مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامةغير مصنف

أنموذجات من الوقفات المنتقدة على الإمام أبي عبد الله الهبطي وتوجيهها (11) -الجزء الثاني-

وأما علماء التفسير فهذه أقوالهم:

قال أبو جعفر الطبري رحمه الله: «وقال ءاخرون: بل معنى ذلك: كان هؤلاء المحسنون قبل أن تفرض عليهم الفرائض قليلا من الناس، وقالوا: الكلام بعد قوله: (إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَٰلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُواْ قَلِيلاٗ) مستأنف بقوله: (مِنَ اَ۬ليْلِ مَا يَهْجَعُونَ) فالواجب أن تكون (مَا) على هذا التأويل بمعنى الجحد.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عبيد، عن الضحاك، في قوله: (إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَٰلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُواْ قَلِيلاٗ) مستأنف بقوله: (مِنَ اَ۬ليْلِ مَا يَهْجَعُونَ)، يقول: إن المحسنين كانوا قليلا، ثم ابتدئ فقيل: (مِنَ اَ۬ليْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالَاسْح۪ارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)، كما قال: (وَالذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِۦٓ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اُ۬لصِّدِّيقُونَ)، ثم قال: (وَالشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمُۥٓ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ).

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الزبير، ن الضحاك بن مزاحم: (كَانُواْ قَلِيلاٗ مِّنَ اَ۬ليْلِ مَا يَهْجَعُونَ) قال: كانوا من الناس قليلا.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن الزبير بن عدي، عن الضحاك بن مزاحم: (كَانُواْ قَلِيلاٗ مِّنَ اَ۬ليْلِ مَا يَهْجَعُونَ) قال: كانوا قليلا من الناس إذ ذاك.

حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (كَانُواْ قَلِيلاٗ مِّنَ اَ۬ليْلِ مَا يَهْجَعُونَ)، قال الله: (إِنَّ اَ۬لْمُتَّقِينَ فِے جَنَّٰتٖ وَعُيُونٍ … ) إ لى (مُحْسِنِينَ) (كَانُواْ قَلِيلاٗ)، يقول: المحسنون كانوا قليلا، هذه مفصولة، ثم استأنف فقال: (مِنَ اَ۬ليْلِ مَا يَهْجَعُونَ)»(1).

وقال أبو حيان رحمه الله: «وقال الضحاك: (كَانُواْ قَلِيلاٗ)، أي: في عددهم، وثَمَّ خبر كان، ثم ابتدأ: (مِنَ اَ۬ليْلِ مَا يَهْجَعُونَ)، فـ(مَا) نافية، و(قَلِيلاٗ) وقْفٌ حسن، وهذا القول فيه تفكيك للكلام، وتقَدُّم معمول العامل المنفي بما على عامله، وذلك لا يجوز عند البصريين، ولو كان ظرفا أو مجرورا. وقد أجاز ذلك بعضهم، وجاء في الشعر قوله:

إذا هي قامت حاسرا مشمَعِلَّة   ***   نخيبَ الفؤادِ رأسها ما تَقنَّع

فقدم “رأسها” على “ما تقنع”، وهو منفي بما»(2).

وقال السمين رحمه الله: «قوله: (كَانُواْ قَلِيلاٗ): فيه أوجه؛ أحدها: أن الكلام تم على (قَلِيلاٗ)، ولهذا وقف بعضهم على (قَلِيلاٗ) ليؤاخيَ بها قوله تعالى: (وَقَلِيلٞ مَّا هُمْ)، (وَقَلِيلٞ مِّنْ عِبَادِيَ اَ۬لشَّكُورُ)، ويبتدئ: (مِنَ اَ۬ليْلِ مَا يَهْجَعُونَ)، أي: ما يهجعون من الليل، وهذا لا يظهر من حيث المعنى ولا من حيث الصناعة؛ أما الأول فلا بد أن يهجعوا، ولا يتصور نفي هجوعهم، وأما الصناعة فلأن ما في حيز النفي لا يتقدم عليه عند البصريين؛ لأن (مَا) لا يعمل ما بعدها فيما قبلها عند البصريين، تقول: زيدا لم أضرب، ولا تقول: زيدا ما ضربت، هذا إن جعلتها نافية، وإن جعلتها مصدرية صار التقدير: كان هجوعهم من الليل قليلا، ولا فائدة فيه؛ لأن غيرهم من سائر الناس بهذه المثابة»(3).

وقال الألوسي رحمه الله: «وحكى الطيبي أنه إما منصوب على التبيين أو متعلق بفعل يفسره (يَهْجَعُونَ)، وجوز أن يكون (مَا يَهْجَعُونَ) على ذلك الاحتمال بدلا من اسم “كان”، فكأنه قيل: كان هجوعهم قليلا، وهو بعيد، وجوز في (مَا) أن تكون نافية، و(قَلِيلاٗ) منصوب، ب‍(يَهْجَعُونَ)، والمعنى: كانوا لا يهجعون من الليل قليلا ويحيونه كله، ورواه ابن أبي شيبة وأبو نصر عن مجاهد، ورده الزمخشري بأن (مَا) النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها؛ لأن لها صدر الكلام، وليس فيها التصرف الذي في أخواتها كـ”لا”، فإنها قد تكون كجزء مما دخلت عليه نحو:عوتب بلا جرم، و”لم” و”لن” لاختصاصهما بالفعل كالجزء منه، وأنت تعلم أن منع العمل هو مذهب البصريين، وفي شرح الهادي أن بعض النحاة أجازه مطلقا، وبعضهم أجازه في الظرف خاصة للتوسع فيه، واستدل عليه بقوله:

ونحن عن فضلك ما استغنينا

نعم! يرد على ذلك أن فيه -كما في الانتصاف- خللا من حيث المعنى، فإن طلب قيام الليل غير مستثنى منه جزء للهجوع، وإن قيل غير ثابت في الشرع ولا معهود، اللهم إلا أن يدعيَ أن من ذهب إلى ذلك يقول: بأنه كان ثابتا في الشرع، فقد أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن عطاء أنه قال في الآية: كان ذلك إذْ أمروا بقيام الليل كله، فكان أبو ذر يعتمد على العصا، فمكثوا شهرين ثم نزلت الرخصة: (فَاقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ).

وقال الضحاك: (كَانُواْ قَلِيلاٗ): في عددهم، وتم الكلام عند (قَلِيلاٗ) ثم ابتدأ: (مِنَ اَ۬ليْلِ مَا يَهْجَعُونَ) على أن (مَا) نافية وفيه ما تقدم مع زيادة تفكيك الكلام»(5).

وقال محمد بن عبد السلام الفاسي رحمه الله: «فهما تفسيران، والآية تحتملهما، والمدح كما يصح بقلة نومهم، يصح بقلة عددهم، فإن الأشراف يعدون بالأصابع، والمتقون عُشرُ عشرِ العشر، أو مِثْلُ عشرِ عشرِ العشر، انظر إلى بَعْثِ النار، فعلى هذا يكون الهبطي وقف على (قَلِيلاٗ) رائياً الإخبار عنهم بقلة عددهم، تبعا لمن رءا ذلك، ولا يفوت عليه المدح بقلة الهجوع؛ لأن (مِنَ اَ۬ليْلِ مَا يَهْجَعُونَ) يفيده، فيحصل لهم الصفتان؛ قلة العدد وقلة الهجوع، ويلزم في تقديم (مِنَ اَ۬ليْلِ) على (مَا) الأمر اللازم لغيره فيقال: إن (مِنَ اَ۬ليْلِ) خبر مبتدإ محذوف على طريقة التبيين؛ أي: إرادتي (مِنَ اَ۬ليْلِ) ويكون (يَهْجَعُونَ) على هذا غير عامل فيه، وهو مستأنف، وقدم البيان للفاصلة، أو (مِنَ اَ۬ليْلِ) يتعلق  بـ(يَهْجَعُونَ) على قول ابن كَيسان والكوفيين: إن (مَا) لا صدر لها، أو اغتفر التقدم لكونه جارا ومجرورا لتوسعهم فيه، إلا أن أبا حيان قال: لا يجيز البصريون تقديم معمول العامل المنفي على النافي وإن كان ظرفا أو جارا ومجرورا، وانظر هل يغتفر ذلك بشفاعة الفاصلة، وجملتا (كَانُواْ قَلِيلاٗ) و(مَا يَهْجَعُونَ) مستأنفتان، وليستا خبرا ثانيا، وثالثا لقوله (إِنَّهُمْ).

هذا ما ظهر لي في توجيه ما فعله أبو عبد الله الهبطي، وأنا أعوذ بالله أن أكون في ذلك من الأخسرين أعمالا، والمتسلطين على كتاب الله، والمتلاعبين به، والله سبحانه أعلم»(6).

فأبو عبد الله الهبطي -رحمه الله- اختار أحد الوجهين الذي قيل فيه تام، وسلفه فيه إمام كبير من أئمة البصرة، جمع بين القراءة والعربية، وبز فيهما أقرانه، فبطل قول الشيخ عبد الله بن الصديق -رحمه الله- في المنحة: «ووقَفَ الهبطي على (قَلِيلاٗ)، وهو وقف باطل ممنوع، ولست أدري ما الذي دعاه إليه»(7).

وقد رأينا ما دعاه إليه، والحمد لله رب العالمين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تفسير الطبري: 22/410-412.

(2) البحر المحيط: 9/551.

(3) الدر المصون: 10/45.

(5) روح المعاني: 14/9.

(6) الأقراط والشنوف: (لوحة:35).

(7)منحة الرؤوف المعطي: 24.

Science

 د. محمد صالح المتنوسي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق