مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

مفاهيم التماسك والانسجام من خلال كتاب «نظم الدرر في تناسب الآيات والسور» لبرهان الدين البقاعي دور الإحالة الإشارية في تحقيق التماسك النصي «نماذج مختارة من سورة البقرة» «الحلقة 5»

2- أسماء الإشارة التي تَحَققَ بها الترابُطُ بين آيتين في سورة البقرة:

– قال تعالى:« ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِين»[البقرة:2]

–  قال تعالى«وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُون»[البقرة:51]

– «وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون »[البقرة: 63]

– « فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون»[البقرة:73]

– «ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون »[البقرة:74]

– « أُولَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُون »[البقرة:86]

– « أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَـهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون» [البقرة:134]

– «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيم »[البقرة:143]

– «أُولَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّار»[البقرة:175]

– «ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيد »[البقرة:176]

– «أُولَـئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَاب»[البقرة:202]

– « ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُون [البقرة:254]

ففي قوله تعالى:« ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِين»[البقرة:2] أحيل باسم الإشارة الدال على المفرد المذكر البعيد «ذلك» إحالة نصية سابقة إلى الآية الأولى؛ أي قوله تعالى: «الم» [البقرة:1] وجاءت «ذلك»هنا بمعنى «هذا»؛ وكان معنى «الم» هذا كتاب من جنس حروفكم التي قد فقتم في التكلم بها سائر الخلق فما عجزتم عن الإتيان بسورة من مثله إلا لأنه كلام الله أنتج ذلك كماله، فأشير إيه بأداة البعد ولام الكمال في قوله:«ذَلِكَ الْكِتَابُ»لعلو مقدار بجلالة آثاره وبعد رتبته عن نيل المطرودين.[13] وفي هذا الصدد ذهب جار الله الزمخشري في تفسير الكشاف إلى أن المولى تبارك وتعالى أشار في هذه الآية بالبعيد إلى القريب لأنه «فإن قلت: لم صحت الإشارة بذلك إلى ما ليس ببعيد؟  قلت: وقعت الإشارة إلى «الم» بعد ما سبق التكلم به وتقضى، والمتقضى في حكم المتباعد، وهذا في كل كلام، يحدّث الرجل بحديث ثم يقول: وذلك ما لا شك فيه. ويحسب الحاسب ثم يقول: فذلك كذا وكذا. »[14]

أما اسم الإشارة الدال على المفرد المذكر البعيد«ذلك» في قوله تعالى:« ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ »[البقرة-52] فمحال به إحالة نصية سابقة إلى قوله تعالى«وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُون [البقرة:51]» «ثم عفونا » عطف على ما تقدم، «عنكم» الجار والمجرور متعلقان بعفونا«من بعد ذلك» الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال، والإشارة إلى المصدر المفهوم من اتخذ، أي: من بعد ذلك الاتخاذ، «لعلكم» لعل واسمها«تشكرون» الجملة الفعلية في محل رفع خبر لعل، وجملة الرجاء حالية،[15] قال الزمخشري في تفسير هذه الآية:« ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ حين تبتم مِنْ بَعْدِ ذلِكَ، من بعد ارتكابكم الأمر العظيم وهو اتخاذكم العجل لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، إرادة أن تشكروا  النعمة في العفو عنكم.»[16]

ويعود اسم الإشارة«ذلك» في قوله تعالى: «ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِين» [البقرة:64] على مذكور سابق في قوله تعالى: «وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون »[البقرة: 63] والمشار إليه حسب ما صرح به الزمخشري  بقوله:« وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ بالعمل على ما في التوراة وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ »حتى قبلتم وأعطيتم الميثاق. وذلك أن موسى عليه السلام جاءهم بالألواح فرأوا ما فيها من الآصار والتكاليف الشاقة، فكبرت عليهم وأبوا قبولها، فأمر جبريل فقلع الطور من أصله، ورفعه وضلله فوقهم وقال لهم موسى: إن قبلتم وإلا أُلقى عليكم، حتى قبلوا. خُذُوا على إرادة القول ما آتَيْناكُمْ من الكتاب بِقُوَّةٍ بحدّ وعزيمة وَاذْكُرُوا ما فِيهِ واحفظوا ما في الكتاب وادرسوه ولا تنسوه ولا تغفلوا عنه لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ رجاء منكم أن تكونوا متقين، أو قلنا خذوا واذكروا إرادة أن تتقوا. ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ، ثم أعرضتم عن الميثاق والوفاء به فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بتوفيقكم للتوبة لخسرتم. وقرئ: خذوا ما آتيتكم، وتذكروا، واذّكروا » [17]

وفي قوله تعالى ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون »[البقرة:74]» أشير باسم الإشارة«ذلك» إلى مذكور سابق في قوله تعالى:« فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون» [البقرة:73] وفي هذا الصدد أشار أبو إسحاق الزجاج في كتابه «معاني القرآن وإعرابه» هو إحياء القتيل؛ أي قست قلوبكم، ومعنى «من بعد ذلك» أي من بعد إِحياءِ الميت لكم بعضوٍ من أعضاءِ البقرة، وهذه آية عظيمة كان يجب على من يشاهدها – فشاهد بمشاهدتها من قدرة عزَّ وجلَّ ما يزيل كل شك – أن يلين قلبه ويخضع، ويحتمل أن يكون «من بعد ذلك» من بعد إِحياءِ الميت، والآيات التي تقدمت ذلك نحو مسخ القردة والخنازير ونحو رفع الجبل فوقهم، ونحو انْبِجاس الماءَ من حجر يَحْملونه معهم، وإِنما جاز ذلك وهُؤلاءِ الجماعة مخاطبون، ولم يقل ذلكم – ولو قال ذلكم كان جيداً -وإنما جاز أن تقول للجماعة بعد ذلك وبعد ذلكم؛ لأن الجماعة تؤَدي عن لفظها: الجميع والفريق، فالخطاب في لفظ واحد، ومعنى جماعة. [18] وأشار جار الله الزمخشري كذلك إلى «وذلِكَ» إشارة إلى إحياء القتيل، أو إلى جميع ما تقدّم من الآيات المعدودة فَهِيَ كَالْحِجارَةِ، فهي في قسوتها مثل الحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً منها، وأشد معطوف على الكاف، إما على معنى أو مثل أشد قسوة، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.[19]

وفي قوله تعالى: «أُولَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُون»[البقرة:86] إحالة نصية إلى مذكور سابق في قوله تعالى:« أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون »[البقرة:85]  والمشار إليه وفق ما ورد في تفسير البحر المحيط «هم» «الذين تقدم ذكرهم أنهم آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض، وفي اسم الإشارة دليل على أنه أشير به إلى الذين جمعوا الأوصاف السابقة الذميمة، وأنه إذا عددت أوصاف لموصوف أشير إلى ذلك الموصوف تنبيها على أنه هو جامع تلك الأوصاف، والذين خبر عن أولئك» [20]

وفي قوله تعالى: « تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُون [البقرة:141]» وفي هذه الآية أشير  باسم الإشارة الدال على المفرد المؤنث البعيد«تلك» إلى مذكور سابق في قوله تعالى:« أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَـهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون» [البقرة:133] «تلك»إشارة إلى إِبْرَاهِيمَ وَيَعْقُوبَ وَأَبْنَائِهِمَا.ومعنى خلت: ماتت وانقضت وصارت إلى الخلاء، وهو الأرض الذي لا أنيس به، والمخاطب هم اليهود والنصارى الذين ادعوا لإبراهيم وبنيه اليهودية والنصرانية، والجملة من قوله: قد خلت صفة لأمة، لها ما كسبت ولكم ما كسبتم، أي تلك الأمة مختصة بجزاء ما كسبت، كما أنكم كذلك مختصون بجزاء ما كسبتم من خير وشر، فلا ينفع أحدا كسب غيره، وظاهر ما أنها موصولة وحذف العائد، أي لها ما كسبته، وجوزوا أن تكون ما مصدرية، أي لها كسبها وكذلك ما في قوله: «وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ».[21] وقال الزمخشري كذلك:« تِلْكَ إشارة إلى الأمّة المذكورة التي هي إبراهيم ويعقوب وبنوهما الموحدون. والمعنى: أنّ أحداً لا ينفعه كسب غيره متقدّماً كان أو متأخراً، فكما أن أولئك لا ينفعهم إلا ما اكتسبوا، فكذلك أنتم لا ينفعكم إلا ما اكتسبتم، وذلك أنهم افتخروا بأوائلهم»

وفي قوله تعالى:« وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيم »[البقرة:143] اسم الإشارة«ذلك» عائد على مذكور سابق في قوله تعالى:«سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» [البقرة: 142] والمشار إليه حسب الطاهر بن عاشور «وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً، هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ [الْبَقَرَة: 142] وجملة: وما جعلنا القبلة التي كنت عليْها ، والواو اعترَاضية وهي من قبيل الواو الاستئنافية، فالْآية السابقة لما أشارت إلى أن الذين هدوا إلى صراط مستقيم هم المسلمون وأن ذلك فضل لهم ناسب أن يستطرد لذكر فضيلة أُخرى لهم هي خير مما تقدم وهي فضيلة كون المسلمين عدولًا خيارا،لِيَشهدوا على الْأمم لأن الْآيات الواقعة بعدها هي في ذكر أمر القبلة وهذه الْآية لا تتَعَلق بأمر الْقبلة،وقوله: وكذلك مركب من كاف التشبيه واسم الإشارة فيَتعين تعرف المشار إليه وما هو المشبه به.»[23] قال صاحب «الكشاف» «ومثل ذلك الجعل العجيب جعلناكم أُمَّةً وَسَطاً خيارا، وهي صفة بالاسم الذي هو وسط الشيء. ولذلك استوى فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث.»[24]

وفي قوله تعالى:« أُولَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّار»[البقرة:175] وفي هذه الآية يعود اسم الإشارة «أولئك» على مذكور سابق في قوله تعالى:  «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَـئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم»[البقرة:174] وهنا إشارة إلى ما صرح به أبي حيان في تفسيره بقوله:« أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى، أُولَئِكَ: اسم إشارة إلى الكاتِمين الذِين سبق ذكرهم، وذكر ما أوعدوا به، وتقدم تفسير: أولئك الذين اشتروا الضلالة بالْهدى مستوْعبا في أول السورة، فأغنى عن إعادته»[25] في هذا المضمار أشار الطاهر بن عاشور في تفسيره سبب مجيء اسم الإشارة وسطا بين اسم إن وخبرها بقوله:«أولئك إشارة إلى الذين يكتمون وسط اسم الإشارة بين اسم إن وخبرها للتنبيه على أن الحكم الوارد بعد ذلك قد صاروا أحرياء به لأجل تلك الصفات التي ذكرت قبله بحيث إن تلك الصفات جعلتهم كالمشاهدين للسامع فأشير إليهم وهو في الحقيقة إشارة إلى أوصافه، فمن ذلك أفادت الإشارة التنبيه على أن تلك الأوصاف هي سبب الحكم وهو إيماء للعلة على حد: أولئك على هدى من ربهم، واختير اسم إشارة البعيد ليكون أبعث للسامع على التأمل منهم والالتفات إليهم أو لأن اسم الإشارة بهذه الصيغة هو الأكثر استعمالا في كلامهم، وقد اجتمع في الآية إيمان إلى وجه ترتب اللعن على الكتمان، وهما الإيماء بالموصول إلى وجه بناء الخبر أي علته وسببه، والإيماء باسم الإشارة للتنبيه على أحرويتهم بذلك، فكان تأكيد الإيماء إلى التعليل قائما مقام التنصيص على العلة»[26]

وفي قوله تعالى:« ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيد» [البقرة:176] يعود اسم الإشارة«ذلك»على مذكور سابق في قوله تعالى: «أُولَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّار»[البقرة:175] وهنا ذكر الطاهر بن عاشور أنه جيء باسم الإشارة لربط الكلام اللاحق بالسابق على طريقة العرب في أمثاله إذا طال الفصل بين الشيء وما ارتبط به من حكم أو علة أو نحوهما، والكلام السابق الأظهر أنه قوله:« فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّار»[البقرة:175] والمعنى أنهم استحقوا العذاب على كتمانهم بسبب أن الله أنزل الكتاب بالحق فكتمانهم شيئا من الكتاب كتمان للحق، وذلك فساد وتغيير لمراد الله لأن ما يكتم من الحق يخلفه الباطل، وعليه فالجملة فصلت من الجملة التي قبلها لجريانها منها مجرى العلة، ويجوز أن يكون المشار إليه السابق هو الكتمان المأخوذ من يكتمون [الْبَقَرَة:174]، أي إنما كتموا ما كتموا بسبب أن اللَّهَ نزل الكتاب بالحق فعلموا أنه على النعت الذي بشر اللَّه به على لسان التوراة. والمعنى أنهم كتَموا دلَائل صدق النبِي حسدا وعنادا لِأن اللَّه أنزل القرآن على محمد، فَالكتاب هنا غير الكتاب في قوله: إن الذين يكتمون ما أنزل اللَّه من الكِتاب [الْبَقَرَة: 174] .

والجملة على هذا الوجه اسْتئناف بياني لِاستغراب تعمدهم كتْمان ما أنزل اللَّه من الكِتاب وإن هذا الصنع الشنيع لا يَكون إلا عن سبب عظيم، فبين ذلك بقوله تعالى: ذلكَ بأَن اللَّه نزل الكِتاب بالحق.

وقوله: «إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ»تذييل ولكنه عطف بالواو لِأنه يتضمن تكملة وصف الذين اشتروا الضّلَالة بالهدى ووعيدهم، والمراد بالذين اختلفوا عين المراد من قوله: «الَّذِينَ يَكتُمُونَ»[الْبَقَرَة: 174] و«الَّذِينَ اشْتَرَوُا»[الْبَقَرَة: 175]، فالموصولات كلها على نسق واحد.[27]

 كما قال ابن عطية الأندلسي:«المعنى ذلك الأمر أو الأمر ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق فكفروا به،والإشارة على هذا إلى وجوب النار لهم، ويحتمل أن يقدر فعلنا ذلك، ويحتمل أن يقدر وجب ذلك»[28] حيث ورد اسم الإشارة اختزالاً للكلام واقتصادًا للجهد واجتنابًا للتّكرار حين أحال إلى ملفوظ يحتوي عناصر إشاريّة معجميّة ومجموعة أحداثٍ تلتقي كلّها في نتيجة ينبني عليها المعنى الّذي يحيل عليه العنصر الإحاليّ الجامع لكلّ ما تقدّم عليه .

وفي قوله تعالى:«أُولَـئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَاب»[البقرة:202] يعود اسم الإشارة«أولئك» على مذكور سابق، تعود إلى أصحاب الحسنتين في قوله تعالى:« وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار»[البقرة:201]» والأظهر كما بين  الزمخشري والألوسي أن «أولئك إشارة إلى الفريق الثاني والجملة في مقابلة، «وما له في الآخرة من خلاق» والتعبير باسم الإشارة للدلالة على أن اتصافهم بما سبق علة للحكم المذكور ولذا ترك العطف هاهنا لكونه كالنتيجة لما قبله، قيل: وما فيه من معنى البعد للإشارة إلى علو درجتهم وبعد منزلتهم في الفضل، وجوز أن تكون الإشارة إلى كلا الفريقين المتقدمين، فالتنوين في قوله تعالى: لهم نصيب مما كسبوا على الأول للتفخيم وعلى الثاني للتنويع، أي لكل منهم نصيب من جنس ما كسبوا، أو من أجله، أو مما دعوا به نعطيهم منه ما قدرناه، ومن- إما للتبعيض أو للابتداء، والمبدئية على تقدير الأجلية على وجه التعليل، وفي الآية على الاحتمال الثالث وضع الظاهر موضع المضمر بغير لفظ السابق لأن المفهوم من ربنا آتنا الدعاء لا الكسب إلا أنه يسمى كسبا لأنه من الأعمال وقرىء«مما اكتسبوا» والله سريع الحساب يحاسب العباد على كثرتهم في قدر نصف نهار من أيام الدنيا»[29]

وفي قوله تعالى:« تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَـكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيد» [البقرة:253] وهنا ارتبط اسم الإشارة الدال على المفرد المؤنث البعيد«تلك» بمذكور سابق في قوله تعالى «وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِين»[البقرة:252] ذكر  محمد بن صالح العثيمين في تفسيره: قوله تعالى:«تلك» التاء هنا اسم إشارة؛ وأشار إلى «الرسل» بإشارة المؤنث؛ لأنه جمع تكسير؛ وجمع التكسير يعامل معاملة المؤنث في تأنيث فعله، والإشارة إليه كما قال تعالى:«قالت الأعراب آمنا» [الحجرات:14] و«الأعراب» مذكر ، لكن لما جُمع جَمع تكسير صح تأنيثه؛ وتأنيثه لفظي؛لأنه مؤول بالجماعة؛ والمشار إليه هم الرسل الذين دل عليهم قوله تعالى: «وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِين»[البقرة:252] [30] ، كما قال الطاهر بن عاشور:«موقع هذه الآية موقع الفذلكة لما قبلها والمقدمة لما بعدها» فأما الأول فإن الله تعالى لما أنبأ باختبار الرسل إبراهيم وموسى وعيسى وما عرض لهم مع أقوامهم وختم ذلك بقوله:« تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ» [الْبَقَرَة: 252] جمع ذلك كله في قوله:«تلك الرسل» لفتا إلى العبر التي في ذلك كله، ولما أنهى ذلك كله عقبه بقوله: «وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ » [الْبَقَرَة: 252] تذكيرا بأن إعلامه بأخبار الأمم والرسل آية على صدق رسالته، إذ ما كان لمثله قبل بعلم ذلك لولا وحي الله إليه، وفي هذا كله حجة على المشركين وعلى أهل الكتاب الذين جحدوا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، واسم الإشارة مبتدأ والرسل خبر، وليس الرسل بدلا لأن الإخبار عن الجماعة بأنها الرسل أوقع في استحضار الجماعة العجيب، شأنهم الباهر خبرهم وجملة «فضلنا» حال.[31]

وهذه الآيات سنمثلها في جدول إحصائي كالآتي:

الآية

المحال إليه

الإحالة

نوعها

02 ألم ذلك إحالة داخلية إلى سابق
52 توبة الله على بني إسرائيل بعد اتخاذهم العجل«الآية 51» إحالة داخلية إلى سابق
64 رفع الجبل المذكور في « الآية 63» ذلك إحالة داخلية إلى سابق
74 من اله عليهم من المدارة في أمر القتيل«الآية 73» ذلك إحالة داخلية إلى سابق
86 اليهود الذين نقضوا العهد«الآية85» أولئك إحالة داخلية إلى سابق
134 إبراهيم- إسماعيل-
إسحاق- يعقوب«الآية 133» تلك إحالة داخلية إلى سابق
143 الآية 142 كذلك إحالة داخلية إلى سابق
175 إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا «الآية 174» أولئك إحالة داخلية إلى سابق
176 وجوب النار لهم الآية:175 ذلك إحالة داخلية إلى سابق
202 الآية 201 أولئك إحالة داخلية إلى سابق
253 وإنك لمن المرسلين الآية 252 تلك إحالة داخلية إلى سابق

وبهذا يتبين أن أسماء الإشارة قامت بوظيفة هامة جدا في تحقيق التماسك النصي على مستوى آية واحدة، وعلى مستوى عدة آيات في سورة البقرة، فتجسد الربط بين الآيات في عدة مواضع، حيث قامت الإحالات الموسعة التي تعددت مرجعياتها بمد جسور بين الملفوظات المتباعدة في النص القرآني فكان الربط أقوى وأحكم، كما أدت الإحالة الإشارية وظيفة نصية هامة  تمثلت  في خلق التماسك النحوي والتداولي من خلال علاقة تلك الإشارة بما تحيل عليه داخل النص وخارجه، والنص القرآني يبقى مدونة خصبة للدراسة اللغوية، حيث يزخر بدرر كامنة لا يمكن للباحث حصرها والوقوف عليها جميعا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

[13] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور،المجلد الأول، ص:33.

[14] الكشاف 1/32.

[15] إعراب القرآن الكريم وبيانه، لمحيي الدين الدرويش، الطبعة الحادية عشرة: 1432هـ/ 2011م، منشورات اليمامة ودار ابن كثير، 1/104.

[16] الكشاف، 1/139.

[17] الكشاف 1/147.

[18] معاني القرآن وإعرابه، أبو إسحاق الزجاج 1/15

[19] الكشاف 1/155

[20] البحر المحيط في التفسير، أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان أثير الدين الأندلسي، المحقق: صدقي محمد جميل، الناشر: دار الفكر بيروت،الطبعة 1420، 2/52، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، شهاب الدين محمود بن عبد الله الحسيني الألوسي، المحقق: علي عبد الباري عطية، دار الكتب العلمية بيروت، 1/473.

[21] البحر المحيط في التفسير 1/644

[22] الكشاف، 1/194.

[23] التحرير والتنوير 2/17

[24]الكشاف 1/198

[25] تفسير البحر المحيط 2/123

[26] التحرير والتنوير 2/67.

[27] التحرير والتنوير 2/126

[28] المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز1/242.

[29] الكشاف 1/244، تفسير الألوسي، روح المعاني 1/487.

[30] تفسير القرآن الكريم محمد بن صالح العثيمين 1/235-236.

[31] التحرير والتنوير 3/5

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق