مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلاميةتراث

كتاب صورة الأرض للخوارزمي

عبد العزيز النقر

مركز ابن البنا المراكشي

بلغ محمد بن موسى الخوارزمي مبلغا من الشهرة، لدى العرب والغرب، لم يبلغه إلا قلة من علماء الحضارة العربية الإسلامية. ولا ريب في أن ذيوع صيته راجع، في جزء كبير منه، إلى عمله الرياضي الموسوم بـ”كتاب الجبر والمقابلة”. فهذا الكتاب لا يمثل فقط عملا “تأسيسيا” لعلم الجبر، بل إنه مارس تأثيرا كبير جدا في أعمال الرياضيين المعاصرين له واللاحقين عليه. أما عن تأثيره في الغرب اللاتيني، فيكفي دلالة عليه أن الكتاب قد ترجم، خلال القرن الثاني عشر الميلادي، ثلاث مرات. لكن، يبدو أن الأهمية البالغة التي اكتساها هذا المصنف الرياضي قد حجبت جوانب علمية أخرى تميز بها الخوارزمي. فهذا الأخير، لم يكتب أو ينشغل فقط بالرياضيات بالمعنى الضيق للكلمة، بل كانت له أيضا اهتمامات علمية أخرى، شأنه في ذلك شأن جل علماء الحضارة العربية الذين تميزوا ببعد موسوعي وسم تكوينهم وتأليفهم على حد سواء.

   ولد الخوارزمي بمدينة بغداد (حوالي 780م) لأسرة تعود أصولها إلى منطقة خوارزم. تلقى تكوينه العلمي بهذه المدينة التي كانت تمثل آنذاك مركزا من أهم مراكز العلم والثقافة في العالم بأسره. ويظهر من خلال أعماله التي وصلتنا أنه درس في فترة تكوينه العلمي ثلاثة مجالات على الأقل، وهي : علم الفلك، الرياضيات (خصوصا علم الحساب)، إضافة إلى تلقي تكوين متين في العلوم الفقهية (خصوصا الفقه الحنفي). اشتغل الخوارزمي بالمؤسسة الشهيرة المسماة بـ”بيت الحكمة”، والتي كانت – حسب بعض الباحثين -عبارة عن مؤسسة علمية مخصصة للترجمة والبحث العلمي. إضافة إلى ذلك، فقد ضمت مكتبة (خزانة) ضخمة يُقدر عدد كتبها – حسب البعض – بحوالي 30000 كتاب.

كما قلنا أعلاه، فالخوارزمي لم يؤلف في ميدان الرياضيات فحسب، بل إنه حرّر أيضا مصنفات في الفلك والجغرافيا. وبخصوص هذا المبحث الأخير، يمكن القول إن كتابه المعنون بـ”صورة الأرض” هو أهم عمل له في هذا المجال (ورد هذا الكتاب عند المؤرخ أبي الفداء بعنوان آخر هو “رسم الربع المعمور”).

يُعبّر هذا المصنف عن بداية مرحلة جديدة في مجال الجغرافيا. يعمل فيه الخوارزمي على إعادة ترتيب المادة الجغرافية الواردة لدى بطلميوس مُدخلا عليها، في نفس الوقت، عدة تعديلات والكثير من الإضافات. يقول المستشرق الروسي إغناطيو سكراتشكوفسكي، في كتابه المميز “تاريخ الأدب الجغرافي العربي” (ص. 102)، معلقا عن جانب من جوانب العمل الجغرافي للخوارزمي: “وإذا كان الخوارزمي قد أبدى الكثير من الجرأة العلمية في تقسيمه الجديد للأقاليم فإنه قد أظهر أيضا الكثير من الأصالة والابتكار في خارطاته التي تختلف اختلافا تاما عن الخارطات المعروفة لنا من العهود التالية. وتقوم أهميتها قبل كل شيء على أنها تمثل أقدم ما وصل إلى أيدينا من آثار الكارتوغرافيا العربية، ولككنا بكل أسف نفتقر إلى الوقائع والمعطيات الضرورية لنتمكن من الحكم عليها”. لكن هذا المستشرق الروسي يستدرك بعد ذلك مباشرة بالقول : “ولدينا من المبررات ما يجعلنا نفترض أن رسالة ‘صورة الأرض’ إنما تمثل شرحا فقط لخارطة رسمت على طريقة بطلميوس، وهذه الخارطة للأسف الشديد لم تصل إلينا […].”

على عكس بعض الكتب الجغرافية الأخرى التي تنتهج الوصف النثري، فإن الخوارزمي اختار أن يعرض مضمون كتابه بواسطة جداول. ولا شك في أن ذلك راجع إلى تكوينه العلمي في مجالي الفلك والرياضيات. تهدف هذه الجداول إلى تقديم المواقع الجغرافية الخاصة بخمسمائة وسبعة وثلاثين مدينة تتوزع على سبعة أقاليم. كما عمل الخوارزمي أيضا على تحديد مواقع الجبال الموجودة ضمن هذه الأقاليم السبعة، ثم عرض بعد ذلك مواقع “البحار وجزائرها” نسبة إلى خطي الطول والعرض، حيث قدم “البحار” الموجودة على الكرة الأرضية مع الإشارة إلى خصائص الجزر الموجودة في هذه البحار. بعد ذلك، يتطرق إلى “المواضع التي تكتب فيها حدود البلدان” محددا إيّاها بالقياس إلى خط الطول وخط العرض. كما يعرض أيضا، في الباب الموالي، بعض المواضع التي تنبع منها الأنهار، وهو ما يسميه بـ”العيون”. ليقوم بعد ذلك بجرد لأهم الأنهار و”العيون” الموجودة في كل إقليم من الأقاليم السبعة كل على حدة.

ينبني التصور الجغرافي لدى الخوارزمي على بعض المسلمات الجغرافية التي انتشرت إبّان العصرين القديم والوسيط، ولا ريب في أن تقدم المعرفة العلمية (خصوصا في مجال علم الخرائط La cartographie) قد جَبّ كثيرا من تلك التصورات والمسلمات. لكن، لا ينفي هذا بالضرورة إمكانية الاستفادة من مصنفات الجغرافيين العرب من الناحية التاريخية وما يشاكلها من أبعاد.

Science

ذ. عبد العزيز النقر

حاصل على شهادة الماستر في الفلسفة

باحث بمركز ابن البنا المراكشي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق