مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

وجوه إعجاز القرآن الكريم من خلال كتاب «إعراب القرآن الكريم وبيانه» لمحيي الدين الدرويش (الحلقة الأولى): تغاير الفاصلتين في الآيتين 11 و12 من سورة البقرة

تمهيد:

لا يحيط بوجوه الإعجاز في القرآن إلا الله سبحانه وتعالى الذي أنزله على رسوله -صلى الله عليه وسلم-، والذي قال في محكم كتابه (أفلا يتدبرون القرآن)، وقد قيض الله تعالى لهذه الأمة علماء أجلاء تدبروا آياته، واستخرجوا لطائف أدبه، وتبصروا نواحي إعجازه، وصدق من قال: لم أر غرضا تناضلت له سهام الأفهام، ولا غاية تسابقت إليها جياد الهمم فرجعت دونها حسرى، واقتنعت بما بلغته من صبابة نزرا، مثل الخوض في وجوه إعجاز القرآن.

ولعل أهم وجوه الإعجاز التي وقفوا عليها: الإعجاز اللغوي، والإعجاز البلاغي، والإعجاز العلمي، والإعجاز بالإخبار بالمغيبات، وتفصيل ذلك في كتب التفسير وكتب إعجاز القرآن.

وهذا بحث في وجوه إعجاز القرآن الكريم من خلال كتاب «إعراب القرآن الكريم وبيانه» لمحيي الدين الدرويش (1403هـ/ 1982م)، وهو كتاب كما قال مؤلفه جمع البيان فأوعى، ورسم لشداة الآداب السبيل الأقوم والأسنى، ولست أدل به؛ لأنه عن أئمة البيان مقتبس، وفيه لمن رام البيان نعم الملتمس.

وسنقف في هذه الحلقة على نكتة بيانية تدخل في الوجه البلاغي للإعجاز، وفيه نقف على بديع نظمه، وعجيب تأليفه، المتناهي في البلاغة إلى الحد الذي يعلم عجز الخلق عنه(1).

وهي التي تضمنها قوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (10) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ (11) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَٰكِن لَّا يَعْلَمُونَ (12)) [سورة البقرة: 10- 11- 12].

إذ وقف المؤلف -رحمه الله- في هذه الآيات على دقيقة بيانية تدخل في فن التغاير، يقول: «فقد وردت في الفاصلة الأولى (لا يشعرون) ووردت في الفاصلة الثانية (لا يعلمون) لسر عجيب لا يدركه إلا الملهمون، وتفصيل ذلك: أن أمر الديانة والوقوف على أن المؤمنين هم على الحق، وأما المنافقون فهم على الباطل، هو أمر يحتاج إلى بعد نظر واستدلال حتى يكتسب الناظر العلم والمعرفة، وأما النفاق وما فيه من البغي المؤدي إلى اشتجار الفتنة، واستبحار الفساد في الأرض، فأمر دنيوي مبني على العادات، وهو معلوم عند الناس، بل هو بمثابة المحسوس عندهم، فلذلك قال فيه: (لا يَشْعُرُونَ)، وأيضا فإنه لما ذكر السفه في الآية الثانية، وهو جهل مطبق كان ذكر العلم أكثر ملاءمة فقال: (لا يَعْلَمُونَ)»(2).

وتفصيل كلام المؤلف في ما يلي:

فن التغاير عرفه المؤلف في غير هذا الموضع من كتابه بقوله: «وحدّه تغاير المذهبين، إما في المعنى الواحد بحيث يمدح إنسان شيئا أو يذمه، أو يذم ما مدحه غيره، وبالعكس، ويفضل شيئا على شيء، ثم يعود فيجعل المفضول فاضلا. ومن التغاير تغاير المعنى لمغايرة اللفظ»(3)، وقد وجدت هذا التعريف عند ابن أبي الإصبع المصري في كتابه: «البرهان في إعجاز القرآن أو بديع القرآن»(4)، ولعله أخذه من هناك.

– وقد وقف بعض المفسرين على السر العجيب في تغاير الفاصلتين في هاتين الآيتين ونكته البلاغية، منهم: الزمخشري في (الكشاف) وكلام المؤلف منقول عنه، والرازي في (مفاتيح الغيب)، وأبو حيان في (البحر المحيط)، وبن عجيبة في (البحر المديد)، والطاهر ابن عاشور في (التحرير والتنوير) وغيرهم.

– في كلام المؤلف مقابلة بين (لا يعلمون) وأمر الديانة من جهة، وبين (لا يشعرون) والأمر الدنيوي من جهة أخرى، فلما كان الأمر الديني ليس كالأمر الدنيوي، إذ هما أمران مختلفان اقتضت البلاغة أن تكون وسيلة إدراك الأمرين مختلفة أيضا، فكانت في الأمر الأول العلم، وكانت في الثاني الشعور.

– وقد ذُكِر في الفرق بين العلم والشعور، أن العِلم هو اعتقاد الشيء على ما هو به على سبيل الثقة(5)، أما الشعور فهو علم يُوصل إِلَيْهِ من وَجه دَقِيق كدقة الشّعْر وَلِهَذَا قيل للشاعر شَاعِر لفطنته لدقيق المعَانِي، وقيل إِن الشُّعُور هُوَ أَن يدْرك بالمشاعر وَهِي الحَواس(6)، وهو يطلق على العلم بالأشياء الخفية(7).

– وقد اختير في قوله تعالى: (أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ)، نفي الشعور دون نفي العلم، لأنهم لم يهتدوا إلى إفسادهم وذلك لخفائه وللغشاوة التي ألقيت على قلوبهم من أثر النفاق ومخالطة عظماء أهله، فإن حال القرين وسخافة المذهب تطمس على العقول النيرة وتخف بالأحلام الراجحة حتى ترى حسنا ما ليس بالحسن(8).

– وقد اختير في قوله تعالى: (أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَٰكِن لَّا يَعْلَمُونَ)، نفي العلم دون نفي الشعور، لأن اتصافهم بالسفه ليس مما شأنه الخفاء حتى يكون العلم به شعورا ويكون الجهل به نفي شعور، بل هو وصف ظاهر لا يخفى(9) ليس كالإفساد في الآية السابقة.

– لما كان العِلم هو اعتقاد الشيء على ما هو به على سبيل الثقة، كان مناسبا مقابلة عدم إيمانهم بنفي العلم عنهم، لأن الإيمان يقتضي الاعتقاد الجازم بالله، وهذا أمر ديني.

وهناك من يرى أن في الآية مقابلة بين العلم والجهل؛ إذ لما كان المُصَدَّر به في الآية هو الأمر بالإيمان، وذلك مما يحتاج إلى إمعان فكر واستدلال ونظر تام يفضي إلى الإيمان والتصديق، ولم يقع منهم المأمور به فناسب ذلك نفي العلم عنهم، والمثبت هنا هو السفه، ولأن السفه هو خفة العقل والجهل بالمأمور، والعلم نقيض الجهل، فقابله بقوله: لا يعلمون، لأن عدم العلم بالشيء جهل به(10).

– ولما كان الشعور هو الإدراك بالمشاعر وَهِي الحَواس، كان مناسبا مقابلة حصول الإفساد عند إرادة الإصلاح المؤدي إلى الفساد العام بنفي الشعور عنهم، لأن الشعور يقتضي الإدراك بالمشاعر وَهِي الحواس، وهم لفرط غفلتهم وتماديهم كالذي لا حس له، وهذا أمر دنيوي.

ولأن المثبت لهم هنا هو الإفساد، وهو مما يدرك بأدنى تأمل، لأنه من المحسوسات التي لا تحتاج إلى فكر كثير، فنفى عنهم ما يدرك بالمشاعر، وهي الحواس، مبالغة في تجهيلهم، وهو أن الشعور الذي قد يثبت للبهائم منفي عنهم(11).

وقد وقفنا من خلال هذا الكلام على مجموعة من التقابلات التي تظهر سر تغاير الفاصلتين نوضحها في الرسم التالي:

فانظر إلى عجيب نظمه، وحسن رصفه، وبديع تأليفه تعالى في هاتين الآيتين، وهذا سر عجيب لا يدركه إلا الملهمون.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1- انظر: إعجاز القرآن للباقلاني ص: 35.

2- إعراب القرآن الكريم وبيانه 1/49- 50.

3- إعراب القرآن الكريم وبيانه 1/270- 271.

4- البرهان في إعجاز القرآن أو بديع القرآن ص: 151- 152.

5- الفروق اللغوية ص: 81.

6- الفروق اللغوية ص: 81- 82.

7- التحرير والتنوير 1/278.

8- انظر: التحرير والتنوير 1/286.

9- انظر: التحرير والتنوير 1/288.

10- انظر: البحر المحيط 1/112.

11- انظر: البحر المحيط 1/112.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر والمراجع:

– إعجاز القرآن، للباقلاني، تحقيق السيد أحمد صقر، الطبعة السابعة: 2010م، منشورات دار المعارف.

– إعراب القرآن الكريم وبيانه، لمحيي الدين الدرويش، الطبعة الحادية عشرة: 1432هـ/ 2011م، منشورات اليمامة ودار ابن كثير.

– البحر المحيط، لأبي حيان الأندلسي، تحقيق صدقي محمد جميل، منشورات دار الفكر سنة: 1420هـ.

– البرهان في إعجاز القرآن للباقلاني أو بديع القرآن، لابن أبي الأصبع المصري، تحقيق أحمد مطلوب وخديجة الحديثي، الطبعة الأولى: 1430هـ/ 2010م، منشورات الدار العربية للموسوعات.

– التحرير والتنوير، للإمام محمد الطاهر ابن عاشور، منشورات دار سحنون للنشر والتوزيع، تونس.

– الفروق اللغوية، لأبي هلال العسكري، حققه وعلق عليه: محمد إبراهيم سليم، منشورات دار العلم والثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق