مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

استجماع العدة لاغتنام أيام العدة

لقد أتم الله علينا النعمة، فبلغنا شهر الصفح والتوبة، وأُقدرنا فيه على توقيع الزلفة والقربة، فله الحمد والمنة، فكم من انتقل من أحبابنا وأقاربنا إلى دار البقاء، فلم يمكن من اغتنام موسم البركات، وكم من مصـروف عن الإسراع إلى المكرمات وهو على قيد الحياة، فلنحمد الله ونشكره أن أنسأ لنا في الأجل، ولنستمد منه العون والتوفيق على إتمام العدة، واغتنام أوقاتها واستجماع متين العدة .
إن في إدراك شهر الصيام لفضيلة عظمى وغنيمة جلى لمن عقل عن الله خطابه، ووعى ندبه لعباده و استحثاته، فهو شهر لا كالشهور، وأوقاته ذخائر وكنوز تدخر ليوم العرض والنشور، يختزل فيه الحصفاء المسافات، ويجدون ويجتهدون لنيل رفيع الدرجات، وربح أجزل الأجور في أوجز اللحظات، دليله ما رواه طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ بَلِيٍّ قَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ إِسْلَامُهُمَا جَمِيعًا، فَكَانَ أَحَدُهُمَا أَشَدَّ اجْتِهَادًا مِنَ الْآخَرِ، فَغَزَا الْمُجْتَهِدُ مِنْهُمَا فَاسْتُشْهِدَ، ثُمَّ مَكَثَ الْآخَرُ بَعْدَهُ سَنَةً، ثُمَّ تُوُفِّيَ، قَالَ طَلْحَةُ: فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ: بَيْنَا أَنَا عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ، إِذَا أَنَا بِهِمَا، فَخَرَجَ خَارِجٌ مِنَ الْجَنَّةِ، فَأَذِنَ لِلَّذِي تُوُفِّيَ الْآخِرَ مِنْهُمَا، ثُمَّ خَرَجَ، فَأَذِنَ لِلَّذِي اسْتُشْهِدَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيَّ، فَقَالَ: ارْجِعْ، فَإِنَّكَ لَمْ يَأْنِ لَكَ بَعْدُ، فَأَصْبَحَ طَلْحَةُ يُحَدِّثُ بِهِ النَّاسَ، فَعَجِبُوا لِذَلِكَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَدَّثُوهُ الْحَدِيثَ، فَقَالَ: “مِنْ أَيِّ ذَلِكَ تَعْجَبُونَ؟ ” فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا كَانَ أَشَدَّ الرَّجُلَيْنِ اجْتِهَادًا، ثُمَّ اسْتُشْهِدَ، وَدَخَلَ هَذَا الْآخِرُ الْجَنَّةَ قَبْلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “أَلَيْسَ قَدْ مَكَثَ هَذَا بَعْدَهُ سَنَةً؟ ” قَالُوا: بَلَى، قَالَ: “وَأَدْرَكَ رَمَضَانَ فَصَامَ، وَصَلَّى كَذَا وَكَذَا مِنْ سَجْدَةٍ فِي السَّنَةِ؟ ” قَالُوا: بَلَى، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “فَمَا بَيْنَهُمَا أَبْعَدُ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ” ,
والحديث أصل في فضيلة من طال عمره وحسن عمله، وقد جاء ذلك جوابا لسائل النبي صلى الله عليه وسلم عن خير الناس، كما يؤخذ من الحديث فضل إدراك شهر الصيام وعمارة أوقاته بالطاعة والإحسان، “أَلَيْسَ قَدْ مَكَثَ هَذَا بَعْدَهُ سَنَةً؟ ” قَالُوا: بَلَى، قَالَ: “وَأَدْرَكَ رَمَضَانَ فَصَامَ..”
فرمضان منحة ربانية، وهبة إلهية، وفرصة سنية، ينزل بالمسلمين مرة في السنة، ليكرعوا من فضل الله العظيم، وينهلوا من ثوابه الجزيل، ويتعرضوا لتجاوزه العميم، فالموفق من وفق لاغتنام أوقاته، والمغبون من مر به ولم يفد من خيراته، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرَ، فَلَمَّا رَقِيَ عَتَبَةً، قَالَ: “آمِينَ” ثُمَّ رَقِيَ عَتَبَةً أُخْرَى، فقَالَ: “آمِينَ” ثُمَّ رَقِيَ عَتَبَةً ثَالِثَةً، فقَالَ: “آمِينَ” ثُمَّ، قَالَ: “أَتَانِي جِبْرِيلُ، فقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، قُلْتُ: آمِينَ، قَالَ: وَمَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا، فَدَخَلَ النَّارَ، فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، قُلْتُ: آمِينَ، فقَالَ: وَمَنْ ذُكِرْتَ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ، فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ “
ومناسبة الدعاء عليه بالإبعاد والطرد أنه فوت على نفسه مظنة تحقق المغفرة، فكيف يرجو نيلها بعدُ وقد ضيع مجاديحها..
وإنما كان هذا الشهر مكتنزا لهذا الفضل لتضافر روافد الإعانة فيه على الطاعة، فمن ذلك:
• اصطفاء الله له من بين الشهور “وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ” [القصص: 68]• تصفيد مردة الجن وعتاة الشياطين فيه، “فَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ » .
• تضييق مجاري الشيطان من ابن ءادم.
• إسعاف البيئة الرمضانية، وتوافر المعين فيه على الطاعة، فينشط العبد للعبادة، وللبيئة أثر لا يخفى على السلوكيات.
فلم يبق إلا مسلك مجاهدة النفس الأمارة، وإنها لميالة للدعة والراحة، لكن برصد ما علق على المجاهدة من ثواب، تقتحم الصوارف والعوائق.. “وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِين” [العنكبوت:61]

د.عبد الجليل الحوريشي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق