانغماس الكلي، ولا في الرفض الكلي غير المشروط، وإنما هو في تثمير الهوامش المتاحة”([15]).

أما الرابع: فهو مقوم السلوك؛ لأن الأمة تمتلك رصيدا قويا و”ترسانة هائلة هادية في جوانب السلوك، وهي منظومة بديعة جاذبة؛ فالرسول، صلى الله عليه وسلم، عَلّمنا كل شيء، حتى الدخول إلى الخلاء، وحتى الخروج منه، حتى لبس الثوب الجديد، حتى ما نقوله عند نحر الأضحية، وحتى ما الذي أقوله حين أريد أن أحلق رأس المولود الجديد، وما الذي أقوله إذا أردت أن أقص أظافري، وهو ما يشكل خارطة من التفاصيل ليست موجودة بمثل هذا الضفاء في حضارة أخرى، وهي كلها بركة”([16]).

وأخيرا، يعتبر الكاتب ثنائي اللغة والتواصل ذي أهمية بالغة، “لأنه الحمّال للمشاعر والمعاني، والمعطيات والمعارف، ومتى ما انضبط، وانتسج بوضوح وبهاء، صارت له الجاذبية التي تستدمج أهل الحضارات الأخرى”([17]).

وقد خصص الكاتب مبحثا رابعا لما أسماه بالعولمة والتأرجح الحضاري، حيث يعتبر فيه أن حركة الأمم التي أثبتت قوتها عبر التاريخ حتى اليوم، بني عمرانها الحضاري على قطبين اثنين، وسمهما بإبداعية قرآنية، بقطب التكاثر وقطب الرهبنة، فالأول وهو غرق في العالم؛ ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ. حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ﴾ (التكاثر: 1-2)، وأما الثاني قطب الرهبنة فانطلاقا من قوله تعالى: ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ﴾ (الحديد: 26)، لكن وكما يقول الله عز وجل: ﴿فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا﴾ (الحديد: 27)، لذلك فإن الدافعية في الحضارة الغربية جاءت، إذن، من الانتقال من قطب الرهبنة إلى قطب التكاثر، والآن هم في قطب التكاثر ([18]).

وأما الحضارة القرآنية، وإن لم تكن استثناء من حيث المبدأ، “غير أن الذي يسجّل لها، هو أنها اتسمت باتزان بالغ، جعل التأرجح بالنسبة إليها يبقى ضمن حدود لا تتجاوز المائة سنة، وهو قول الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا”([19])، وما ذلك إلا لأن هذه الحضارة القرآنية حضارة الميزان ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾ (الرحمن: 5)”([20]).

إن البعد التكاثري في العقل الغربي، تناسلت عنه أسئلة تكاثرية، تقصد الهيمنة على الوجود ككل، مهما كانت حيثياته وأصوله، ولعل أبرزها؛ “أنا قادر على أن آخذ هذا الشيء، لِمَ لا آخذه إذن؟ أنا قادر على أن أسيطر على شمال إفريقيا،لِمَ لا أسيطر؟”([21]) تلك أسئلة مفاتيح لتطوير شبكة التكاثر لتحقيق المد الحضاري “من خلال تطوير الصنائع، واستحرار البحث العلمي، حيث ظهرت وظيفية الجامعات، مما أدى فاعلية ضاربة”([22]).

لكن المبحث الخامس؛ كان لازما على المؤلف أن يفتح فيه بحثا للنظر في أنواع العولمة، ليبرز أن الاقتصاد ما هو إلا رأس من رؤوس العولمة، بل هي الآكد في تاريخ أبعادها والهيمنة فيها، خصوصا إذا جعلت من الشركات الكبرى عنوانا لها، لذلك يعتبر أن “العولمة الاقتصادية أحد أهم أنواع العولمة، وقد حدثت العولمة الاقتصادية حين قررت مجموعة من المؤسسات الكبرى في دولة الولايات المتحدة الأمريكية أن تبسط سيطرتها، وذلك انطلاقا من السؤال الذي يقول “why not?” (لم لا؟)”([23]).

كما هو معهود في الفكر الرأسمالي، إن الحاجة لا تعرف إلا الممكن، والممكن يقتضي سرعة البحث حتى تحقيقه، مهما كانت العقبات والنتائج، وهي المعادلة التي تترجم في جملة أسئلة براغماتية بامتياز، لأن “سؤال “why not?” يسبقه سؤال آخر “What if?” كيف لو أخذت هذا الشيء أو ذاك؟ هل أستطيع أخذه؟ “why not?” لم لا أخذه؟ لأن صاحبه سيقاوم، وسيمنعني بمعنى من المعاني، أو بكيفية من الكيفيات، وسأحاول من جهتي أن أحتسب كل الإمكانات حتى أقرر هل آخذ أو لا آخذ. فقد تكون هناك قيم تمنعني، والتي حين تنعدم لا تبقى هناك فرامل أو كوابح لعمليات الاستحواذ فردية كانت أم جماعية”([24]).

 وهذا كله يعود بالأساس إلى شبكة من المفاهيم المؤكدة على العرض العولمي الاقتصادي، “بمعنى أن هنا مجموعة من البراديغمات، أو من المفاهيم، أو المركبات المفاهيمية الكامنة وراء هذا الحراك الذي نراه والذي ينبثق من أضرب الأجوبة عن أسئلة “why not?/What if?””([25])، وهو قرار يحيل على الهيمنة والسيطرة، على الأطراف المرجو استيعابها في الزمن المركزي، إذ “القرار الخطير والمحوري الذي اتخذته الحضارات التي أنتجت عولمة، هو قرار توجيه العالم “Control The World”، بل وأحيانا كثيرة: السيطرة على العالم “Master The World([26]).

لكن في مقابل هذه النزعة الهيمنية التي تنحو منحى الإلغاء الكلي والسالب، بغية التنميط الثقافي الشامل، يعتمل في الوجود الإنساني نموذج آخر، يمكن اعتباره بديلا عنه على الأقل نظريا واعتباريا، وهو الذي يتخذ من التفاهم والتآزر مطلبا، و”هو التعارف، وليس السيطرة. والتعلم المشترك، أي أن تصبح القيم والتجارب، والخبرات مشتركة، وهو قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (الحجرات: 13) وقد يتساءل البعض عن الصلة العضوية بين آية التعارف ومداليلها الحضارية والثقافية، بالهيمنة الاقتصادية أو بتعبير مختصر: “ما علاقة هذا بالعولمة الاقتصادية؟”([27]).

إن النظر في واجهة العولمة الاقتصادية المعاصرة، من خلال رصد طرقها، وبحث وسائلها وتقفي مسالكها، له من المنافع المنهجية ما لا يخفى على النبيه الحصيف، لكن “هل نحن حلّلنا قواعد اللعبة هذه؟ أم أننا وقّعنا دون غوص في المقاصد على اتفاقيات منظمات التجارة العالمية؟ وهل عندنا من التكوينات في مجتمعاتنا الإسلامية، ما يمكننا فحص هذه البنود والنظر إلى تفاصيلها؟ أم أننا مجرد مؤشّرين مستهلكين؟”([28]).

إن الإجابة عن هذه الأسئلة، ستمكننا، على الأقل، من فقه دواليب الامتداد والهيمنة في هذا الكون، ومداخله ومخارجه، لذلك، إذا عرفنا أن الكون تستقطبه عناصر مالية كبرى، يتعذر الاستقلال عنها، أو الانفراد بغيرها تميزا وانعزالا، “إننا بدأنا نرصد تشكّل ثلاثة مناطق كبرى، فيها سيطرة عملات محددة، وهذه المناطق هي:منطقة الدولار، ومنطقة اليورو، ومنطقة الين؛ منطقة الدولار هي المشكّلة من:أمريكا، وكندا، والمكسيك. ومنطقة اليورو الذي تم الاتفاق عليه سنة1999م هي الاتحاد الأوروبي، ثم منطقة الين: اليابان، والصين، ودول جنوب شرق آسيا”([29]).

إن هذا التوصيف الحالي للوضع الاقتصادي، كما تم ترسيمه تحت قهر العولمة، يدفعنا إلى البحث عن طرق عرض العالمية الإسلامية البديلة، المرصودة بالقيم والأخلاق، المفقتر إليها في هذا العالم.

وفي مبحث آخر، سماه الكاتب المجتمعات الإسلامية في ظل سياق العولمة، يجعل الدكتور عبادي العملية التعليمية، أولى حلقات الكبرى المترابطة في بناء العولمة القوية المنافسة، “لأن التعليم هو الذي تمر عبره الخبرات التصورية، والقيمية، ولكن أيضا الدربات الوظيفية، التي يراد بها تحقيق الاستمرارية لمفهوم القومية، والقوم هم الذين يقوم بعضهم بحوائج بعض”([30])؛ لأنه من دون تعليم قوي، ومنافس يتعذر الانتقال من الوجود العيني المشخص إلى الوجود الذهني، “وهل يتصور أن ندرك الوجود العيني المشخص، من الناحية الفيزيائية إذا لم تكن عندنا أضرب استقصاء ميدانية، ومختبرات مجهزة، لكي نتحاور فيها مع الكون من هذه الزاوية الفيزيائية، أو من الزاوية البيولوجية، أو من الزاوية الكيميائية، أو من الزاوية الجغرافية؟ هل عندنا مركز للأبحاث الجغرافية؟”([31]) ليختم المبحث بسؤال محوري مؤرق بقوله “وهنا يحق لنا طرح السؤال الآتي: هل تعليمنا يبني قدرات الناشئة على أن يتم الانتقال بكيفية أمينة سليمة دقيقة بين هذه المراتب، أم ليس كذلك؟”([32]).

أما المبحث الموالي، الذي عنونه بـ: “نحو نظر مستأنف إلى مسألة التماسك الاجتماعي” في العالم العربي في سياق العولمة، وهذه قضية افترضتها سلسلة الإدراك بشبكة تصوراتها، وكذا بالقبلة المجتمعية في سياق العولمة الراهنة، ويعود تأسيس النظر فيها هنا لاعتبارين رئيسيين([33]): أولهما؛ أن العولمة الراهنة قد خلخلت سلسلة الإدراك كما هو متعارف عليها في الأجيال السابقة بسبب أن طرائق إدراك “جيل الإنترنت” وثانيهما؛ أن الوقوف على حلقات سلسلة الإدراك، وعلى ما أصابها من خلخلة، يُيسّر رَصْدَ دروب الاستدراك الممكنة، والتي بها يمكن صوغ استراتيجيات لتقوية التماسك الاجتماعي في عالمنا العربي.كما “تفرض علينا في المنطقة أن يرتقي وعينا إلى مراقي أكثر تطورا، في استحضار تام لمقتضيات([34]) تسعة باتت من خصائص العالم المعاصر، وهي:

المقتضى الأول؛ ظاهرة “التبلور” و”التجوهر” لكوكبة من اللغات الحية التي أصبحت بمثابة ما يمكن تسميته بـ«المفاعل» اللغوي والتواصلي لعالم اليوم؛ وفيه تأكيد على البعد اللسني واللغوي التواصلي للغات فاعلة، ومؤثرة مع العوامل المختلفة تأثيرا وتأثرا وفي صلبها.

والمقتضى الثاني؛ المتمثل في الموجة التطويرية الرابعة التي هي “النانوتكنولوجيا” التي نقلت إدراكنا من الاقتصار على العالم متناهي الكبر، إلى العوالم متناهية الصغر، وما أحدثته الثورة الرقمية والإعلامية من إعادة تشكيل الفكر والوجود.

أما المقتضى الثالث؛ فيتمثل في الهم البيئي المشترك، الذي جعلنا، بدافع الاحتباس الحراري والكوارث الطبيعية الأخرى، وهو الذي بات مصدر تهديد حقيقي للوجود الآدمي على مركبة الكون.

أما المقتضى الرابع؛ فيتمثل فيما أفرزته تكنولوجيات الاتصال والإعلام الحديثة، التي انبثقت من صلبها جملة من الظواهر؛ كظاهرة “المواقع الاجتماعية” والتي نحتت نحوتا ناتئة في الجوانب الهوياتية، بسبب الإيقاع السريع والفاعلية الكبيرة اللذين فرضا على عالمنا.

أما المقتضى السادس؛ فيتصل بالمنظومة الحقوقية وبالحريات مما أصبح له سريان في الدساتير والقوانين الدولية العامة والخاصة، وأصبح يمثل توجها متوافقا عليه بين البشر، مما وجب استحضاره، واستدماجه في كافة أبعاد الكسب الحضاري بمختلف تجلياته.

أما المقتضى السابع؛ فيتجسد في المنظومة القيمية الكونية “Global Ethics”، وهي ظاهرة تواشج القيم مع بعضها البعض، في أفق تشكيل منظومة قيمية مشتركة، مما سوف يكون له، بدون شك أثره البالغ على أضرب التماسك الاجتماعي على الصعيد العالمي.

 في حين يتمثل المقتضى الثامن؛ في المحاولات الحثيثة الرامية إلى إيجاد نظام اقتصادي، وثقافي وسياسي شامل، وهو نظام من شأنه أن يكون كُلِّيا، حيث سيكون من الصعب جدا، إسهام أهل حضارة معينة فيه برؤية كلية مستبطنة من مرجعيتهم، دون أن يأخذوا بعين الاعتبار هذه المقتضيات.

وأخيرا المقتضى التاسع؛ وهو ظاهرة انصهار الأنساق المعرفية، والأطر المرجعية، والمركّبات المفاهيمية التي باتت تتبلور في شكل مجمعات مفاهيمية تشبه “أحياء المدينة”، وهي بمثابة قباب مفاهيمية والمرجعية الشاخصة في عالمنا الجديد، والتي بتأثيرها وتوجيهها يتم التعاطي بين مختلف الحضارات في عالمنا..وعلى وقعها انبثقت مرحلة “القبة المفاهيمية والمرجعية لـ”Christen Dom” و”Islam Dom” و”Budhist Dom”.

وفي ختم هذا العرض المختصر، يمكن القول: لم تعد الحاجة إلى منظومة قيمية إنسانية تسود عالمنا وعصرنا مطلبا فئويا؛ ذي خصوصية تاريخية أو جغرافية أو دينية حتى؛ بل أضحت بعدا كونيا إنسانيا تنبع من فطرة الإنسان الوجودية التواقة إلى العيش السليم والاستمرار القويم، كما أن واقعنا القيمي لا يفتأ يدق ناقوس الخطر لمحاولة الالتفاف على الواقع المادي الخطير؛ الذي استهوى الإنسانية المعاصرة دون الانتباه الأكيد إلى لجوانب الروحية المتأصلة في فطرة الإنسان.

ولقد استأنف الدكتور أحمد عبادي، النظر في هذه المسألة من خلال ربط علاقة التماسك الاجتماعي في عالمنا العربي بسلسلة الإدراك، وبشبكة التصورات، وبالقبلة المجتمعية في سياق العولمة الراهنة، في استحضار لمقتضيات منهجية أصبحت من خصائص العالم المعاصر. داعيا إلى ضرورة تحلي أي قوة اقتراحية بأكبر قدر من التكييف المنهاجي، المستدرج للوعي بمقتضيات الفهم والتنزيل، ولأكبر قدر ممكن من العلمية، والوظيفية، واعتبار مختلف المآلات، حتى تتبين وتتضح الرؤية في أفق قدح زند تفاعل مثمر، لترشيد التفاعل مع باقي المنظومات المفاهيمية والمرجعية.

الهوامش

[1]. أحمد عبادي، مطارحات حول المجتمعات الإسلامية في سياق العولمة، منشورات كلية أصول الدين وحوار الحضارات، مطبعة الخليج العربي، تطوان، المغرب، ط1، (1436ﻫ/2015م)، ص11.

[2]. المرجع نفسه، ص11.

[3]. المرجع نفسه، ص17.

[4]. المرجع نفسه، ص17.

[5]. المرجع نفسه، ص18.

[6]. المرجع نفسه، ص18-19.

[7]. المرجع نفسه، ص20.

[8]. المرجع نفسه، ص23.

[9]. المرجع نفسه، ص23.

[10]. المرجع نفسه، ص23.

[11]. انظر تفصيل هذه المراتب في: مطارحات حول المجتمعات الإسلامية في سياق العولمة، م، س، ص24.

[12]. انظر المرجع نفسه، ص28.

[13]. المرجع نفسه، ص31.

[14]. المرجع نفسه، ص33.

[15]. المرجع نفسه، ص35.

[16]. المرجع نفسه، ص35.

[17]. المرجع نفسه، ص38.

[18]. انظر المرجع نفسه، ص41.

[19]. أخرجه أبو داود في سننه، رقم 4291، والحاكم في المستدرك 568-567/4.

[20]. انظر مطارحات حول المجتمعات الإسلامية في سياق العولمة، م، س، ص42.

[21]. المرجع نفسه، ص50.

[22]. المرجع نفسه، ص50.

[23]. المرجع نفسه، ص53.

[24]. المرجع نفسه، ص53.

[25]. المرجع نفسه، ص53.

[26]. المرجع نفسه، ص54.

[27]. المرجع نفسه، ص54.

[28]. المرجع نفسه، ص55.

[29]. المرجع نفسه، ص56.

[30]. المرجع نفسه، ص61.

[31]. المرجع نفسه، ص61.

[32]. المرجع نفسه، ص63.

[33]. المرجع نفسه، ص67.

[34]. المرجع نفسه، من ص67 إلى 85..

الوسوم

د. الحسان شهيد

أستاذ التعليم العالي، كلية أصول الدين وحوار الحضارات، تطوان-المغرب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق