مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

مفاهيم التماسك والانسجام من خلال كتاب « نظم الدرر في تناسب الآيات والسور» لبرهان الدين البقاعي حذف الاسم في سورة البقرة «نماذج مختارة» الحلقة 2

تمهيد

يصف عبد القاهر الجرجاني الحذف فيقول: «هو بابٌ دقيقُ المَسْلك، لطيفُ المأخذ، عجيبُ الأَمر، شبيهٌ بالسِّحْر، فإنكَ ترى به تَرْكَ الذِكْر أَفْصَحَ من الذكْرِ، والصمتَ عن الإفادةِ أَزْيَدَ للإِفادة، وتَجدُكَ أَنْطَقَ ما تكونُ إِذا لم تَنْطِقْ، وأَتمَّ ما تكونُ بياناً إذا لم تبن» [1]

إن اللجوء إلى الحذف، علاقة اتساقية، إنما غايته تلمس الدواعي الجمالية والبلاغية التي تزيد النص رصانة وتماسكا، ومن يتصفح وجوه المعنى يجد محذوفا لا يتم الكلام إلا بتقديره ومراعاته، يقول عبد القاهر الجرجاني«فما مِن اسْمٍ أو فعلٍ تَجدُه قد حُذِفَ، ثم أُصيبَ به موضعُه، وحُذِفَ في الحال يَنْبغي أن يُحذَفَ فيها، إلاَّ وأنت تَجدُ حذْفَه هناك أَحْسَنَ من ذكرهِ، وترى إضمارَهُ في النفس أَوْلى وآنسَ مِنَ النُّطْقِ به»[2]

وفي هذا المقال سنتطرق إن شاء الله تعالى إلى دراسة نماذج مختارة من سورة البقرة، وذلك من خلال الحذف باعتباره أداة من أدوات التماسك النصي الذي له أثر بارز في تناسج مكونات النص وربط عناصره وتحقيق التماسك بين آياته، والتي سنعرض فيها ثلاث صور من أنواع الحذف وهي: حذف المسند إليه «المبتدأ» وحذف المضاف، وحذف المفعول، لكثرتها في النصوص البليغة عموما، وفي سورة البقرة خصوصا.

وذلك ابتداءً من قوله تعالى:

-« ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِين »[البقرة:2]

– قال تعالى:«الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون» [البقرة:3]

-قال تعالى:«صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُون» [البقرة:18]

-قال تعالى:«وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُون»[البقرة:116] بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ»[البقرة:117]

-قال تعالى:«وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُون »[البقرة:154]

-قال تعالى:«وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَاد »[البقرة:206]

-قال تعالى تعالى: « وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيم»[البقرة:220]

-قال تعالى:«لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيم»[البقرة:273]

مواضع حذف الاسم في سورة البقرة :

   1 – حذف المسند إليه:

خصص سيبويه لحذف المسند إليه بابا فقال عنه: «هذا باب يكون المبتدأ فيه مضمرا، ويكون المبني عليه مظهرا» [3]  

– قال تعالى: «ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِين»[البقرة:2]  وهنا وقع حذف المبتدأ، وتقدير الكلام هو«هدى للمتقين» والقرينة اللفظية الدالة على الحذف هو إعراب «هدى» عند مفسري القرآن خبرا مرفوعا للمبتدأ المحذوف «هو»، «للمتقين» جار ومجرور متعلقان بهدى لأنه مصدر، ولك أن تجعله مصدر للهدى، [4] وقد أسهم تقدير هذا المحذوف في تماسك الآية الكريمة، وترابط جملها على الرغم من مجيئها بلا رابط كحرف العطف، يقول الزمخشري لافتا إلى التماسك النصي في جمل الآية: «حيث جيء بها متناسقة هكذا من غير حرف نسق، وذلك لمجيئها متآخية آخذا بعضها بعنق بعض، فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها»[5] فقد ربطت الآيتان الأولى«ذلك الكتاب» والثالثة«هدى للمتقين» بتقدير الضمير«هو» فتماسكت جمل الآية ببنية الحذف العميقة.

وفي قوله تعالى:«الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون» [البقرة:3]

الَّذِينَ: في موضع خفض نعت للمتقين ويجوز أن يكون نصب بمعنى أعني، ورفعا من جهتين بالابتداء، والخبر أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وعلى إضمار «هم»[6] و«الذين» اسم موصول في محل جر صفة للمتقين، «يؤمنون» فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون لأنه من الأفعال الخمسة، والواو ضمير متصل في محل رفع  فاعل، والجملة الفعلية لا محل لها من الإعراب، لأنها صلة الموصول «بالغيب» جار ومجرور متعلقان بيؤمنون، و«يقيمون» الجملة عطف على جملة يؤمنون داخلة في حيز الصلة«الصلاة» مفعول به«ومما» الواو حرف عطف، ومما جار ومجرور متعلقان بينفقون «رزقناهم» فعل ماض وفاعل ومفعول به، وجملة رزقناهم لا محل لها من الإعراب لأنها صلة ما، والعائد محذوف أي: رزقناهم إياه، «ينفقون» فعل مضارع مرفوع معطوف على يقيمون داخل في حيز الصلة أيضا[7] وهنا إشارة إلى تقدير مبتدأ محذوف هو الضمير «هم» بقرينة قبلية داخلية، ومما يدل على هذا الحذف والتقدير أن الإسم الموصول «الذين »في محل رفع خبر، والجملة الفعلية «يؤمنون» صلة الموصول لا محل لها من الإعراب، فلابد من تقدير اسم يكون مبتدأ محذوفا لعدم جواز كون صلة الموصول ذات محل إعرابي، [8] وبالتالي أن تقدير الضمير «هم» في الآية الثالثة يعود على قرينة الحذف «للمتقين» في الآية الثانية السابقة وبهذا يكون الضمير قد حقق التماسك النصي بين الآيتين الثانية والثالثة من سورة البقرة.

وفي قوله تعالى: «صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُون» [البقرة:18] «صم» خبر لمبتدأ محذوف، أي: هم صم، والجملة مستأنفة، «بكم» خبر ثان، «عُمْيٌ» خبر ثالث، وهذه الأخبار وإن تباينت في اللفظ متحدة في المدلول والمعنى؛ لأن مآلها عدم قبول الحق «فهم» الفاء عاطفة، وهم مبتدأ «لا يرجعون» لا نافية، ويرجعون فعل مضارع مرفوع، والواو فاعل، والجملة خبرهم، والجملة عطف على هم صم، أي لا يعودون إلى الهدى، والمعنى: أن مشاعرهم انتقضت بناها التي بنيت عليها للإحساس والإدراك، [9] فالضمير«هم» مبتدأ محذوفا للخبر«صم»بقرينة قبلية داخلية بين عناصر آيات عديدة سبقتها من آيات سورة البقرة، فالصم والبكم والعمي جمع أصم وأعمى وأبكم وهم من اتصف بالصمم والبكم والعمى، فالصمم انعدام إحساس السمع عمن من شأنه أن يكون سميعا، والبكم انعدام النطق عمن من شأنه النطق، والعمى انعدام البصر عمن من شأْنه الإبصار، وقوله: فهم لا يرجعون تفريع على جملة: صم بكم عمي لِأن من اعتراه هذه الصفات انعدم منه الفهم والإفهام وتعذر طمع رجوعه إلى رشد أو صواب،[10] إلى غير ذلك من الصفات التي ذكرتها الآيات السابقة [الآية:8-18] وحذف المبتدأ في هذه المواضع لوضوح الدلالة وقوتها على المحذوف والعلم به، ومن الدارسين من ذكر غرضا يليق بمقام ازدراء الله بالمنافقين الذين ابتدأت بذكرهم الآية: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِين »[البقرة:8] يقول مصطفى عبد السلام أبو شادي: «ومن حذف المبتدأ قوله تعالى في صفة المنافقين: صم بكم عمي فهم لا يرجعون، والتقدير: المنافقون صم بكم عمي، فحذف المبتدأ لذكر كثير من شئونهم في آيات عشر قبيل هذه الآية الكريمة، ودل الحذف على أن الخبر هو المسوق له الكلام فلا مجال لذكرهم بل ينبغي أن يترك إهمالا وتحقيرا»[11] وهذا الحذف إنما جاز لطول الحديث عن المنافقين، واختصاص السياق بهم، مع أمن اللبس في الدلالة على سواهم فاستغنى عن الذكر، وكان الحذف أولى، وقد زادت مرجعية الإحالة القبلية ونوعها الداخلي لآيات متعددة، من تماسك الجمل وترابط الآيات الكريمة.

وفي قوله تعالى:«وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُون»[البقرة:116] بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ»[البقرة:117] تعرب هذه الآيات كما جاء عند المفسرين:«وقالوا» الواو حرف عطف، «وقالوا» فعل وفاعل«اتخذ الله ولدا» فعل وفاعل ومفعول به، والجملة مقول القول، «سبحانه» مفعول مطلق«له» جار ومجرور متعلقان بمحذوف  خبر مقدم «ما» اسم موصول مبتدأ مؤخر«في السموات والأرض» الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صلة الموصول«كل» مبتدأ صاغ الابتداء به لما فيه من معنى العموم، والتنوين في كل عوض عن كلمة، أي كل فرد من أفراد المخلوقات«له» جار ومجرور متعلقان بقانتون، أي خاضعون منقادون وقد غلب في الملكية ما لا يعقل، فقال:«ما في السموات»، و «بديع السموات» خبر لمبتدأ محذوف، وهو من باب إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها، والأصل «بديع سمواته» و«الأرض» عطف على السموات«وإذا» ظرف لما يستقبل من الزمن خافض لشرطه منصوب بجوابه «قضى أمرا» الجملة في محل جر  بإضافة الظرف إليها بيقول، والجملة لا محل لها«كن» فعل أمر من كان التامة بمعنى حدث «فيكون» الفاء استئنافية، ويكون فعل مضارع تام مرفوع أي فهو يحدث والجملة كن مقول القول [12] فالمحذوف هنا حسب التقدير هو «بديع» بقرينة قبلية داخلية هي قوله تعالى: «وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُون »[البقرة:116] فالعنصر المحذوف في هذه الآية هو المبتدأ وتقدير الكلام: هو بديع السموات والأرض، ومرجعية الحذف داخلية جاء فيها الدليل مقاليا سابقا وهو لفظ الجلالة الله في قوله تعالى«وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُون »[البقرة:116]  فحقق الحذف تماسكا نصيا بين عناصر آيتين سابقة ولاحقة، باستبعاده عبارة سطحية، وهو الضمير:«هو» الذي قام محتواها المفهومي في الذهن بوساطة عبارة ناقصة، ألا وهو الخبر«بديع»، والحذف في هذه الآية مما يكثر من بليغ القول ومعجزه، وهو موضع القطع والاستئناف،يقول عبد القاهر :« ومن المواضع التي يطَّردُ فيها حذفُ المبتدأ، القطع الأولَ، ويَستأنفون كلاماً آخرَ، وإِذا فعَلوا ذلك، أتوْا في أكثرِ الأمرِ بخبَرٍ من غَير مبتدإ » [13] إن الحذف هنا إنما وقع لاستغناء الجملة عن المحذوف اتكاء على ما سبقها، أي أن الحذف يسوغ اعتمادا على النص المار كله، فيأتي الحذف لأمن اللبس وللتقليل من عناصر الجملة الواضحة طلبا لتماسكها الموجز، وفي هذا إشارة لأهمية النص كله في النظر إلى المحذوف والاستدلال عليه وتحديد موضعه.[14]

وفي قوله تعالى:«وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُون »[البقرة:154] «ولا تقولوا» الواو عاطفة على ما تقدم، ولا ناهية، وتقولوا فعل مضارع مجزوم بلا «لمن» الجار والمجرور متعلقان بتقولوا، وجملة «يقتل» صلة الموصول لا محل لها «في سبيل الله» الجار والمجرور متعلقان بيقتل « أموات » خبر لمبتدأ محذوف، أي هم أموات، والجملة الاسمية مقول القول «بل» حرف إضراب وعطف «أحياء» خبر لمبتدأ محذوف والجملة معطوفة على جملة هم أموات«ولكن» الواو حالية، ولكن مخففة من الثقيلة فهي لمجرد الاستدراك «لا» نافية «تشعرون» فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون لأنه من الأفعال الخمسة، والجملة نصب على الحال، والإيجاز في هذه الآية هو إيجاز الحذف فقد حذف المبتدأ لأهمية ذكر الخبر لأنهم ما كانوا يتصورون أنهم أحياء [15] فالمحذوف إذا هو المسند إليه وتقديره «هم» للخبرين: «أموات» و«أحياء» بقرينة قبلية داخلية «من يقتل» مما حقق هذا الحذف إيجازا تم معه المعنى ومحققا لتماسك نصي بين عناصر الآية الواحدة وجملها، وهذه الآية تمثل سَبَبُ نُزُولِها عندما قِيلَ لمن قتل في سبيل اللَّه: مات فلان وذهب عنه نعيم الدنيَا ولذتها، فأنزلت. نهوا عن قولهم عن الشهداء أموات، وأخبر تعالى أنهم أحياء، وارتفاع أموات وأحياء على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هم أموات، بل هم أحياء. ويحتمل أن يكون بل أحياء، مندرِجًا تحت قول مضمر، أي بل قولوا هم أحياء، بل أحْياء، وهنا لولا تقدير المحذوف الضمير «هم» في محل رفع مبتدأ، وإعراب «أموات»و«أحياء»خبرين مرفوعين.  [16]

وللفراء رأي آخر في هذا الصدد يقول: «رفع بإضمار مكنى من أسمائهم كقولك: لا تقولوا: هُمْ أموات بل هُمْ أحياء، ولا يجوز فِي الأموات النصب لأن القول لا يقع على الأسماء إذا أضمرت وصوفها أو أظهرت كما لا يجوز قلت عَبْد اللَّه قائمًا، فكذلك لا يجوز نصب الأموات لأنك مضمر لأسمائهم، إنما يجوز النصب فيما قبله القول إذا كان الاسم فِي معنى قولٍ من ذلك: قلت خيرا، وقلت شرا. فترى الخير والشر منصوبين لأنهما قول، فكأنك قلت: قلت كلاما حسنا أو قبيحا. وتقول: قلت لك خيرا، وقلت لك خير، فيجوز إن جعلت الخير قولا نصبته كأنك قلت: قلت لك كلاما، فإذا رفعته فليس بالقول، إنما هُوَ بمنزلة قولك: قلت لك مال. »[17]

وكما نلاحظ قد جاءت القرائن مقالية لفظية، ومقامية سياقية في تقدير المحذوف الضمير «هم» مرتين لربط جمل الآية وبيان تماسكها من غير رابط تحتويه الآية من ضمير ظاهر أو سواه وذكر مصطفى عبد السلام أبو شادي وجها للحذف يفيد في ترابط جمل الآية ومن ثم تماسكها يقال عن حذف المبتدأ في هذه الآية:«والتقدير: هم أموات بل هم أحياء، وحذف المبتدأ في كليهما لتقدم ذكرهم«من يقتل في سبيل الله» ولتوجه العناية للخبر إذ الغرض تصويبه في معتقدهم، فلم يكن ثمة ما يدعو إلى ذكر المبتدأ أو تكراره»[18]

وفي قوله تعالى:«وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَاد »[البقرة:206] يقول قال أبو حيان الأندلسي:« والتقدير: ولبئس المهاد جهنم. أو: هي، وبهذا الحذف يبطل مذهب من زعم أن المخصوص بالمدح أو بالذم إِذا تأَخر كان خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ محذوف الخبر، لِأنه يلزم من حذفه حذف الجملة بأسرها من غير أن ينوب عنها شيء، لِأنها تبقى جملة مفلتة من الجملة السابقة قبلها، إذ ليس لها موضع من الإعراب، ولا هي اعتراضية ولا تفسيرية، لِأنهما مستغنى عنهما وهذه لا يستغنى عنها، فصارت مرتبطة غير مرتبطة، وذلك لا يجوز، وإذا جعلنا المحذوف من قبيل المفرد. كان فيما قبله ما يدل على حذفه، وتكون جملة واحدة كحاله إذا تقدم، وأنت لا ترى فرقا بين قولك: زيد نعْم الرجل، ونعم الرجل زيد، كما لا تجد فرقا بين: زيد قام أبوه، وبين: قام أبوه زَيْدٍ، وحسن حذف المخصوص بِالذم هنا كون المهاد وقع فاصلة، وكثِيرا ما حذف فِي القرآن لهذا المعنى، نحو قوله:

«فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ» و«فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ»، وجعل ما أعد لهم مهادا على سبيل الهزء بهم، إذ المهاد: هو ما يستريح به الْإنسان ويوطأ له للنوم»[19]

إن القرينة على حذفه قبلية داخلية هي «فحسبه جهنم» خلقت نوعا من التماسك النصي بين عناصر آية واحدة، فصار تقدير المحذوف محكوما بالمعنى والصياغة النحوية للآية، وهنا يفسر لنا الحذف ما التفت إليه عبد القاهر بقوله:« وإذ عرفْتَ هذه الجملةَ من حالِ الحذْفِ في المبتدأ، فاعلمْ أنَّ ذلك سبيلُه في كلِّ شيء، فما مِن اسْمٍ أو فعلٍ تَجدُه قد حُذِفَ، ثم أُصيبَ به موضعُه، وحُذِفَ في الحال يَنْبغي أن يُحذَفَ فيها، إلاَّ وأنت تَجدُ حذْفَه هناك أَحْسَنَ من ذكرهِ، وترى إضمارَهُ في النفس أَوْلى وآنسَ من النطْق به»[20] لأن حذف جهنم«جعل الصياغة الأدبية  تبتعد عن الوضوح الكامل؛ لأن مثل هذا الوضوح في الخطاب يبعده عن كثافته » [21] وبذلك فعل مثل هذا الحذف مشاركة المتلقي مع مبدع النص في إنتاج المعنى، فاستبعدت الصياغة القرآنية من السطح «جهنم» لأنها قائمة في قرينة سابقة من النص، وفي ذهن المتلقي أيضا. [22]

وفي قوله تعالى: « وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيم »[البقرة:220] في هذه الآية قدر المحذوف بـ «هم» أي: «فهم إخوانكم»، «يسألونك» فعل وفاعل ومفعول به، والجار والمجرور متعلقان باليتامى «قل» فعل أمر، وفاعل مستتر والجملة مستأنفة «إصلاح» مبتدأ، وسوغ الابتداء به وصفه بالجار والمجرور «لهم» الجار والمجرور صفة لإصلاح «خير» خبر إصلاح والجملة الاسمية مقول القول «وإن» شرطية «تخالطوهم» فعل الشرط، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعل والهاء مفعول به، أي: تحسنوا معاشرتهم بالمخالطة والمعاشرة الطيبة «فإخوانكم» الفاء رابطة لجواب الشرط، وإخوانكم خبر لمبتدأ محذوف أي فهم إخوانكم، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط ولابد من تقدير محذوف، أي فلكم ذلك، ثم علل ذلك بقوله: «فهم إخوانكم» [23] فمن ناحية التركيب يكثر حذف المبتدأ بعد الفاء الرابطة لجواب الشرط يقول ابن يعيش: « وقد كثُر حذف المبتدأ بعد الفاء في جواب الشرط، نحو قولك: «إن تأتني فمُكرَمٌ، وإن تعرضْ فكريمٌ». وذلك لأنه قد جرى ذكره مع الشرط، فاستُغني بذلك عن إعادته»[24] والقرينة القبلية الداخلية قد سبقت المحذوف فتماسك النص على الرغم من هذا الحذف للقرينة الدالة عليه، مما جعل للآية تماسكا بين عناصرها، وقد حسن الحذف لأن الآية في مقام الإيجاز ولاسيما الفعل «تخالطوهم» فقد حمل معاني مكثفة كثيرة فأداها، [25] ومن أسباب الحذف كذلك الالتفات من ضمير الغيبة «تخالطوهم» إلى ضمير الخطاب«فإخوانكم» إذ حكمة هذا الالتفات ما في الإقبال بالخطاب على المخاطب، ليتهيأ لسماع ما يلقى إليه، وقبوله والتحرز فيه ولو ذكر المبتدأ المحذوف «هم» لفوت وحاشاه هذا العدول الأسلوبي الذي أفاد التقريب والترغيب في معاشرة اليتامى إخوانا. [26]

وفي قوله تعالى: «إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير»[البقرة:271] وقوله تعالى: «لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُون »[البقرة:272] المحذوف الضمير المسند إليه في الآية، الضمير«هو» أي «فهو لأنفسكم» فقوله تعالى: «وما تنفقوا من خير فلأنفسكم» الواو عاطفة على ما قبلها، وما شرطية جازمة في محل نصب مفعول به مقدم لتنفقوا، وتنفقوا فعل الشرط، و«من خير» في محل نصب حال، والفاء رابطة لجواب الشرط، ولأنفسكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير«فهو لأنفسكم»،[27] بقرينة قبلية داخلية هي قوله تعالى:« وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ »[البقرة:271] فخلق هذا الحذف ترابطا لفظيا وتماسكا نصيا بين الآيتين [البقرة:271]و[البقرة:272] باستعانته بالحذف بوصفه أداة من أدوات الاتساق النصي ولاسيما أن موضوعهما واحد هو الحض على الإنفاق وكتمانه ومما يعزز هذا الحذف ويؤكد على وظيفته البلاغية والدلالية .

وفي قوله تعالى: « لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيم»[البقرة:273»« لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ » الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف، أي صدقاتكم للفقراء، وجملة أحصروا في سبيل الله لا محل لها لأنها صلة الموصول، والجار والمجرور متعلقان بأحصروا [28] وهنا تعلق شبه الجملة«للفقراء» بمبتدأ محذوف تقديره «صدقاتكم» وقد أشارت إليه الآية الكريمة ما قبل السابقة: «إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير»[البقرة:271] فقوله «ويكفر» خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: وهو يكفر عنكم سيئاتكم، فحذف المبتدأ لظهوره وتفرده إذ لا يكفر الذنوب إلا هو سبحان، ومنه قوله تعالى: «لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ… » الجار والمجرور متعلق بمحذوف مبتدأ، والتقدير: صدقاتكم للفقراء الذين أحصروا، وحُذف لتقدم ذكره في آيات سابقة، ولأنه يتحدث في هذه الآية الكريمة عن فقراء مخصوصين، لا يسألون الناس يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف فناسب إضمار «الصدقات» حالهم هذه [29] وهذا الحذف ربط النص القرآني من الآية«271-272» من سورة البقرة برباط الوحدة النصية مما تماسكت معه الآيات تماسكا نصيا بقرينة قبلية داخلية يقول الألوسي بخصوص تقدير المحذوف:« للفقراء متعلق بمحذوف ينساق إليه الكلام ولهذا حذف، أي اعمدوا للفقراء أو اجعلوا ما تنفقونه للفقراء أو صدقاتكم للفقراء» [30] فقد ربطت الآيتان  [البقرة/271] و[البقرة/273] بمحذوف تقديره«صدقاتكم» فتماسكت جمل الآيتين ببنية الحذف العميقة، لقد حذفت«صدقاتكم» لأمن اللبس في الدلالة عليها، فاستغنى عن ذكرها فكان الحذف أولى و تَرْكَ الذِكْر، أَفْصَحَ من الذكْرِ، [31]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

[1] دلائل الإعجاز في علم المعاني، عبد القاهر الجرجاني، تح: محمود محمد شاكر مطبعة المدني بالقاهرة – دار المدني بجدة، الطبعة: الثالثة 1413هـ – 1992م 1/146.

[2] دلائل الإعجاز في علم المعاني، 1/152.

[3]  الكتاب لسيبويه، عمرو بن عثمان بن قنبر الحارثي بالولاء، أبو بشر، الملقب سيبويه، تح: عبد السلام محمد هارون، الناشر: مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة: الثالثة 1408 هـ – 1988 م،2/130.

[4] انظر إعراب القرآن الكريم وبيانه، لمحيي الدين الدرويش، الطبعة الحادية عشرة: 1432هـ/ 2011م، منشورات اليمامة ودار ابن كثير. 1/38-  معاني القرآن وإعرابه للزجاج، أبي إسحاق إبراهيم بن السري، ت: عبد الجليل عبده شلبي، خرج أحاديثه الأستاذ علي جمال الدين محمد، دار الحديث القاهرة، 1/23-52.

[5] الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، الزمخشري جار الله، الناشر: دار الكتاب العربي ـــ بيروت، الطبعة: الثالثة – 1407 هـ ، 1/37.

[6] معاني القرآن للنحاس، أبو جعفر النحاس أحمد بن محمد، المحقق: محمد علي الصابوني، جامعة أم القرى- مكة المكرمة، الطبعة الأولى1409 1/25.

[7] إعراب القرآن الكريم وبيانه 1/38- 39.

[8] انظر معاني القرآن للنحاس 1/25.

[9] إعراب القرآن الكريم وبيانه 1/59.

[10] تفسير التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، منشورات دار سحنون للنشر والتوزيع تونس، المجلد الأول 1/314.

[11] الحذف البلاغي في القرآن الكريم، مصطفى عبد السلام أبو شادي، مكتبة القرآن للطبع والنشر والتوزيع، ص:143.

[12] إعراب القرآن الكريم وبيانه1/122-123.

[13] دلائل الإعجاز1/14.

[14] مجلة جامعة بابل للعلوم الإنسانیة، المجلد 28 ، العدد 8، حذف الاسم في سورة البقرة بين التراث واللسانيات النصية، عبد الحسن عباس حسن، جامعة جابر بن حيان الطبية ص: 47.

 [15] إعراب القرآن الكريم وبيانه 1/196.

.  [16] إعراب القرآن للنحاس 1/85- البحر المحيط في التفسير، أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان أثير الدين الأندلسي، المحقق: صدقي محمد جميل، الناشر: دار الفكر بيروت،الطبعة 1420، 2/52، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، شهاب الدين محمود بن عبد الله الحسيني الألوسي، المحقق: علي عبد الباري عطية، دار الكتب العلمية بيروت، 1/418.

[17] معاني القرآن، أبو زكريا يحيي بن زياد بن عبد الله بن منظور الديلمي الفراء، المحقق: أحمد يوسف النجاتي – محمد علي النجار- عبد الفتاح إسماعيل الشلبي، الناشر: دار المصرية للتأليف والترجمة- مصر، الطبعة الأولى 1/93.

[18] الحذف البلاغي في القرآن الكريم، مصطفى عبد السلام أبو شادي ص:44

[19] تفسير البحر المحيط، 2/333.

[20] دلائل الإعجاز 1/152.

[21] البلاغة العربية قراءة أخرى، محمد عبد المطلب، الشركة العالمية للنشر لونجمان، ص: 116-117.

[22] مجلة جامعة بابل للعلوم الإنسانیة، المجلد 28 ، العدد 8، حذف الاسم في سورة البقرة بين التراث واللسانيات النصية، عبد الحسن عباس حسن، جامعة جابر بن حيان الطبية ص: 48.

[23] إعراب القرآن الكريم وبيانه 2/286.

[24] شرح المفصل لابن يعيش، يعيش بن علي بن يعيش ابن أبي السرايا محمد بن علي، أبو البقاء، موفق الدين الأسدي الموصلي، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة: الأولى، 1422 هـ – 2001 م 5/118.

[25] الكشاف: 1/263.

. [26] مجلة جامعة بابل للعلوم الإنسانیة، المجلد 28، العدد 8، حذف الاسم في سورة البقرة بين التراث واللسانيات النصية، عبد الحسن عباس حسن، جامعة جابر بن حيان الطبية ص: 48.

[27] إعراب القرآن الكريم وبيانه3/364.

[28] نفسه3/365.

[29] الحذف البلاغي في القرآن الكريم، ص: 44.

[30] تفسير الألوسي، روح المعاني 2/45.

[31] دلائل الإعجاز1/146.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق