مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

تعليقة على نص أبي محمد ابن حزم في طرد الهـم «نص في علم النفس الاجتماعي»(1)

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد فهذه كلمة للإمام الحافظ الحجة أبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري (ت: 456هـ) من كتابه النفيس«الأخلاق والسير في مداواة النفوس» تطلب فيها من خلال دراسة نفسية اجتماعية ما تبغي الناس من سعيها، وما ترومه من كدحها، على اختلاف مشاربها، وتضارب مللها ونحلها، وتمايز مذاهبها، وتنوع أعراقها، وتفاوت منازلها في العلم والجاه، والمال والسلطان، فإذا شيء وحيد مرغوب، وهدف لا ثاني له مطلوب، وما سواه كالوسيلة في طرده، والسبب في مدافعته، والحيلة في إبعاده، حدده في طرد الهَمِّ وإزالته، نورده هـهنا بحرفه أولا؛ لنستخلص بعضا من مقاصده وفرائده في مقال لا حق ثانيا:

قال رحمه الله: « تطلبت غرضا يستوي الناس كلهم في استحسانه وفي طلبه فلم أجده إلا واحدا وهو طرد الهم

فلما تدبرته علمت أن الناس كلهم لم يستووا في استحسانه فقط، ولا في طلبه فقط، ولكن رأيتهم على اختلاف أهوائهم ومطالبهم، وتباين هممهم وإراداتهم لا يتحركون حركة أصلا إلا فيما يرجون به طرد الهم، ولا ينطقون بكلمة أصلا إلا فيما يعانون به إزاحته عن أنفسهم: فمن مخطئ وجه سبيله، ومن مقارب للخطأ، ومن مصيب وهو الأقل من الناس في الأقل من أموره.

فطرد الهم مذهب قد اتفقت الأمم كلها مذ خلق الله تعالى العالم إلى أن يتناهى عالم الابتداء ويعاقبه عالم الحساب، على أن لا يعتمدوا بسعيهم شيئا سواه، وكل غرض غيره ففي الناس من لا يستحسنه:

إذ في الناس من لا دين له، فلا يعمل للآخرة؛

وفي الناس من أهل الشر من لا يريد الخير ولا الأمن ولا الحق؛

وفي الناس من يؤثر الخمول بهواه وإرادته على بعد الصيت؛

وفي الناس من لا يريد المال ويؤثر عدمه على وجوده ككثير من الأنبياء عليهم السلام ومن تلاهم من الزهاد والفلاسفة؛

وفي الناس من يبغض اللذات بطبعه، ويستنقص طالبها كمن ذكرنا من المؤثرين فقْدَ المال على اقتنائه؛

وفي الناس من يؤثر الجهل على العلم كأكثر من ترى من العامة؛

وهذه هي أغراض الناس التي لا غرض لهم سواها.

وليس في العالم مذ كان إلى أن يتناهى أحد يستحسن الهمَّ ولا يريد طرده عن نفسه: فلما استقر في نفسي هذا العلم الرفيع، وانكشف لي هذا السر العجيب، وأنار الله تعالى لفكري هذا الكنز العظيم، بحثت عن سبيل موصلة على الحقيقة إلى طرد الهم الذي هو المطلوب للنفس الذي اتفق جميع أنواع الإنسان الجاهل منهم والعالم والصالح والطالح على السعي له، فلم أجدها إلا التوجه إلى الله عز وجل بالعمل للآخرة،

وإلا فإنما طلب المال طلابه؛ ليطردوا به همَّ الفقر عن أنفسهم

وإنما طلب الصيت من طلبه؛ ليطرد به عن نفسه همَّ الاستعلاء عليها

وإنما طلب اللذات من طلبها؛ ليطرد بها عن نفسه هَمَّ فوتها

وإنما طلب العلم من طلبه؛ ليطرد به عن نفسه همَّ الجهل

وإنما هش إلى سماع الأخبار ومحادثة الناس من يطلب ذلك؛ ليطرد بها عن نفسه همَّ التوحد، ومغيب أحوال العالم عنه

وإنما أكل من أكل، وشرب من شرب، ونكح من نكح، ولبس من لبس، ولعب من لعب، واكتن من اكتن، وركب من ركب، ومشى من مشى، وتودع من تودع؛ ليطردوا عن أنفسهم أضداد هذه الأفعال وسائر الهموم

وفي كل ما ذكرنا لمن تدبره هموم حادثة لا بد لها من عوارض تعرض في خلالها، وتعذر ما يتعذر منها، وذهاب ما يوجد منها، والعجز عنه لبعض الآفات الكائنة وأيضا نتائج سوء تنتج بالحصول على ما حصل عليه من كل ذلك من خوف منافس أو طعن حاسد أو اختلاس راغب أو اقتناء عدو، مع الذم والإثم وغير ذلك

ووجدت العمل للآخرة سالما من كل عيب، خالصا من كل كدر، موصلا إلى طرد الهـَم على الحقيقة

ووجدت العامل للآخرة إن امتحن بمكروه في تلك السبيل لم يهتم بل يسر؛ إذ رجاؤه في عاقبة ما ينال به عون له على ما يطلب، وزائد في الغرض الذي إياه يقصد

ووجدته إن عاقه عما هو بسبيله عائق لم يهتم؛ إذ ليس مؤاخذا بذلك، فهو غير مؤثر فيما يطلب.

ورأيته إن قصد بالأذى سر، وإن نكبته نكبة سر، وإن تعب فيما سلك فيه سر، فهو في سرور متصل أبدا، وغيره بخلاف ذلك أبدا.

فاعلم أنه مطلوب واحد وهو طرد الهم، وليس إليه إلا طريق واحد وهو العمل لله تعالى، فما عدا هذا فضلال وسخف».

المصدر: الأخلاق والسير في مداواة النفوس(14-16) للحجة أبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري (ت ٤٥٦هـ). دار الآفاق الجديدة – بيروت، ط2، 1979.

د. عبد الهادي السلي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق