مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

لغة القرآن الكريم وبلاغته في تفسير ابن عادل الحنبلي -اللباب في علوم الكتاب- الحلقة السابعة

بسم الله الرحمن الرحيم

حمدا لله على نعمائه التي لا نملك لها جزاء، ولا منها اكتفاء، والصلاة والسلام الأتمّان الأكملان على شفيع الورى محمد النبي المصطفى، وعلى آله الكرام وصحابته ذوي السبيل المُقتفَى.

أما بعدُ، فهذه حلقة أخرى من حلقات النظر في كتاب «اللباب في علوم الكتاب» لابن عادل الحنبلي، نصرف القول فيها إلى أجلّ كتاب أُنزل في الناس يقرؤونه، وأبلغ كلام يسمعونه، كتاب الله تعالى الذي لا ترى فيه عوجًا ولا أَمْتا، مع التمثيل لذلك بما ورد في كتب الأئمة من حديثهم عن بلاغته وإعجازه، وتفصيله وإيجازه، والله الموفّق إلى الخير.

وقد وقع الاختيار على بعض الأساليب البلاغية في كتاب الله تعالى التي عرضَ لها الإمام ابن عادل في أثناء حديثه عن طرائق الخطاب القرآني، ومن تلك الأساليب أسلوب التجريد في الكلام، فقد تحدّث  المُفسّرون عنه في عدة مواضع استرعت اهتمامهم، فتوقفوا عندها وبيّنوا فائدتها. وقد جمعت من ذلك بعضَ ما ذكره ابن عادل في كتاب «اللُّباب» عند تفسيره لكلام الله تعالى.

وقبل ذلك نَعْرِضُ لِبَيَانِ معنى التجريد عند اللغويين أولا للوقوف على أصل الكلمة، ونذكر ما أورده ابن عادل من ذلك، ثم نختمه بتعريف بلاغيٍّ للتجريد لتكون صورته قد تبيّنت للقارئ بعد إيراد الأمثلة عليه:

قال ابن فارس في المقاييس: «الجيم والراء والدال أصل واحد، وهو بُدُوُّ ظاهر الشيء حيث لا يستُره ساتر»(1).

وفي الصحاح: «‌والتجريد: التعرية من الثياب. ‌وتجريد السيفِ: انتضاؤه. ‌والتَجريدُ: التشذيبُ»(2).

فيُؤخذ من ذلك أن معناه يدور حول خلع شيءٍ من شيءٍ، وهو ما أراده البلاغيون حين عقدوا له بابًا في مصنّفاتهم، إذ جعلوه راجعا إلى قصد المتكلم إلى أنْ يجرّد من نفسه نفسا أخرى يكلّمها، وأكثر ما يكون ذلك في ابتداء قصائدهم، وسنأتي على بعض ذلك في موضعه إن شاء الله حينما نفرغ من بعض ما أورده ابن عادل في هذا الشأن مما ورد في كتاب الله تعالى وحمَلوه على التجريد.

 قال ابن عادل، وذكر التجريد في كتابه عند قوله تعالى: {مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَميكَائلَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِين} [البقرة:98].

قال: «وبعضهم يُسمي هذا النوع ‌بالتجريد، كأنه يعني به أنه جَرَّدَ من العموم الأولِ بعضَ أفرادِه اختصاصا له بِمَزِيَّة»(3).

يُريد أن التخصيص بعد التعميم داخل في معنى التجريد عندهم، فإن الله تعالى حين ذكر الملائكة، وهو لفظ عام يشملهم جميعا، عقّبه بذكر جبريل وميكائيل، اختصاصا لهما عن سائر الملائكة، فكأنه جرّدهما من عموم لفظ الملائكة المتقدّم لاختصاصهما بمزايا ليست عند باقي الملائكة.

وعند قوله تعالى: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير}[البقرة:259].

وذلك في قراءة مَن قرأ: اعلَمْ، على أنه فعل أمر، على اختلافهم في الضمير، إما أنه راجع إلى الله تعالى، أو أنه راجع إلى هذا المارّ على القرية الذي ذُكر قبل ذلك في قوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا}، واعتبارُ ذلك أنه يتخرّج على التجريد إن كان الضميرُ عائدا على هذا المارّ، قال ابن عادل: «نزَّل نفسه منزلة الأجنبي، فخاطبها […] ويُسَمَّى هذا التجريدَ، يعني كأنه جَرَّد من نفسه مُخَاطَبا يخاطِبُه»(4).

أي: فكأن التقدير عندهم: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ اعْلَمَ انَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير}، بلفظ الأمر كما تقدّم تقديره، فيكون خطابهُ متوجّها إلى نفسه، كأنه جرّد منه نفسا أخرى فخاطبها بهذا الخطاب بعد اتِّعاظِه.

عند قوله تعالى على لسان نبيّه زكرياء عليه السلام: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِن آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم: 4-5].

وذلك في قراءة مَن قرأ: يرثني وارثٌ، قال ابن عادل: «جعلوه اسمَ فاعل، أي: يرثني به وارث، ويسمى هذا ‌التجريدَ في علم البيان»(5).

أي: جُرّد عن المذكور أولا مع أنه المُراد، وقال النيسابوري: «كأنه جرده عن منافيات الوارثية بأسرها»(6).

عند قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالَارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ  الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا}[الفرقان:59]، قال ابن عادل: «والمراد بـ«الخبير» الله تعالى، ويكون من ‌التجريد، كقولك: لقيت به أسدا، والمعنى: فاسأل اللهَ الخبيرَ بالأشياء»(7).

قال الزمخشري: « يريد: فَسَلْ عنه رجلا عارفا يخبرك برحمته. أو فَسَلْ رجلا خبيرا به وبرحمته. أو: فَسَلْ بسؤاله خبيرا، كقولك: رأيت به أسدا، أي: برؤيته. والمعنى: إن سألته وجدته خبيرا»(8).

وقد يكون تقدير الكلام عند النظر: فاسأل عنه خبيرا، من باب نيابة حروف الجر بعضها عن بعض، ومثل الآية المتقدمة قوله تعالى: {سَالَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِع}[المعارج:1]، وكقول القائل أيضا(9):

فَإِنْ تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فَإِنَّنِي /// خَبِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ

فقد قدّروا في الآيتين والبيت أن الباء وقعت بمعنى «عن»، والتقدير: فاسأل عنه خبيرا، سأل سائل عن عذاب واقع، فإن تسألوني عن النساء.

– في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنَ ازْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}[الفرقان:74].

وذلك في اعتبار ابن عادل أن «مِن» تكون للبيان تبَعا للزمخشري، قال ابن عادل: «وأنْ تكون للبيان، قاله الزمخشري وجعله من ‌التجريد، أي: هب لنا قرة أعين من أزواجنا، كقولك: رأيت منك أسدا»(10).

وقد قال الزمخشري في ذلك: « يحتمل أن تكون بيانية، كأنه قيل: هب لنا قرّة أعين، ثم بُيِّنَتِ القُرَّةُ وفُسِّرَتْ بقوله: من أزواجنا وذرياتنا. ومعناه: أن يجعلهم الله لهم قرّة أعين، وهو من قولهم: رأيت منك أسدا، أي: أنت أسد»(11).

– عند قوله تعالى: {فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَان}[الرحمن:37].

نقل فيه ابنُ عادل كلامَ الزمخشري في تقديرِ الآية على قراءة مَن قرأَ بالرفع، وهو قوله: «وقرأ عمرو بن عبيد: وردةٌ بالرفع، بمعنى: فحصلت ‌سماءٌ ‌وردةُ، وهو من الكلام الذي يُسمى التجريدَ، كقوله:

فَلَئِنْ بَقِيتُ لَأَرْحَلَنَّ بِغَزْوَةٍ /// تَحْوِي الْغَنَائِمَ أَوْ يَمُوتَ كَرِيمُ»(12).

يُريد بالكريم نفسَه، فجرّده كأنه مخاطَب آخر، ومثله قول لبيد بن ربيعة(13):

تَرَّاكُ أَمْكِنَةٍ إِذَا لَمْ أَرْضَهَا /// أَوْ يَعْتَلِقْ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا

بعض النفوس، أي: نفسه هو، يُريد: إما أن أترك أمكنة لم أرضها، أو أموت.

وقراءة الرفع في الآية تُخَرَّجُ على اعتبار «كان» تامّة لا تحتاج إلى خبر، فتكون حينئذ بمعنى: حصلت أو وقعت أو حدثت، ونحو ذلك، ومن ذلك قول حسّان بن ثابت رضي الله عنه(14):

فَإِمَّا تُعْرِضُوا عَنَّا اعْتَمَرْنَا /// وَكَانَ الْفَتْحُ وَانْكَشَفَ الغِطَاءُ

وبهذا يكون قد تبيّن ما أردناه من تخصيص هذه الحلقة للحديث عن أسلوب التجريد في الكلام العربي كما عرضَ له ابن عادل في كتابه اللُّباب، فنُورِدُ ما قاله بعض العلماء في تعريف التجريد لكي يكون القارئ على ع

قال الطيّبي: ‌«والتجريد ‌هو أن يُنْتَزَعَ من مُتَّصِفٍ بِصِفَةٍ آخرُ مِثْلُهُ فِيهَا مبالغةً لكمالِهَا فيه، نحو: رأيت بفلانٍ أسدًا، ولَقِيَنِي منه أسدٌ»(15).

وقال العيني في شرح الشواهد: «‌والتجريد ‌هو أن يُنتزَع من أمْرٍ ذِي صِفَةٍ أَمْرٌ آخرُ مِثْلُهُ في تلك الصفةِ مُبالغةً في كمالها، وهو على أنواع، منها نحو قولهم: لي مِن فلانٍ صَدِيقٌ حَمِيمٌ، أي: بَلَغَ من الصداقة حدًّا صَحَّ معه أن يُسْتَخْلَصَ مِنْهُ صَدِيقٌ آخَرُ، […] ومنها مخاطبة الإنسان غيره وهو يريد نفسه، كقول الأعشى:

وَدِّعْ هُرَيْرَةَ إِنَّ الرَّكْبَ مُرْتَحِلُ /// وَهَلْ تُطِيقُ وَدَاعًا أَيُّهَا الرَّجُلُ»(16).

وهذا النوع الأخير الذي ذكره العيني، أعني مخاطبة الإنسان غيرَه وهو يُريد نفسَه، لم يذكره ابن عادل، وهو كثير جدا في مطالع القصائد عند الشعراء لا يكادُ يُحصى، يبدؤون قصائدهم بضمير الخطاب، كأنهم يُخاطبون غيرهم، وهم يُريدون أنفسهم، وهذا عامّ عندهم لا يقتصر على عصر دون آخر، فقد استعمله الجاهليون ومَن أتى بعدهم إلى عصرنا هذا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

(1) مقاييس اللغة لابن فارس (جرد).

(2) الصحاح للجوهري (جرد).

(3) اللباب (2/315).

(4) اللباب (4/363).

(5) اللباب (13/10)، وهو عند الزمخشري في الكشاف (3/5)، وكذلك قاله أبو حيان في البحر المحيط (7/241).

(6) تفسير النيسابوري غرائب القرآن ورغائب الفرقان (4/470).

(7) اللباب (14/557).

(8) الكشاف للزمخشري (3/289).

(9) البيت لِعَلْقَمَةَ الفَحْل كما في شرح ديوانه (ص: 11)، والمفضليات (ص: 392).

(10) اللباب (14/575).

(11) الكشاف للزمخشري (3/296).

(12) انظر اللباب (18/334)، والكشاف للزمخشري (4/450).

   والبيت الذي ذكره الزمخشري من حماسيّةٍ لقَتادة بن مَسْلَمَةَ الحنفيّ، انظر شرح الحماسة للمرزوقي (ص: 765)، ويُروى: نحوَ الغنائم.

(13) انظر شرح ديوانه (ص: 313)، ويروى: أو يرتَبِطْ.

(14) انظر ديوانه بشرح البرقوقي (ص: 5).

(15) فتوح الغيب للطيّبي (9/571).

(16) المقاصد النحوية للعيني (4/1678).

المراجع والمصادر:

– البحر المحيط في التفسير، لأبي حيان الأندلسي، تحقيق صدقي محمد جميل، دار الفكر.

– تاج اللغة وصحاح العربية (الصحاح)، لإسماعيل بن حماد الجوهري، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين.

– شرح حماسة أبي تمام، للمرزوقي، تحقيق محمد عبد السلام هارون، دار الجيل.

– شرح ديوان حسان بن ثابت الأنصاري، لعبد الرحمن البرقوقي، المطبعة الرحمانية.

– شرح ديوان علقمة الفحل، للسيد أحمد صقر، المطبعة المحمودية.

– شرح ديوان لبيد بن ربيعة العامري، تحقيق إحسان عباس، طبعة وزارة الإرشاد والأنباء في الكويت.

– غرائب القرآن ورغائب الفرقان، لنظام الدين النيسابوري، تحقيق الشيخ زكريا عميرات، دار الكتب العلمية.

– فتوح الغيب في الكشف عن قناع الغيب (حاشية الطيّبي على الكشاف)، لشرف الدين الطيّبي، بإشراف د. محمد عبد الرحيم سلطان العلماء، طبعة جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم.

– الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، للزمخشري، دار الكتاب العربي.

– اللباب في علوم الكتاب، لابن عادل الحنبلي الدمشقي، تحقيق جماعة من المحققين، دار الكتب العلمية.

– المفضليات، للمفضل الضبي، تحقيق محمد عبد السلام هارون وأحمد محمد شاكر، دار المعارف.

– مقاييس اللغة، لابن فارس، تحقيق محمد عبد السلام هارون، دار الفكر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق