مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

البيانُ في (نَاضِرَة) و(ناظِرَة) في الآيةِ(21/22) مِنْ سُـورَة(القِيامَة).

            و ذلكَ قولُهُ تعَالى في سُورَة (القِيَامَة):﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة٘(21) اِلَيٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾.حَيثُ تجِدُ هَذا التَّوَازي البَديع، القَائمَ علَى تَجانُسٍ للْأَصوَاتِ، في (نَاضِرَةٌ) وَ(نَاظِرَةٌ) يَكادُ يكُونُ تامّاً، وعَلى التَّوازي الصَّرْفيّ الـمُتمَثِّل في وَزْنِ (فَاعِلَةٌ).

         أمّا (ناضِرَة)، فمنَ (النُّضْرَة) وهيَ الإشْرَاقُ والرَّوْنَق والحُسْن.ومنهُ قيلَ للذَّهَب (نُضَار).وهيَ وُجُوه المؤْمنينَ الـمُنَعَّمَة الـمُبيَضَّة، الّتي ذَكرهَا في قولهِ تعَالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ (38)ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ﴾.وقولِهِ عَزَّ وجلَّ: ﴿تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ﴾.وقولِهِ جَلَّ وعَلَا: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ﴾.

        وأمَّا (نَاظِرَة)، فمنَ الفِعْل (نَظَرَ  يَنْظُرُ). والفعْل (نَظَرَ)يَتّسعُ لمعَانٍ يُخَصّصُها السِّياق. فقدْ يَأتِي بمَعْنى (أَبْصَر و رَأَى)،ومنْهُ قولُهُ تعالى: ﴿وَﭼَكِنُ ۶نظُرِ اِلَي &لْجَبَلِ﴾.كمَا يَأتي بمَعنَى (انْتَظَر)،ومنهُ قولُهُ تعَالى: ﴿۶نظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ﴾.أيْ(انْتَظرُونَا).وقدْ يَأتي بمَعْنَى (الفِكْرِ والتَّأمُّل)، ومنهُ قولُهُ تعالى: ﴿اَوَ لَمْ يَنظُرُواْ فِى مَلَكُوتِ éلسَّمَـٰوَاتِ وَالاَرْضِ﴾. لذلكَ كانَت هَذهِ الكَلمَةُ مَناطَ كَثيرٍ منَ البَحثِ والنَّظَر، واسْتَوقفَت هَذهِ الآيَة العُلمَاء فأطالُوا الوُقُوف، وتَشعّب بهمُ النَّظَر ؛ منْ بيْنِ مُثبتٍ للرُّؤيَة البَصريّة يومَ القيَامَة، ومِنْ منْكِرٍ لهَا خاصَّةً المعْتَزلَة. ولكُلٍّ عِلَلُهُ ودَلائِلُهُ.

       لكنْ هَهنَا مَزيَّة بَيَانيَّة يُمكنُ أنْ نَستأنِسَ بهَا. ذلكَ أنَّ الَّذي أشْكَل الأَمرَ  في قوْلهِ تعَالى:﴿اِلَيٰ رَبّهَا نَاظِرَةٌ﴾. هوَ تقْدِيمُ الجَارّ والمجْرُور(إِلَى رَبِّهَا).فإذا رَتَّبْنا تَركيبَها علَى الأصْلِ: (نَاظِرَةٌ إلَى رَبِّهَا)، لمْ تَحتَمِل إلَّا الرُّؤيَا البَصريَّة، وامْتَنَع التَّأويلُ. ذَلكَ لأنَّ الفعْلَ(نَظَرَ)إذَا تَقَيَّدَ بحَرف الجرّ (إلَى)،كانَ مَعنَاهُ نَظَرَ العَيْنِ. و عَلى هَذَا جاءَ في القُرآن:﴿۶نظُرِ اِلَي &لْجَبَلِ﴾، ﴿فَانظُرِ اِلَي طَعَامِك﴾،﴿وَانظُرِ اِلَيٰ حِمۭارِكَ﴾،﴿وَانظُرِ اِلَي &لْعِظَـٰمِ﴾،﴿وَتَرۭيٰـهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ﴾.

         فإذَا تَقيَّدَ بحرْفِ الجرّ (فِـي)،كَانَ نظَرَ الفِكْرِ والتَّدبُّر، كمَا في قولِهِ تعَالى:﴿فَنَظَرَ نَظْرَةً فِى éلنُّجُومِ﴾.وقولِهِ﴿أَوَ لَمْ يَنظُرُواْ فِى مَلَكُوتِ éلسَّمَـٰوَاتِ وَالاَرْضِ﴾. تمَاماً كَالفَرقِ بَينَ قوْلكَ:(نَظَرْتُ إلَى الكِتَابِ) وَ(نَظَرْتُ في الكِتَابِ). فإذَا أرَدتَ مَعنَى الانْتِظَار، سَقَط حرفُ الجَرّ. وتَعدَّى الفعلُ بِنَفسِهِ. تقُول مثلاً: (اُنْظُرُوا إلَيْنَا)،ثمَّ تقُولُ:(اُنْظُرُونَا)،فيَصيرُ المعْنَى:(اِنْتَظرُونَا). ومنهُ قولهُ تعَالى: ﴿۶نظُرُونَا  نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ﴾. أيْ (انْتَظرونَا).

        وهَهُنا مَسألَةٌ يَنْـبَغي تَبَـيُّنُها، وهيَ أنَّ الفِعْل المتَعدّي بوَاسطَةِ حرْفِ الجَرّ، إذَا تَأخَّر في التَّركِيب، وتَقدَّمهُ الجَارُّ والمجرُورُ، فإنَّ حَرفَ الجَرّ لا يَتغَيّـر. تجدُ ذلكَ مَثلاً في قوْلهِ تعَالى: ﴿بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ﴾ –﴿عَلَيٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ – ﴿إِلَيٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾. حيثُ لَزمَهَا نفْسُ الحَرفِ، إذِ الأصْلُ: (يُشركُونَ بِرَبّهِمْ-يَتَوكَّلُونَ عَلَى رَبِّهمْ- يُحْشَرُونَ إلَى رَبِّهِمْ).فَسواءٌ قدَّمتَ أوْ أخَّرْتَ ،فالحرْفُ لا يَتغَيَّـر.

      لكنْ إذَا كانَ الفِعْلُ مُتعدِّياً بنَفْسِهِ، وتَأخَّرَ  عن مَعمُولهِ، فلكَ أنْ تَأتيَ  بالمفْعُول مُقدَّماً، عَلَى الأصْلِ مثْلُ:(قرَأتُ الكِتَابَ)،تقُولُ:(اَلْكِتَابَ قَرَأتُ)، ويَجُوزُ لكَ أنْ تُدخلَ عَلى المفْعُول المقَدَّم، لاماً تُسَمّى (لامَ التَّقْوِيَة)،وهيَ الدَّاخلَة لتَقْويَة عَاملٍ لَحقَهُ ضُعْفٌ لتَأخُّرهِ. فتقُولُ: (لِلْكِتَابِ قَرأتُ).قالَ (الزَّمَخشَريّ) فـــي تَفْسيرهِ: « [لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ] ،دَخلَتِ اللّامُ لتَقَدُّم المفْعُول، لأنَّ تَأخُّر الفعْل عنْ مَفْعُولِهِ يُكسبُهُ ضُعفاً. ونَحْوُه:[لِلرُّءْيۭا تَعْبُرُونَ] وتَقُول: لَكَ ضَرَبْتُ». فالفعْلُ العَاملُ يَضعُفُ عمَلُهُ إذَا تَأخَّر عنْ مَعمُولِهِ.

           وممَّا جاءَ عَلى هَذا الوَجْهِ في القُرآنِ، قولُهُ تَعَالى:﴿لِّلذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ﴾،وقولُهُ تعَالَى: ﴿إِن كُنتُمْ لِلرُّءْيۭا تَعْبُرُونَ﴾. فَالفِعْلانِ: (يَرْهَبُونَ-تَعْبُرُونَ)، يَنصبَان المفعُولَ بهِ مُبَاشرةً، فالأصلُ في الآيَتيْنِ : (يَرْهَبُونَ رَبَّــهُمْ-تَعْبُرُونَ الرُّؤْيَا).فكلمَتَا(رَبَّــهُمْ) وَ(الرُّؤْيَا)، مَنصُوبتَان لأنَّهُما مَفعُولٌ بهِ. فلمَّا تقدَّمتَا في الآيَتيْنِ عَلى الفِعْل، جازَ أنْ تَدخُلَ عَليْـهمَا (لامُ التَّقْويَة).

          وليْسَتِ التَّقويَة تَكونُ إلَّا بِهَذا الحَرفِ، الّذي هُوَ (اللّامُ). لذَلكَ فقولهُ تعَالى:﴿اِلَيٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾. ليْسَ منْ هَذَا النَّوْع. لأنَّهُ لزمَهُ حَرفُ الجرّ(إلَى)،الَّذي كانَ مَعَ الفِعْل في التَّركِيب الأصْليّ. إذْ  يَكونُ أصْلُ الآيةِ : (نَاظِرَةٌ إلَى رَبِّهَا).فلَمْ يَتغَيّـر  حرْفُ الجرِّ، منَ الفِعْل(نَظَرَ إلَى)،والَّذِي أتَى هُنَا بمَعْنَى الرُّؤيَةِ البَصَريَّة، الَّتي يَتعدّى فيهَا الفِعْل(نَظَرَ) بوَاسطةِ حَرْف الجَرّ(إِلَـى). ولَوْ كانَتْ بمَعنَى (مُنْتَظِرَةٌ)،منْ(نظَرَ) المتَعَدِّي بنَفْسِهِ، لكانَ التَّقْديمُ يَقتَضي دُخُولَ لامِ التَّقْويَة؛ فيَقُول: (لِرَبِّهَا نَاظرَةٌ). كمَا قَالَ (لِرَبِّهِمْ يَرْهبُونَ) وَ(لِلرُّؤيَا تَعبُرُونَ).

        غيرَ أنَ الّذينَ نَفَوُا الرُّؤيَة البَصريَّة، قدَّمُوا دَلائلَ وَاهيَةً فيهَا كَثيرٌ منَ التَّكُّلف، ليُثبتُوا أنَّ (نَاظِرَة) تعْنِي(مُنْتَظِرَة).ومنْ عَجيبِ مَا جاءَ منْ ذَلكَ، مَا ذكرَهُ (الشَّريف المرْتَضَى)، وهُوَ  منْ عُلمَاء المعْتَزلَة في كتَابهِ (أمَالي الْـمُرتضَى، غُرَرُ الفَوَائِد ودُرَر القَلائِد) ؛حيثُ اعْتَبَـر(إِلَى) في الآيَةِ، اسْمًا بمَعنَى(نِعْمَة)، فهيَ مُفْردُ (آلَاء)،فيَكونُ المعنَى: (نِعْمَةَ رَبِّهَا نَاظرَةٌ) أيْ (مُنْتَظِرَة نِعْمَةَ رَبِّهَا). قالَ: «يُحْمَل قولُهُ تعَالى[اِلَيٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ] عَلَى أنَّهُ أرَادَ(نِعْمَةَ رَبِّهَا).لأنَّ الْآلَاءَ، النِّعَمُ. قالَ (أعْشَى بَكْرٍ):

أَبْيَضُ لَا يَـــــــرْهَـــبُ الْــهُـــزَالَ وَلَا *** يَـــقْـــطَـــعُ رِحْــــماً وَلَا يَـــخُــــونُ إِلَـــى

أرَادَ أنَّهُ لا يَخُونُ نِعْمَةً. فأرَادَ بِــــــ(إِلَــى رَبِّهَا)، (نِعْمَةَ رَبِّهَا)، وَأسقَطَ التَّنْوينَ لِلْإضَافَةِ».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق