وحدة المملكة المغربية علم وعمرانفنون وعمرانغير مصنف

ضريح أبي بكر بن العربي بفاس : من التاريخ العلمي إلى الاستثمار الثقافي

ليس الغرض من هذه المقالة التعريف بالعلامة أبي بكر بن العربي المعافري المتوفى سنة 543هـ لأنه أشهر من علم، قصدي هو التنبيه على الأهمية الحضارية لهذا الحرم العلمي الديني الذي تتميز به مدينة فاس التي يمكن القول أن كثير من أهل العلم والصلاح الذين أقبروا فيها لهم فضل كبير في تكوين الهوية الثقافية والشخصية الحضارية لمغربنا المبارك بفضل من الله..
قدر لابن العربي أن يرى سقوط دولة آل عباد على يد يوسف بن تاشفين في أول شبابه، وشاء الله أن يشهد انهيار الدولة المرابطية على يد الموحدين – في أخريات حياته؛ وعندما أخذت وفود الأندلس تتهيأ لتقديم البيعة إلى الدولة الجديدة، بادر وفد إشبيلية إلى تقديم الولاء والطاعة، تحت رئاسة عالمها الأكبر أبي بكر بن العربي، فحضر إلى مراكش في حدود ذي القعدة عام 542هـ، وكان الوفد مكونا من علماء وأعيان وفضلاء وأدباء، وتذكر بعض المصادر بيانا بأسماء هذا الوفد : القاضي أبو بكر بن العربي، الخطيب أبو عمر ابن الحجاج، الكاتب أبو بكر بن الجد، أبو الحسن الزهري، أبو الحسن بن صاحب الصلاة، أبو بكر بن السجرة، الباجي، الهوزني، ابن القاضي شريح ، عبد العزيز الصدفي، ابن السيد، ابن الزاهر (انظر أعلام الأندلس: القاضي أبو بكر ابن العربي (468-543 ه) مجلة دعوة الحق، عدد 182). هكذا وفد على المغرب في بدايات الدولة الموحدية أكابر أعلام الأندلس الذين سنجد فيما بعد علومهم تنصهر في مسيرة التعليم بجامعة القرويين وملحقاتها بفاس ومنها إلى حواضر وبوادي المغرب حتى ليصعب –من زاوية التحليل الأنثربولوجي- التمييز بين إسهام المغاربة والأندلسيين في تكوين الشخصية العلمية والثقافية للمغرب، ولا شك أن هذا عنصر إغناء ثقافي وفكري نستحضره ونحن برحاب حرم أبي بكر بن العربي بفاس…

على مقربة من فاس، أدركت الإمام ابن العربي المنية، وفي”(مغلية” أو”(رأس الما”) – لفظ أنفاسه الأخيرة ليلة يوم الخميس، لثلاث خلت في ربيع الأول سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة (543هـ)، وحمل ميتا على الأعناق إلى فاس، حيث دفن من الغد خارج باب المحروق، بتربة القائد مظفر، وصلى عليه صاحبه أبو الحكم بن حجاج –رحمه الله، وقبره مزارة مشهورة بفاس، بنت عليه قبة حسنة حفيدته خناثة بنت بكار الصحراوية، زوجة المولى إسماعيل العلوي رحمهما الله..

إن الرمزية الكبيرة لأضرحة كبار العلماء والصلحاء في المدن والبوادي المغربية تجعلنا نتساءل عن مدى استثمارنا الثقافي والفكري والإنساني لها فيما يمكن أن يذكر مغاربة اليوم بتاريخهم الفكري المجيد وبمدى عمق التاريخ العلمي للمغرب بحيث لا يمكن تصور تشكل الحضارة المغربية بجميع روافدها دون اعتبار قضية العلم والتعليم القضية الوجودية الأولى، فبدل إهمال العديد من مزارات ومدافن العلماء وجب الاعتناء بها والتعريف بتاريخها وأمجادها ومكتباتها ومخطوطاتها واستثمارها في ميادين العلم والفكر والثقافة، فأنا أتخيل مثلا لقاء علميا ثقافيا يخصص للتاريخ العلمي للمغرب وكيفية بعث التألق العلمي المغربي من جديد، يقام سنويا في رحاب مزار أبي بكر بن العربي أو لسان الدين بن الخطيب بفاس أو أبي شعيب السارية بآزمور أو مولاي العربي الدرقاوي أو أبي يعزى يلنور في إطار أعمال علمية ثقافية جهوية في المدن والبوادي تلتزم بها الجهات المعنية بما يمكن اعتباره واجبا ثقافيا وطنيا مع الالتزام بنشر أعمال الملتقيات ووضعها رهن إشارة الطلاب والباحثين والناس عموما..
أود أن أشير كذلك إلى أن العلامة المؤرخ سيدي عبد الهادي التازي رحمه الله مدفون بضريح أبي بكر بن العربي وفق رغبته، وهو ما يضفي على المقام قيمة رمزية أخرى تتمثل في الاستمرارية العلمية المباركة بين عصري ابن العربي والتازي، وهذه مسألة شديدة الأهمية من زاوية تاريخ الفكر، وفد أخبرني قيم الضريح في إحدى زياراتي له أن المرحوم التازي كان يتردد على أبي بكر بن العربي منذ ما يقرب من عشرين سنة وفي مرة من المرات نظر سيدي عبد الهادي إلى القيم وهو يشير إلى مكان معين قرب مدفن الإمام قائلا : “هذه فيلا آخرتي”، رحمه الله رحمة واسعة ونفعنا بعلمه..


مرقد الإمام أبي بكر بن العربي المعافري

مرقد العلامة المؤرخ سيدي عبد الهادي التازي رحمه الله


مخطوط محفوظ في خزانة الضريح

مخطوط محفوظ في خزانة الضريح

جانب من زخرفة قبة الضريح

مسألة أخرى أود الإشارة إليها في عجالة لأني أنوي التفصيل فيها في حلقة مقبلة تتعلق بالقيمة الفنية والزخرفية لمعظم الأضرحة بالمغرب، فمعظم عناصر الفن المغربي الأندلسي موجودة فيها مع إضافات نوعية قلما نجدها في العمارة التقليدية، خصوصا زخرفة القباب، وهو ما وقفت عليه في ضريح أبي بكر بن العربي، ومن شأن الاعتناء بالجانب الفني المعماري داخل مزارات العلماء والصلحاء أن يضيف عناصر علمية وتحليلية ستساهم في تطوير تاريخ الفنون ببلادنا، رحم الله الإمام بن العربي ونفعنا بعلمه…

د. جمال بامي

  • رئيس مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلامية، ومركز علم وعمران بالرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق