مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامةغير مصنف

وجه المخالفة بين الخبرين بالتأنيث والتذكير في آيتي الأنعام والتكوير: “إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ” و “إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ” من جهود علماء الغرب الإسلامي في توجيه متشابه الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم   

          من قواعد النحو المقررة عندهم  ضرورة المطابقة بين المبتدإ والخبر في الجنس؛ أي التذكير والتأنيث،  و في العدد؛  إفرادا وتثنية وجمعا،  وفي التعريف والتنكير، والنظم القرآني حافظ على هذه المطابقة في أغلب موارده، وإذا غاير الخبر المبتدأ في المطابقة فيكون عندهم مؤولا بما يوافق المبتدأ، إذ له الحاكمية في التبعية، ويكون ذلك لغايات بلاغية نص عليها أرباب البيان، مما يضفي جمالية على السبك القرآني، أو يكسب الأسلوب معنى إضافيا زائدا على رصف النظم، ومن مثل المغايرة بينهما قوله تعالى: “هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ” [الأعراف:203]، حيث جاء الإخبار عن اسم الإشارة المفرد المذكر بجمع المؤنث المنكسـر؛ باعتبار تعدد بصائره؛ إذ هو مجموع براهين ساطعة، وحجج دامغة، وأخبار صادقة، وتوجيهات هادية، وقصص ناطقة..فهو في قوة إفرادها واحدة واحدة، أو هو على حذف مضاف فيكون موافقا للمبتدأ،  قال أبو حيان:  “هذا بصائر من ربكم أي هذا الموحى إلي الذي أنا أتبعه لا أبتدعه وهو القرآن؛ بصائر، أي: حجج وبينات يبصر بها وتتضح الأشياء الخفيات، وهي جمع بصيرة، كقوله: ” عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ” [يوسف:108]أي: على أمر جلي منكشف، وأخبر عن المفرد بالجمع لاشتماله على سور وآيات، وقيل: هو على حذف مضاف أي ذو بصائر.”[1]

وكل ما أتى من قبيل ذلك فيخرَّج على المطابقة تأويلا كما سبق، أومشاركة في الاستعمال، كقوله تعالى “قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ” [آل عمران:40] حيث جاء الإخبار عن المبتدإ المؤنث “امرأتي” بما ظاهره التذكير وهو “عاقر”، فوجهوا المخالفة فيه بإن صيغة فاعل مما يستوي فيه المذكر والمؤنث، ومثله فعيل كقتيل وجريح، ومفعال نحو؛ معطار ومقوال، و كذا جميع ما نصوا عليه من الصيغ التشاركية في الباب.

      فإذا كان الأمر على ما وصف، فإن إحدى آيتي العنوان، وهي قوله تعالى في سورة الأنعام “إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ” تكون من هذا الباب، حيث وجهوا المغايرة فيها بين ضمير المبتدأ المفرد المذكر “هو” و خبره المؤنث ” ذكرى” بتعدد معنى الذكرى، وبتعدده صار جمعا، والجموع تؤنث، كما قال الزمخشري:

إن  قومي تجمعوا              وبقتلي تحدثوا

لا أبالي بجمعهم               كل جمع مؤنث

        أما آية التكوير فلم يتقدمها ما يوجب العدول عن النمط المعتاد في الاستعمال، فجرت على معهود النظم، ” إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ”، لكنهما اندرجا بهذه المغايرة في دائرة متشابه الكتاب، وهو ما حدا بابن الزبير الغرناطي أن يقدح سرج الفكر غوصا به لاستخراج الفروق فقال رحمه الله:

“الآية الخامسة عشرة: قوله تعالى: “إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ” [الأنعام:90] وفى سورة التكوير: “إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ” [التكوير:27] للسائل أن يسأل عن وجه ورود الخبر بلفظ التأنيث في الأولى والتذكير في الثانية، مع تذكير المبتدأ فيهما؟

             والجواب عنه والله أعلم، أن آية التكوير لما تقدمها القَسم على القرآن بقوله تعالى:” فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ” [الآية:15] إلى ما وقع القسم به، ثم ورد ضمير المقسم عليه في قوله: “إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ” [الآية:19]  أي: إن القرآن لقول رسول كريم، والمراد به جبريل عليه السلام، ثم أتبع بوصفه إلى قوله “ثَمَّ أَمِينٍ ” [الآية:21] ثم قيل “وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ” [الآية:22] والإشارة إلى محمد صلى الله عليه وسلم فنزهه تعالى عن قول أعدائه ونسبتهم إياه إلى الجنون، ثم وصفه تعالى بأنه على الغيب الموحى به إليه، والمأمون على تبليغه غير متهم ولا بخيل؛ على القراءتين فقال: “وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ ” [الآية:24] ثم أعقب بقوله تعالى: ” وَمَا هُوَ ” أي وما القرآن “بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ “[الآية:25]  فجرت هذه الضمائر على التذكير على ما يجب، ثم أُتبع بقطع تعلقهم فقيل: ” فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ ” [الآية:26]، أي: إن كل ما رمتم من رميه عليه الصلاة والسلام به من السحر والجنون والتقول لا يقوم شيء من ذلك على ساق، ولا يتوهم ذلك ذو عقل سليم، ثم قال: ” إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ” [الآية:27] والضمير للقرآن، ولا يمكن وروده  على خلاف هذا لمنافرة التناسب ومباعدة التلاؤم.[2]

وأما آية الأنعام فتقدمها قوله تعالى: ” أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ “[الأنعام:89] فنوسب بين قوله: ” إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى” [الآية:90]  وبين ما تقدم، فكأن التقدير: إن هو، أي: الأمر أو المراد المقصود،  أو ما ذكر من الكتاب والحكم والنبوءة إلا ذكرى،  فناسبه ذكرى هنا لما تقدم بيانه، ولم يتقدم هنا ما يستدعى لفظ التذكير ويناسبه، فجاء كل على ما يجب والله أعلم.

[1] البحر المحيط، 5/261.

[2] ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل، في توجيه متشابه اللفظ من التنزيل، 1/330-331.

Science

د.عبد الجليل الحوريشي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق