وحدة المملكة المغربية علم وعمرانأعلام

 بعض مظاهر التسامح والتعايش بين المسلمين والمسيحيين في رحلة ابن جبير

الدكتور مصطفى مختار

باحث بمركز علم وعمران

الحلقة الثانية

 يظهر أن التعايش بين مسيحيي جزيرة صقلية والأقلية الإسلامية بها أسهم في تشكل بعض حقوق هذه الأقلية، بشكل عملي. ولعل ذلك مثّل بعض إرهاصات حقوق الإنسان الحالية، بشكل أو بآخر.

 حقوق الأقلية المسلمة في جزيرة صقلية: 

 أشار محمد ابن جبير ضمنيا إلى بعض الحقوق المخولة عمليا للمسلمين الصقليين التي من بينها حق التدين. ففي إحدى المدن الصقلية “ربض كبير […] فيه المساجد” [12]. وفي مدينة أطرابنش الصقلية مساجد للمسلمين[13]. وفي بلدة علقمة الصقلية “السوق والمساجد“[14].

 وكان في مدينة بلارمة مساجد المسلمين[15]، فهي “كثيرة لا تحصى، وأكثرها محاضر لمعلمي القرآن“[16]. وظل لهم “بهذه المدينة رسم باق من الإيمان، يعمرون أكثر مساجدهم ويقيمون الصلاة بأذان مسموع“[17]. و”يصلون الأعياد بخطبة دعاؤهم فيها للعباسي، ولهم بها قاض يرتفعون إليه في أحكامهم، وجامع يجتمعون للصلاة فيه ويحتفلون في وقيده“، خلال شهر رمضان الفضيل[18].

 ووجد ابن جبير خارج هذه المدينة قصرا، من عهد حكم المسلمين على جزيرة صقلية، “في أعلاه مسجد من أحسن مساجد الدنيا بهاء، مستطيل ذو حنايا مستطيلة، مفروش بحصر نظيفة، لم يُرَ أحسن منها صنعة، وقد عُلّق فيه نحو الأربعين قنديلا من أنواع الصُّفر والزجاج“. قال: “فبتنا في هذا المسجد أحسن مبيت وأطيبه، وسمعنا الأذان وكنا قد طال عهدنا بسماعه. وأكرمنا القوم الساكنون فيه. وله إمام يصلي بهم الفريضة والتراويح” خلال شهر رمضان الأبرك[19].

ويصف ابن جبير حق مسلمي مدينة أطرابنش الصقلية في صيام رمضان، وحقهم في صلاة عيد الفطر، “بشهادة ثبتت عند حاكم أطرابنش المذكورة بأنه أبصر هلال شهر رمضان ليلة الخميس، ويوم الخميس، ويوم الخميس كان صيام أهل مدينة صقلية المتقدم ذكرها، فعيّد الناس على الكمال بحساب يوم الخميس المذكور“. قال: “وكان مصلانا في هذا العيد المبارك بأحد مساجد أطرابنش المذكورة مع قوم من أهلها امتنعوا من الخروج إلى المصلى لعذر كان لهم. فصلينا صلاة الغرباء، جبر الله كل غريب إلى وطنه، وخرج أهل البلد إلى مصلاهم مع صاحب أحكامهم وانصرفوا بالطبول والبوقات“[20].

 وكان لبعض مسلمي جزيرة صقلية حق جزئي في نشر الإسلام داخل قصر العاهل غليام[21] الذي حين تعرضت الجزيرة المذكورة للزلازل، خلال حكمه، “كان يتطلع في قصره فلا يسمع إلا ذاكرا لله ولرسوله من نسائه وفتيانه، وربما لحقتهم دهشة عند رؤيته، فكان يقول لهم: ليذكر كل أحد منكم معبوده ومن يدين به؛ تسكينا لهم“[22].

 ومن عجيب شأن الفتيان المسلمين العاملين بقصر العاهل الصقلي “أنهم يحضرون عند مولاهم فيحين وقت الصلاة فيخرجون أفذاذا من مجلسه فيقضون صلاتهم” سترا من الله[23].

 وإلى جانب حق التدين المخول لمسلمي صقلية، أشار ابن جبير ضمنيا إلى حق ثانٍ هو حق السكن. ففي ضواحي مدينة بلارمة قصر قديم للمسلمين “لم يزل ولا يزال، بفضل الله، مسكنا للعباد منهم، وحوله قبور كثيرة للمسلمين: أهل الزهادة والورع“[24].

 وفي المدينة نفسها “أرباض قد انفرد” المسلمون “فيها بسكناهم عن النصارى“[25]. وفيها “سكنى الحضريين من المسلمين، […]. وسائر المسلمين بضياعها وجميع قراها، وسائر مدن” صقلية “كسرقوسة وغيرها“[26]. وفي مدينة شفلودي تسكن “طائفة من المسلمين“[27]. وجزء من سكان مدينة أطرابنش الصقلية مسلمون[28]. وفي الطريق إلى بلدة علقمة الصقلية ضِيّاع سكانها كلهم مسلمون[29].

وبالإضافة إلى حق السكن، أشار ابن جبير ضمنيا إلى حق ثالث هو حق العمل في الفلاحة حيث المسلمون لدى المسيحيين الصقليين “على أملاكهم وضياعهم“[30] أو في التجارة، إذ أسواق المسلمين “في الأرباض كثير“[31]. ومن بينها أسواقُهم بأرباض مدينة بلارمة حيث هي “معمورة بهم وهم التجار فيها“[32].

وكان للمسلمين حق الاشتغال بالحرف المختلفة حيث هم، في مدينة مسينة، “من ذوي المهن“[33]، بل “إن الناظر في مطبخة” غليام الصقلي “رجل من المسلمين“[34].  وارتباطا بحق العمل كان للمسلمين على المشغلين المسيحيين حق احترام آدميتهم. حيث “حسنوا السيرة في استعمالهم واصطناعهم“[35].

يتبع                              

الإحالات:

[12] رحلة ابن جبير، ص254.

[13] نفسه، ص259.

[14] نفسه، ص258.

[15] نفسه، ص251.

[16] نفسه، ص257.

[17] نفسه، ص256.

[18] نفسه، ص257.

[19] نفسه، ص255.

[20] نفسه، ص259- 260.

[21] نفسه، ص252.

[22] نفسه، ص252.

[23] نفسه، ص253.

[24] نفسه، ص255.

[25] نفسه، ص256.

[26] نفسه، ص251.

[27] نفسه، ص254.

[28] نفسه، ص259.

[29] نفسه، ص258.

[30] نفسه، ص250.

[31] نفسه، ص251.

[32] نفسه، ص256.

[33] نفسه، ص251.

[34] نفسه.

[35] نفسه، ص250.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق