مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

أنموذجات من الوقفات المنتقدة على الإمام أبي عبد الله الهبطي وتوجيهها (12)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله القائل: (وَقُرْءَاناٗ فَرَقْنَٰهُ لِتَقْرَأَهُۥ عَلَي اَ۬لنَّاسِ عَلَيٰ مُكْثٖ وَنَزَّلْنَٰهُ تَنزِيلاٗ﴾، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي تلقى القرءان عن ربه ورتله ترتيلا، وعلى ءاله وصحبه الذين تحملوه وأدوه إلينا أداء جميلا.

وبعد:

فقد ذكرتُ في الحلقة الأولى من حلقات هذا الموضوع أن وقوف الشيخ أبي عبد الله الهبطي (930ه‍) -رحمه الله- كانت غرضا لنقد بعض العلماء، فبعضٌ أنصف، وبعضٌ أصْلَف.

وذكرت أن الاستقراء التام لوقوف الشيخ الهبطي يُظهر أنه كان تابعا في -الكثير الغالب- مذهب الإمام نافع المدني -رحمه الله- في أصول مذهبه في الوقف، ونافع كان ينظر إلى المعاني في وقوفه ويتطلبها، وذكرت بعض الأنموذجات الوقفية المنتقدة على الشيخ الهبطي رحمه الله مع بيان وجهها.

وهذه أنموذجات أخرى من الوقوف المنتقدة عليه، مع بيان وجهها وتأصيلها من مذهب الإمام نافع رحمه الله أو من غيره:

* قوله تعالى: (وَإِذَ اٰتَيْنَا مُوسَي اَ۬لْكِتَٰبَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).

وقف الهبطي على قوله تعالى: (وَإِذَ اٰتَيْنَا مُوسَي اَ۬لْكِتَٰبَۖ) واستأنف: (وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)(1).

وجْه هذا الوقف أن الفرقان هنا هو كتاب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ونُصب بفعل دل عليه السياق وقرينة الكلام، وهذا قول الفراء وقطرب.

قال ابن عطية رحمه الله: «وقال الفراء وقطرب: معنى هذه الآية: ءاتينا موسى الكتاب، ومحمدا الفرقان. قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا ضعيف»(2).

وقال ابن جزي رحمه الله: «وقيل: ءاتينا موسى التوراة، وءاتينا محمدا الفرقان، وهذا بعيد لما فيه من الحذف من غير دليل عليه»(3).

قال أبو جعفر  النحاس رحمه الله: «(وَإِذَ اٰتَيْنَا مُوسَي اَ۬لْكِتَٰبَ)، وقف كاف على أحد قولي الفراء، وهو قول قطرب؛ يذهبان إلى المعنى: وأعطينا محمد الفرقان.

قال أبو جعفر: وهذا القول لا يصح على قول أهل التأويل ولا في الظاهر ولا في العربية؛ لأن أهل التأويل يقولون: أوتي موسى التوراة؛ وهي (اَ۬لْكِتَٰبَ)، وهي الفرق بين الحلال والحرام، ومنهم من يقول: أوتي موسى الكتاب وانفراقَ البحر. والظاهرُ على خلاف ما قالا، قال الله عز وجل: (وَلَقَدَ اٰتَيْنَا مُوس۪يٰ وَهَٰرُونَ اَ۬لْفُرْقَانَ)، فلا يجوز في العربية: أعطيت زيدا دينارا ودرهما، وأنت تريد: وأعطيت عمروا درهما، فإن احتج بقول الشاعر:

يا ليت زوجك قد غدا  **  متقلدا سيفا ورمحا

قيل له: هذا البيت لا يشبه ذلك؛ لأنهما جميعا لشيء واحد، وأيضا فقد عرف أن معناه: وحامل رمحا، وقد ذكر الفراء قولا ءاخر، قال: العرب تَنْسِق الشيء على الشيء إذا اختلف اللفظان، وإن كان هو هو. وأنشد:

وقدمت الأديم لراهشيه  **  وألفى قولها كذبا ومينا

يذهب إلى أن المين هو الكذب.

قال أبو جعفر: وهذا البيت لا يشبه من الآية شيئا؛ لأن المين إن كان هو الكذب بعينه فلا يفيد إلا معنى الكذب، فإن (الْفُرْقَانَ) أفاد معنى غير معنى (اَ۬لْكِتَٰبَ)، قال مجاهد: أي وفرقانا بين الحق والباطل. وهذا قول حسن؛ حكى سيبويه: مررت بزيد أخيك وصديقك. والقطع التام (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)»(4).

قال الشيخ محمد بن عبد السلام الفاسي رحمه الله: «(اَ۬لْكِتَٰبَ) كاف؛ اختلف في تفسير فقيل: المفرق بين الحق والباطل، وهو صفة التوراة، وقيل: فرق البحر، وقيل: كتاب سيدنا محمد عليه السلام، واستضعف هذا التفسير ابن عطية، واستبعده ابن جزي، وقال الصفاقسي: فيه تكلف.

وحاصل ما استضعفوه به ما فيه من الحذف لغير دليل؛ لأنه نقل ابن عطية عن الفراء وقطرب أن المعنى: ءاتينا موسى الكتاب ومحمدا الفرقان. قال الصفاقسي: فيكون (الْفُرْقَانَ) معطوفا على المفعول الثاني لـ(اٰتَيْنَا)، وحَذَفَ المعطوف على المفعول الأول، وفيه تكلف. اهـ وهو وإن كان فيه ما ذكر لا يقصر عنه في وجه الضعف كون (الْفُرْقَانَ) صفة لـ(اَ۬لْكِتَٰبَ)؛ لأن الصفة لا تعطف على موصوفها، ولا يُرخِّص في ذلك مخالفة لفظها لموصوفها؛ لأن ذلك موضوع الصفة من حيث هي، وإذا كانا قد استويا في الضعف، فكأن الهبطي اختار أن المراد بـ(الْفُرْقَانَ) كتاب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ورأى أن ما فيه من الحذف أسهل من عطف الصفة على الموصوف، فوقف إيذانا بذلك، فيكون من الوقف الذي يتأكد لما فيه من بيان المعنى كما سبق، فهو نظير الوقف على قوله تعالى: (فَأَنزَلَ اَ۬للَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَيْهِ)، ثم يبتدئ بقوله: (وَأَيَّدَهُ)؛ ليتبين أن ضمير (عَلَيْهِ) ليس متحد المعاد مع ضمير (وَأَيَّدَهُ)؛ إذ الأول لأبي بكر رضي الله عنه، والثاني للنبي صلى الله عليه وسلم، فكذلك يوقف هنا على (اَ۬لْكِتَٰبَ) ليتبين انقطاعه عن (الْفُرْقَانَ)، وأنه ليس من أسبابه في شيء، والله تعالى أعلم»(5).

قال الشيخ عبد الله بن الصديق رحمه الله: «ومثلُه في الفصل بين المتعاطفين بلا ضرورة قول الله تعالى: (وَإِذَ اٰتَيْنَا مُوسَي اَ۬لْكِتَٰبَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)، وقف الهبطي على (اَ۬لْكِتَٰبَ)، ولا قائل به»(6).

وانظر إلى هذا النفي المطلق المستغرق لكل القائلين، وقد رأينا من قال به، وحسبك بهما!

والحمد لله رب العالمين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تقييد وقف القرآن الكريم: 199.

(2) المحرر الوجيز: 1/114.

(3) التسهيل:1/84.

(4) القطع والائتناف: 59-60.

(5) الأقراط والشنوف: (لوحة:35/ب).

(6) منحة الرؤوف المعطي: 12.

Science

 د. محمد صالح المتنوسي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق