مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

مظاهر التماسك والانسجام من خلال كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للإمام البقاعي: شواهد الالتفات في سورة البقرة «نماذج مختارة» «الحلقة الحادية عشرة»

من العلاقات الدلالية الأكثر ترددا في نص سورة البقرة أسلوب«الالتفات» وهو من فنون القول التي حظيت بعناية لدى البلغاء وعلماء التفسير؛ لأنه ينقل الكلام من أسلوب إلى أسلوب ومن صيغة إلى صيغة ومن خطاب إلى آخر، والزركشي يتحدث عن فوائد الالتفات العامة والخاصة  يقول:«اعلم أن للالتفات فوائد عامة وخاصة؛ فمن العامة التفنن والانتقال من أسلوب إلى آخر لما في ذلك من تنشيط السامع واستجلاب صفائه واتساع مجاري الكلام وتسهيل للوزن والقافية»[1] ولا تقتصر مهمة الالتفات على ما ذكره الزركشي بل له فوائد خاصة كما أشار في نصه تقع من مسائل النص موقعا حسنا، إذ تشير إلى وظيفة الالتفات في حبك النص وضمه إلى بعض.

ويشير البقاعي إلى الالتفات ووظيفته في مواضع كثيرة من تفسيره، ففي أم القرآن ينبه الإمام على الالتفات بقوله: «فلما استجمع الأمر استحقاقاً وتحبيباً وترغيباً وترهيباً كان من شأن كل ذي لب الإقبال إليه وقصر الهمم عليه، فقال عادلاً عن أسلوب الغيبة إلى الخطاب لهذا مقدماً للوسيلة على طلب الحاجة لأنه أجدر بالإجابة «إياك»…وأعقبه بقوله مكرراً للضمير حثاً على المبالغة في طلب العون «وإياك نستعين» إشارة إلى أن عبادته لا تتهيأ إلا بمعونته، وإلى أن ملاك الهداية بيديه»فكان غرض الالتفات هو الحث على المبالغة في طلب العون [2] وتم الربط بين الآيتين على أساس هذا الغرض فتحقق انسجام النص.

الالتفات لغة واصطلاحا:

قال ابن منظور: لَفَتَ وجهَه عن القوم: صَرَفَه، والتَفَتَ التِفاتا، والتَّلَفُّتُ أكثر منه. وتَلَفَّتَ إلى الشيء والْتَفَتَ إليه: صَرَفَ وجْهَه إليه، واللَّفْتُ: الصَّرْفُ؛ يُقَالُ: مَا لَفَتَك عَنْ فلان أي ما صرفَك عنه؟ واللَّفْتُ: لَيُّ الشيءِ عن جهتِه، كما تَقْبِضُ على عنق إنسان فتَلْفِته.[3]

وعرف صاحب المفردات في غريب القرآن لفظة لَفَتَ بقوله:« يقال: لَفَتَهُ عن كذا: صرفه عنه، قال تعالى:

«قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا» أي: تصرفنا، ومنه: التَفَتَ فلان: إذا عدل عن قبله بوجهه، وامرأة لَفُوتٌ: تَلْفِتُ من زوجها إلى ولدها من غيره، واللَّفِيتَةُ: ما يغلظ من العصيدة.[4]

وقد روى الزركشي عن حازم تعليقه على الالتفات فقال:«قال حازم في «منهاج البلغاء»: وهم يسأمون الاستمرار على ضمير متكلم أو ضمير مخاطب فينتقلون من الخطاب إلى الغيبة وكذلك أيضا يتلاعب المتكلم بضميره، فتارة يجعله تاء على جهة الإخبار عن نفسه، وتارة يجعله كافا، فيجعل نفسه مخاطبا وتارة يجعله هاء فيقيم نفسه مقام الغائب، فلذلك كان الكلام المتوالي فيه ضمير المتكلم والمخاطب لا يستطاب، وإنما يحسن الانتقال من بعضها إلى بعض وهو نقل معنوي لا لفظي، وشرطه أن يكون الضمير في المتنقل إليه عائدا في نفس الأمر إلى الملتف عنه ليخرج نحو «أكرم زيدا وأحسن إليه»، فضمير أنت الذي هو في «أكرم» غير الضمير في «إليه»، واعلم أن للمتكلم والخطاب والغيبة مقامات، والمشهور أن الالتفات هو الانتقال من أحدها إلى الآخر بعد التعبير بالأول» [5] وقد عرفه السيوطي في الإتقان بقوله: « الالتفات نقل الكلام من أسلوب إلى آخر أعني من التكلم أو الخطاب أو الغيبة إلى آخر منها بعد التعبير بالأول هذا هو المشهور وله فوائد منها؛ تطرية الكلام وصيانة السمع عن الضجر والملل لما جبلت عليه النفوس من حب التنقلات والسآمة من الاستمرار على منوال واحد وهذه فائدته العامة ويختص كل موضع بنكت ولطائف باختلاف محله».[6]

أقسام الالتفات:

الالتفات من التكلم إلى الخطاب: ووجهه حث السامع وبعثه على الاستماع حيث أقبل المتكلم عليه وأعطاه فضل عناية تخصيص بالمواجهة قوله تعالى: «وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون» [يس:22] والأصل وإليه أرجع، فالتفت من التكلم إلى الخطاب ونكتته أنه أخرج الكلام في معرض مناصحته لنفسه وهو يريد نصح قومه تلطفا وإعلاما أنه يريد لهم ما يريد لنفسه،  ثم التفت إليهم لكونه في مقام تخويفهم ودعوتهم إلى الله تعالى.[7]

الالتفات من التكلم إلى الغيبة: ووجهه أن يفهم السامع أن هذا نمط المتكلم وقصده من السامع حضر أو غاب وأنه ليس في كلامه ممن يتلون ويتوجه ويبدى في الغيبة خلاف ما يبديه في الحضور قوله تعالى: «إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله» والأصل «لنغفر لك».[8]

الالتفات من الخطاب إلى التكلم: لم يقع في القرآن، ومثل له بعضهم بقوله فاقض ما أنت قاض ثم قال إنا آمنا بربنا وهذا المثال لا يصح لأن شرط الالتفات أن يكون المراد به واحدا. [9]

الالتفات من الخطاب إلى الغيبة: مثل قوله تعالى« هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِين »[يونس:22] والأصل «بكم» ونكتة العدول عن خطابهم إلى حكاية حالهم لغيرهم التعجب من كفرهم وفعلهم، إذ لو استمر على خطابهم لفاتت تلك الفائدة، و لأن الخطاب أولا كان مع الناس مؤمنهم وكافرهم بدليل هو الذي يسيركم في البر والبحر، فلو كان «وجرين بكم» للزم الذم للجميع فالتفت عن الأول للإشارة إلى اختصاصه بهؤلاء الذين شأنهم ما ذكره عنهم في آخر الآية عدولا من الخطاب العام إلى الخاص.[10]

الالتفات من الغيبة إلى التكلم: مثل قوله تعالى:«اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاء وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُون»[الروم:48] الله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه، «وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا» [فُصِّلَت:12] سبحان الذي أسرى بعبده إلى قوله: «بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا» ثم التفت ثانيا إلى الغيبة، فقال: «إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ»، «لِيُرِيهِ» بالغيبة يكون التفاتا ثانيا من «باركنا»، وفي آياتنا التفات ثالث، وفي «إنه» التفات رابع، قال الزمخشري وفائدته في هذه الآيات وأمثالها التنبيه على التخصيص بالقدرة، وأنه لا يدخل تحت قدرة أحد.[11]

الالتفات من الغيبة إلى الخطاب: ومثاله قوله تعالى:« وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا »[مريم: 89-88] وقوله عز وجل:« أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِين» [الأنعام:6] قوله عز وجل:« وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا »[الإنسان:21-22]».[12]

شواهد الالتفات في سورة البقرة نماذج مختارة:

قال تعالى« وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ ياقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم »[البقرة:54]

قال تعالى:«وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِين»[البقرة:60]

قال تعالى: «ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون»[البقرة:74]

قال تعالى:«وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُون» [البقرة:83]

قال تعالى:«وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُون »[البقرة:87]

« وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِين» [البقرة:93]

قال تعالى:«وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُون»[البقرة:96]

قال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُون»[البقرة:159]

قال تعالى:«إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيم»[البقرة:160]

وفيما يلي عرض لهذه الآيات من سورة البقرة، مع بيان فوائد أثر السياق في أسلوب الالتفات؛ ففي قوله عز وجل:« وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ ياقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم»[البقرة:54]

شاهد الالتفات في الآية، قوله تعالى«فتاب عليكم» قال الرازي:« فتاب عليكم ففيه محذوف ثم فيه وجهان: أحدهما: أن يقدر من قول موسى عليه السلام كأنه قال: فإن فعلتم فقد تاب عليكم، والآخر: أن يكون خطابا من اللَّهِ لهم علَى طريقة الالتفات، فيكون التقدير ففعلتم ما أمركم به موسى فتاب عليكم بارئكم، وأما معنى قوله تعالى: «فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ»، فقد تقدم فِي قوله: «فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.»[13] والالتفات هنا من التكلم الذي يتطلبه سياق الكلام، إذ كان مقتضى المقام أن يقول: «فوفقتكم فتبت عليكم» [14] ، إذا فالالتفات هنا من التكلم كما في قوله« وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون »[البقرة:53] إلى الغيبة، وجاءت هذه الآية في سياق الحديث عن النعم الجليلة التي أنعمها الله على بني إسرائيل؛ وقد عرضت الآية نعمة من هذه النعم وهي أن الله هداهم إلى طريق التوبة من عبادة العجل، وهي أكبر معصية ارتكبها بنو إسرائيل بعد أن رأوا نعمة عظيمة من الله عليهم إذ نجاهم من فرعون، ففر بهم البحر وأغرق عدوهم فما كان موقفهم بعد ذلك إلا أن اعبدوا العجل فأمرهم الله أن يقتلوا أنفسهم، ليقتل الطائع منكم العاصي ليطهره، ويطهر نفسه [15] فسياق الآية يشعر بأن غضب الله عليهم كان شديدا لما قابلوا نعمة عظيمة منه عليهم بقيامهم بمعصية عظيمة، فالتفت إلى الغيبة كأن سياق الآية يقول: «لعلكم بقتلكم العاصين ترضون بارئكم»، لكن لو جرى الكلام على الأصل فقيل: «فتبت عليكم»، لخلا حينئذ هذا الخطاب من ظهور أثر الغضب الذي نستشعره من السياق والالتفات، فالكلام لو جرى على الأصل لأصبح خطابا، والخطاب لا يخلو من تأنيس للمخاطب، وقد ورد ضمير المخاطب في السياق حين كان يعرض نعم الله عليهم، ثم التفت إلى ضمير الغيبة ليبرز غضب الله عليهم حينما قابلوا نعم الله عليهم بعبادة العجل.[16]

وفي قوله تعالى: «وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِين» [البقرة:60] شاهد الالتفات في هذه الآية قوله تعالى:«من رزق الله» قال أبو حيان:« وهذا التفات، إذ تقدم فقلنا: اضرب، ولو جرى على نظم واحد لقال:« منْ رِزْقِنَا»[17] وهذا التفات من التكلم إلى الغيبة.

وفي قوله تعالى: «ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون»[البقرة:74] شاهد الالتفات في هذه الآية قوله تعالى:«تعملون»التي قرأها ابن كثير بالياء أي «يعلمون» قال أبو السعود:«وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ»«عن» متعلقة بغافل، و«ما» موصلة، والعائدُ محذوف أو مصدرية، وهو وعيدٌ شديد على ما هم عليه من قساوة القلوب وما يترتبُ عليها من الأعمال السيئة، وقرئ بالياء على الالتفات.[18] وهذا التفات من الخطاب في قوله «ثم قست قلوبكم» إلى الغيبة في «يعملون»، فقراءة جمهور القراء «تعملون» أفاد الخطاب فيها النعي على اليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم ــــــــــ الذين بيَّن السياق قلة إيمانهم بالغيب، وكأنه قيل: إن ما حصل لقلوبكم إنما هو من صنع أيديكم، وقراءة ابن كثير «يعملون» أفاد الالتفات إلى الغيبة فيها النعي على أسلاف اليهود الذين كانوا يتنطعون ويماطلون في أحكام الله، فالقراءتان جمعت النعي على السابقين والمخاطبين منهم، مع إفادة أن التنطع وقلة الإيمان بالغيب متأصلان في قلوب الفريقين منهم، بالإضافة إلى ما ذكره أبو حيان «وحكمة هذا الالتفات أنه أعرض عن مخاطبتهم، وأبرزهم في صورة من لا يقبل عليهم بالخطاب، وجعلهم كالغائبين عنه، لأن مخاطبة الشخص ومواجهته بالكلام إقبال من المخاطب عليه، وتأنيس له، فقطع عنهم مواجهته لهم بالخطاب، لكثرة ما صدر عنهم من المخالفات»[19]

وفي قوله تعالى:« وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُون» [البقرة:83] هذه الآية مناسبة للآيات الواردة قبلها في ذكر توبيخ بني إسرائيل وتقريعهم، وتبيين ما أخذ عليهم من ميثاق العبادة لله، وإفراده تعالى بالعبادة وما أمرهم به من مكارم الأخلاق من صلة الأرحام والإحسان إلى المساكين والمواظبة على ركني الإسلام البدني والمالي، ثم ذكر توليهم عن ذلك، ونقضهم لذلك الميثاق على عادتهم السابقة وطريقتهم المألوفة لهم، [20] حيث جاء شاهد الالتفات في هذه الآية من الغيبة إلى الخطاب في قوله تعالى: لا تعبدون، ومن خطاب بني إسرائيل القدامى إلى خطاب الحاضرين منهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم [21] قال أبو حيان:«… وذلك أنه لما ذكر أنه أخذ ميثاق بني إسرائيل كان في ذلك إيهام للميثاق، فأتى بهذه الجملة مفسرة للميثاق، فمن قرأ بالياء فلأن بني إسرائيل لفظ غيبة، ومن قرأ بالتاء فهو التفات، وحكمته الإقبال عليهم بالخطاب ليكون أدعى للقبول، وأقرب للامتثال، إذ فيه الإقبال من الله على المخاطب بالخطاب»[22]

كما ذكر صاحب التحرير والتنوير أن الالتفات جاء لوجهين: أحدهما: أن هذا رجوع إلى مجادلة بني إسرائيل وتوفيقهم على مساويهم، فهو افتتاح ثان جرى على أسلوب الافتتاح الواقع في قوله تعالى:«يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ» [البقرة: 40] ثانيهما: أن ما سيذكر هنا لما كان من الأحوال التي اتصف بها السلف والخلف، وكان المقصود الأول منه إثبات سوء صنيع الموجودين في زمن القرآن تعين أن يعبر عن سلفهم باللفظ الصريح، ليتأتى توجيه الخطاب من بعد ذلك إلى المخاطبين حتى لا يظن أنه من الخطاب الذي أريد به أسلافهم [23] 1/582

 وبعد مراجعة السياق تظهر  عدة أمور أثرت على الالتفات في هذه الآية، أولها: أن سياق القرآن قد أخبرنا حينما قال للمؤمنين: «أفتطمعون أن يؤمنوا لكم » [من الآية: 75] إن الحديث بعد الآن سيكون عن اليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان الحديث عنهم بعد خطاب المؤمنين بضمير الغيبة كما في قوله تعالى«وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا… »[من الآية: 76] وقوله: «أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون»[الآية:77] ، وقوله:«وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة…»[من الآية 80] ثم جاءت هذه الآية مفتتحة بأسلوب الغيبة لتتناسق وتنسجم مع الآيات السابقة:«وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل»وذلك لأنه لو افتتح الآية بأسلوب الخطاب فقيل: وإذ  أخذنا ميثاقكم، لتوهم أنه خطاب موجه للمؤمنين معطوف على خطابهم السابق:«أفتطمعون أن يؤمنوا لكم» وثانيها أن الالتفات في هذه الآية قد جمع النعي على السابقين والمخاطبين من بني إسرائيل، فقوله تعالى: «وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل» شمل السابقين، والالتفات في قوله «لا تعبدون إلا الله» شمل المخاطبين، وبين أنهم لا يزالون مأمورين بالالتزام بالميثاق ذاته، وهكذا يجتمع النعي على القسمين لعدم التزامهم بميثاق ربهم، لكن لو كان هنالك قراءة واحدة فقط: لا يعبدون إلا الله لذهب النعي على المخاطبين وبقي محصورا في السابقين، وبذلك يتم التناسق مع حديث السياق عن المعاصرين من بني إسرائيل[24]

هذا وفي الآية التفات آخر في قوله تعالى: «إلا الله» وهو التفات من التكلم في:«وإذ أخذنا»إلى الغيبة يقول أبو حيان: « إلا الله : استثناء مفرّغ ، لأن لا تعبدون لم يأخذ مفعوله، وفيه التفات؛ إذ خرج من ضمير المتكلم إلى الاسم الغائب،ألا ترى أنه لو جرى على نسق واحد لكان نظم الكلام لا تعبدون إلا إيانا؟ لكن في العدول إلى الاسم الظاهر من الفخامة والدلالة على سائر الصفات، والتفرّد بالتسمية به ما ليس في المضمر، ولأن ما جاء بعده من الأسماء، إنما هي أسماء ظاهرة، فناسب مجاورة الظاهر الظاهر» [25]

وقوله تعالى:« وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُون»[البقرة:87] شاهد الالتفات هنا قوله تعالى:«وقالوا قلوبنا غلف» يقول ابن عاشور:« إما عطف على قوله: «استكبرتم» أو على «كذبتم» فيكون على الوجه الثاني تفسيرا للاستكبار، أي يكون على تقدير عطفه على«كذبتم» من جملة تفصيل الاستكبار بأن أشير إلى أن استكبارهم أنواع تكذيب وتقتيل وإعراض؛ وعلى الوجهين ففيه التفات من الخطاب إلى الغيبة، وإبعاد لهم عن مقام الحضور، فهو من الالتفات الذي نكتته أن ما أجرى على المخاطب من صفات النقص والفظاعة قد أوجب إبعاده عن البال وإعراض البال عنه، فيشار إلى هذا الإبعاد بخطابه بخطاب البعد، فهو كناية وقد حسن الالتفات أنه مؤذن بانتقال الكلام إلى سوء مقابلتهم للدعوة المحمدية، وهو غرض جديد، فإنهم لما تحدث عنهم بما هو من شؤونهم مع أنبيائهم وجه الخطاب إليهم، ولما أريد الحديث عنهم في إعراضهم عن النبي صلى الله عليه وسلم صار الخطاب جاريا مع المؤمنين، وأجرى على اليهود ضمير الغيبة، على أنه يحتمل أن قولهم: «قُلُوبُنَا غُلْفٌ» لم يصرحوا به علنا ويدل لذلك أن أسلوب الخطاب جرى على الغيبة من مبدأ هذه الآية إلى قوله تعالى «وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ»[البقرة:92] والقلوب مستعملة في معنى الأذهان على طريقة كلام العرب في إطلاق القلب على العقل» [26]

وفي قوله تعالى:« وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِين» [البقرة:93] وشاهد الالتفات هنا قوله تعالى:«قالوا سمعنا وعصينا»قال أبو حيان: «هذا من الالتفات ، إذ لو جاء على الخطاب لقال : قلتم سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا: ظاهره أن كلتا الجملتين مقولة، ونطقوا بذلك مبالغة في التعنت والعصيان»[27] فهذا التفات من الخطاب إلى الغيبة،والآيات السابقة كما لاحظنا خاطبت المعاصرين من بني إسرائيل مذكرة إياهم بجريمة ارتكبها أسلافهم:« وَلَقَدْ جَاءكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُون »[ البقرة:92] والسياق هنا يلتفت من الخطاب إلى الحكاية؛ يخاطب بني إسرائيل بما كان منهم،ويلتفت إلى المؤمنين وإلى الناس جميعا فيطلعهم على ما كان منهم، [28] وجاءت هذه الآية منسجمة مع السياق، فافتتحت بخطاب المعاصرين أيضا، وبيان أن الله تعالى قد أخذ عليهم ميثاق الإيمان، وأنه قد رفع فوقهم الطور، مع أن الذين رفع فوقهم الطور هم السابقون، لكن افتتاح الآية بخطاب المخاطبين أثبت أنهم ما زالوا مطالبين بمقتضى الميثاق الذي أخذ على السابقين، ثم التفت إلى الغيبة ليثبت أن السابقين قالوا «سمعنا وعصينا» ولكن لسان حال أخلافهم ما زال ينطق بالعبارة ذاتها، كما أثبتت آخر الآية: «قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين» فجمع الالتفات النعي على السابقين والمخاطبين معا، ومن جهة  أن الالتفات إلى الغيبة متناسب مع أمر قبيح ذكرته الآية عنهم، وهو أنهم أشربوا حب العجل حتى خلص ذلك إلى قلوبهم [29] وذلك في قوله تعالى:«وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم» كما أن الالتفات قد أظهر أن من كان جوابه وجرأته على ميثاق الله حري بأن لا يتوجه إليه بالخطاب، ومن اللطيف أن هذه الآية قريبة جدا في موضوعها من الآية «وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُون »[البقرة:83] التي افتتحت بأسلوب الغيبة لتنعى على السابقين، ثم التفت السياق فيها إلى الخطاب لينعى على المخاطبين، وهذا يقابل تماما قوله تعالى: « وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِين» [البقرة:93] التي افتتحت بخطاب المخاطبين معاتبا إياهم ناعيا عليهم، وبذلك جمعت الآيتان النعي على الفريقين معا، وأثبتتا أنهم ما زالوا على الشاكلة ذاتها.[30]

وفي قوله تعالى:«وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُون»[البقرة:96] شاهد الالتفات في هذه الآية في قوله: «يعملون» قال أبو حيان:« وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ»: قرأ الجمهور يعملون بالياء ، على نسق الكلام السابق، وقرأ الحسن وقتادة والأعرج ويعقوب بالتاء، على سبيل الالتفات والخروج من الغيبة إلى الخطاب، وهذه الجملة تتضمن التهديد والوعيد». [31]

وجاءت هذه الآية في سياق بيان حرص بني إسرائيل على الدنيا وكراهيتهم الموت، وما ذلك إلا بسبب ظلمهم وما قدمته أيديهم، وجاءت هذه الآية مؤكدة أن ضمير الغيبة في «يعملون» منسجم مع قوله تعالى عنهم في الآية السابقة«وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمين »[البقرة:95] الذي جاء على الغيبة أيضا، أما  الالتفات  في قراءة يعقوب«تعملون» فهو يفيد تركيز التهديد على اليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم وهو مناسب لما عرضه السياق السابق واللاحق من جرائم ارتكبها المعاصرون للنبي صلى الله عليه وسلم منهم كتكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن المنزل عليه وكعداوتهم لله تعالى[32] وفي قوله تعالى:« إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُون»[البقرة:159] وشاهد الالتفات هنا قوله تعالى«يلعنهم الله» وهو التفات من الكلام إلى الغيبة، يقول أبو حيان: وأبرز اسم الجلالة بلفظ الله على سبيل الالتفات، إذ لو جرى على نسق الكلام السابق، لكان أولئك يلعنهم ، لكن في إظهار هذا الاسم من الفخامة ما لا يكون في الضمير[33]

وفي قوله تعالى: «إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيم»[البقرة:160] شاهد الالتفات في هذه الآية هو قوله تعالى:«فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم» إذ لو جرى على الأصل لقيل: «فأولئك يتوب الله عليهم وهو التواب الرحيم»، وهذا التفات من الغيبة في قوله تعالى في الآية السابقة«أولئك يلعنهم الله» إلى التكلم، يقول الألوسي:« وأنا التواب الرحيم» عطف على ما قبله تذييل له، والالتفات إلى التكلم للافتنان مع ما فيه من الرمز إلى اختلاف مبدأ فعليه السابق واللاحق، «إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار» الموصول للعهد كما هو الأصل، والمراد به الذين كتموا، وعبر عن الكتمان بالكفر نعيا عليهم به، والجملة عديلة لما فيها إلا ولم تعطف عليها إشارة إلى كمال التباين بين الفريقين، والآية مشتملة على الجمع والتفريق، جمع الكاتمين في حكم واحد؛ وهو أنهم ملعونون، ثم فرق فقال: أما الذين تابوا فقد تاب الله تعالى عليهم وأزال عنهم عقوبة اللعنة، وأما الذين ماتوا على الكتمان ولم يتوبوا عنه فقد استقرت عليهم اللعنة ولم تزل عنهم»[34]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

[1] البرهان في علوم القرآن ،بَدْر الدِّينِ مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن بهادر الزركشي، لمحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الناشر: دار إحياء الكتب العربية عيسى البابى الحلبي وشركائه، 3/ 325

[2] نظم الدرر 1/32.

[3] لسان العرب، ابن منظور 2/84.

[4] المفردات في غريب القرآن،  أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهانى، المحقق: صفوان عدنان الداودي،  الناشر: دار القلم، الدار الشامية – دمشق بيروت، 1/743.

[5] البرهان في علوم القرآن 3/314. 

[6] الإتقان في علوم القرآن،3 /289.

[7] الإتقان في علوم القرآن، عبد الرحمن بن الكمال جلال الدين السيوطي 3/290.

[8] نفسه: 3/290.

[9] نفسه: 3/290.

 [10] نفسه: 3/290.

[11] نفسه: 3/290.

[12] نفسه: 3/289-290.

[13] مفاتيح الغيب، فخر الدين الرازي، الناشر: دار إحياء التراث العربي – بيروت 3/518.

[14] إعراب القرآن الكريم وبيانه، محي الدين الدرويش، 1/106.

[15] في ظلال القرآن، سيد قطب 1/71.

[16] مجلة دراسات علوم الشريعة والقانون، أثر السياق على أسلوب الالتفات المتعلق ببني إسرائيل في سورة البقرة، المجلد 44، العدد4، ملحق3، 2017 ، ص:246.

[17]  البحر المحيط، أبو حيان التوحيدي،1/372.

[18] تفسير أبي السعود ،إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم،أبو السعود العمادي محمد بن محمد بن مصطف، دار إحياء التراث العربي بيروت 1/114.

[19] البحر المحيط في التفسير 1/432.

[20] نفسه 1/455.

[21] إعراب القرآن وبيانه، 1/133.

[22] البحر المحيط1/457.

[23] التحرير والتنوير 1/582.

[24] إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم 1/122- مجلة دراسات علوم الشريعة والقانون، المجلد 44، العدد4، ملحق3، 2017 ،أثر السياق على أسلوب الالتفات المتعلق ببني إسرائيل في سورة البقرة، ص:248.

[25] البحر المحيط في التفسير، 1/457.

[26] التحرير والتنوير1/599.

[27] تفسير البحر المحيط 1/494.

[28] في ظلال القرآن 1/91.

[29] تفسير ابن كثير 1/219.

[30]مجلة دراسات علوم الشريعة والقانون، المجلد 44، العدد4، ملحق3، 2017 ، أثر السياق على أسلوب الالتفات المتعلق ببني إسرائيل في سورة البقرة، ص:250.

[31] البحر المحيط 1/506.

[32] مجلة دراسات علوم الشريعة والقانون، المجلد 44، العدد4، ملحق3، 2017 ، أثر السياق على أسلوب الالتفات المتعلق ببني إسرائيل في سورة البقرة، ص:250  .

[33] تفسير البحر المحيط 2/70.

[34] روح المعاني 1/427.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق