مركز الدراسات القرآنيةدراسات عامةغير مصنف

رؤية إسلامية للكوارث الطبيعية

تجتاز بلادنا ظروفا صعبة بسبب الزلزال الذي حصل يوم الجمعة 8 شتنبر 2023 ميلادية الموافق لـ 23 صفر 1445 هجرية في عدد من المناطق المغربية كإقليم الحوز وأزيلال وورزازات وشيشاوة وتارودانت وأعقب كثيرا من الشهداء والمجروحين والمشردين والمنكوبين وخرابا هائلا في المنازل والبنايات والطرقات وانهدمت بعض القرى وانهارت بالكامل، رحم الله الموتي وشفى المكلومين، وأعان جميع المتضررين من مخلفات هذا الزلزال العنيف على تجاوز آثاره المفزعة وأضراره الجسيمة، إلا أن الشعب المغربي قاطبة بقيادة جلال الملك محمد السادس حفظه الله، هبّ، والحمد لله، لمساندة المتضررين من وقع هذه الكارثة الطبيعية الشديدة سعيا إلى التخفيف من هولها والإسهام في تقليص خسائرها الفادحة؛ بالتضامن والتعاون والتآزر الحاصل بين مكونات الشعب المغربي من طنجة شمالا إلى الكويرة جنوبا ومن الحدود الشرقية إلى المحيط الأطلسي غربا، وكان هذا التضافر والتعاضد والترابط مصدر فخر واعتزاز للمملكة المغربية الشريفة، ومحل إعجاب وإبهاج من دول وشعوب ومنظمات وهيئات وشخصيات.
والزلزال من الكوارث الطبيعية الفادحة المهلكة لما تحدثه من دمار وخسائر في الأرواح والبنيان والأموال. وقد سعى الإنسان منذ أقدم العهود إلى إدراك أسبابها وبواعثها وانقسم الناس في ذلك قِدَداً؛ منهم من يرجع ذلك إلى الفعل الإلهي الذي خلق هذه الأرض ويفعل فيها ما يشاء كيف يشاء ومتى ما يشاء، ومنهم من يرجع ذلك إلى الأسباب المادية الطبيعية الصرفة، ومنهم من يجمع بين الأمرين ويوفق بين النظرين: أفعال إلهية بأسباب طبيعية لحكم سديدة، وبمقتضى السنن الكونية والقوانين الطبيعية التي أو جدها الله تعالى لتحكم نظام هذا الكون.
فالزلزال ظاهرة طبيعية تصدر عن «اهتزازات أرضية ناتجة عن مرور أمواج زلزالية منبعثة من مصدر طاقة مرنة في موقع ما، يتم التقاطها وتسجيلها بأجهزة خاصة عالية الحساسية تدعى أجهزة الرصد الزلزالي.

أسباب حدوث الزلازل

يمثل الغلاف الصخري lithosphere الطبقة الخارجية للأرض، التي تتميز بقوتها النسبية وصلابتها موازنة مع المواد التي توجد تحتها. وتراوح ثخانة هذا الغلاف بين عشرات الكيلومترات تحت أجزاء من أحواض المحيطات وما يزيد على مئة كيلومتر تحت أجزاء من القارات. ولا يمثل الغلاف الصخري طبقة مستمرة، بل وجد أنه مجزأُ إلى عدد من الكتل تدعى الصفائح الصخرية، يمكن أن يشتمل كل منها على قارات وأجزاء من محيطات، كالصفيحة الإفريقية، أو محيطات فقط، كصفيحة المحيط الهادئ. يوجد تحت هذا الغلاف طبقة مؤلفة من صخور لدنة ضعيفة نسبياً. ولذلك تدعى هذه الطبقة «الغلاف الضعيف» asthenosphere، وهو غلاف حار ومستمر.
تتحرك صفائح الغلاف الصخري فوق الغلاف الضعيف باتجاهات وبسرعات نسبية مختلفة تراوح ما بين 1و15سم/سنة. وبذلك تعد الحدود بين هذه الصفائح مناطق نشاط أرضي (جيولوجي) تحدث على امتدادها الزلازل والبراكين. ومعروف أن لهذه الحدود ثلاثة أنماط رئيسة هي: حدود تباعدية، وحدود تقاربية، وحدود محوَّلة. تتشكل في مستوى هذه الأنماط الثلاثة عمليات حركية (دينامية) تبني الجبال والقارات والمحيطات في العالم، ويؤدي هذا إلى حدوث الإجهاد (القوة المؤثرة في واحدة المساحة) وإلى نشوء الانفعال (التشوه كتغير الطول أو الحجم أو التصدع) في الصخر. وعندما يتجاوز الإجهاد متانة الصخور فإن الصخور تتحطم وتتصدع مما يؤدي إلى تحرير الطاقة على شكل زلازل. وبذلك تعد الصدوع مصادر زلزالية، ويعد تمييز هذه المصادر الخطوة الأولى في طريق تقويم المخاطر الزلزالية. ويؤدي كثير من الصدوع إلى إزاحة أجزاء من سطح الأرض، غير أن صدوعاً أخرى تنشط وتؤدي إلى زلازل لكنها لا تمتد إلى سطح الأرض بل تبقى مطمورة في الأعماق، وهي تدعى «الصدوع المطمورة» buried faults.
تعد هذه العمليات التكتونية الأسباب الرئيسة لحدوث الزلازل في العالم، غير أن هناك أسباباً ثانوية أخرى»[1].
وقد ذكر القرآن الكريم الزلازل وغيرها من الكوارث والمصائب والنوائب كالطوفان، والخسف، والعاصفات، والأوبئة، وجعل لها أسبابا مختلفة، ودواعي متباينة وبواعث متنوعة لحكَم متعددة؛ منها ما مكَّننا من معرفته، ومنها ما لم ندركه بعد أو استأثر الله به في علم الغيب عنده.

بعض الحكم الإلهية من الزلازل:

لقد شاع على ألسنة الناس أن الزلازل غضب من الله تعالى على الأقوام التي تحل بهم نظير أفَعاعيلهم الشنيعة وفواحشهم المنكرة المستشرية، فيحكم بعضهم على أهل البلد المصاب بالزلزال بالفجور الذي استحقوا به غضب الله تعالى حسب زعمهم، فتنتشر هذه التهمة وتبلغ آذان الضحايا الذين فقدوا أقاربهم وأموالهم، فيحسبون أن الله تعالى عاقبهم دون سواهم بسبب الفواحش المنتشرة والمعاصي المشاعة فتزيد آلامهم على معاناتهم، وقد يصاب بعضهم بالأمراض النفسية، وخصوصا من لايتوفر منهم على العلم الشرعي الذي يستهدي به في هذه الظروف الصعبة.
وهذا الخطاب يفتقر إلى كثير من الصحة، فليس بلازم أن يكون الزلزال عقابا من الله، فقد يكون غضبا وعقابا على أقوام كفروا وعثوا في الأرض فسادا؛ كقوم لوط عليه السلام الذين أهلكهم الله تعالى برفضهم دعوة نبيهم إلى الإيمان بالله تعالى وإخلاص العبادة له، وبسبب شيوع الفواحش فيهم، وأقبحها إتيان الذكور بشهوة بدل النساء؛ فعاقبهم بالزلزال العنيف الذي دمر قريتهم كاملة كما قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ، مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ ۖ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ﴾ [هود: 82، 83]، لكن هذه العلة ليست مطردة، فالزلزال في حقيقته آية من آيات الله تعالى في خلقه وكونه، مثله مثل غيره من الآيات الأخرى، فليس كل من أصيب بنائبة من النوائب معدودا من الظالمين المفسدين، فقد هلك بها من ثبت في الشرع صلاحهم، أو شهدت الأمة بذلك؛ مثل آلاف المسلمين الذين توفوا بسبب طاعون عمواس، وبينهم جماعة من الصحابة الكرام؛ كأبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل وابنه عبد الرحمن، ويزيد بن أبي سفيان.
قال ابن الأثير رحمه الله: «فِي هَذِهِ السَّنَةِ [سَنَة ثَمَانِ عَشْرَةَ] كَانَ طَاعُونُ عَمَوَاسَ بِالشَّامِ، فَمَاتَ فِيهِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، وَهُوَ أَمِيرُ النَّاسِ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَعُتْبَةُ بْنُ سُهَيْلٍ، وَعَامِرُ بْنُ غَيْلَانَ الثَّقَفِيُّ، مَاتَ وَأَبُوهُ حَيٌّ، وَتَفَانَى النَّاسُ مِنْهُ»[2].
فالمؤمن مبتلى، فكلما قوي إيمان الإنسان زاد ابتلاؤه، كما ابتلى الله نبيه أيوب عليه السلام بمرض شديد وصفه القرآن بالضُّرُّ والنصْبٍ وَالعَذَابِ، فصبر واحتسب، قال تعالى: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ﴾ [الأنبياء: 83-84]، وقال جل وعلا: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾[ص: 41] حتى ضُرِبَ بصبره المثل، فيقال: “يا صبر أيوب”، فالابتلاء عام للمكلفين؛ مؤمنيهم وكافريهم صلحائهم ومفسديهم أنبيائهم وعامتهم…
فهذه الكوارث تحذير وإنذار للكفار والطغاة، وزجر وتنبيه للعصاة والظالمين، وابتلاء وشهادة للمؤمنين الصالحين، وقد ثبت عن النبي ﷺ أن من مات في الهدم شهيد.
كما تتضمن هذه الكوارث والنوائب مقاصد حكيمة، منها:
1. بيان قدرة الله وعظمته وقوته، وضعف العباد وعجزهم، والافتقار إلى ربهم والالتجاء إليه تعالى، لعموم قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ، فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا﴾ [الأنعام: 42]، وهي من مظاهر تربية الله تعالى لعباده، وتَعَلِّقهم به عز وجل، والاستعانة بحوله وقوته.
2. تخويف الناس وتذكرتهم بقدرة ربهم وعظمته ليتوبوا وينوبوا إليه تعالى موعظة ورحمة لهم، قال تعالى: ﴿وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا﴾ [الإسراء: 59]. روى أبو عبد الله نعيم بن حماد بسنده عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَرَجُلٌ مَعِي، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ حَدِّثِينَا عَنِ الزَّلْزَلَةِ، فَأَعْرَضَتْ عَنْهُ بِوَجْهِهَا، قَالَ أَنَسٌ: فَقُلْتُ لَهَا: حَدِّثِينَا يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الزَّلْزَلَةِ [ص:620]، فَقَالَتْ: يَا أَنَسُ، إِنْ حَدَّثْتُكَ عَنْهَا عِشْتَ حَزِينًا، وَمُتَ حَزِينًا، وَبُعِثْتَ حِينَ تُبْعَثُ وَذَلِكَ الْخَوْفُ فِي قَلْبِكَ، فَقَالَ: يَا أُمَّهْ حَدِّثِينَا، فَقَالَتْ: «إِنَّ» الْمَرْأَةَ إِذَا خَلَعَتْ ثِيَابَهَا فِي غَيْرِ بَيْتِ زَوْجِهَا هَتَكَتْ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ مِنْ حِجَابٍ، فَإِنْ تَطَيَّبَتْ لِغَيْرِ زَوْجِهَا كَانَ عَلَيْهَا نَارٌ وَشَنَارٌ، فَإِذَا اسْتَفْحَلُوا فِي الزِّنَا، وَشَرِبُوا الْخُمُورَ مَعَ هَذَا، وَضَرَبُوا الْمَعَازِفَ، غَارَ اللَّهُ فِي سَمَائِهِ، فَقَالَ: تَزَلْزَلِي بِهِمْ، فَإِنْ تَابُوا وَنَزَعُوا وَإِلَّا هَدَمَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ “، فَقَالَ أَنَسٌ: عُقُوبَةً لَهُمْ؟ قَالَتْ: «بَلْ رَحْمَةً وَبَرَكَةً وَمَوْعِظَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، وَنَكَالًا وَسُخْطَةً وَعَذَابًا عَلَى الْكَافِرِينَ»[3].
3. إكرام المؤمنين بإدخالهم الجنة؛ لأنهم معدودون من الشهداء، قال رسول الله ﷺ «الشُّهداءُ خمسةٌ: المطعونُ والمبطونُ والغرِقُ وصاحبُ الهدمِ والشَّهيدُ في سبيلِ اللهِ»[4]، فيسترحون من نصب الدنيا، كما روى البخاري بسنده عَنْ أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ الأَنْصَارِيِّ، أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ، فَقَالَ: «مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا المُسْتَرِيحُ وَالمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟ قَالَ: «العَبْدُ المُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالعَبْدُ الفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ العِبَادُ وَالبِلاَدُ، وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ»[5].
4. إبراز آية من آيات الله تعالى في خلقه وكونه؛ فالكوارث الطبيعية لها أسباب علمية طبيعية تتجلى من خلالها عظمة الله عز وجل المبدع القادر الخالق الذي يملك السموات والأرض وما فيهن وما بينهما وما تحت الثرى، ومن الإشارات القرآنية المتعلقة بالزلزال قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِى ٱلْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا﴾ [الرعد: 41]. ومن معاني هذه الآية نقصان حجم اليابسة بسبب الزلزال الواقع في أعماق البحار الذي يؤدي إلى حدوث موجات بحرية ضخمة تعرف بـ : (تسونامي).
والله تعالى دعانا أن نتفكر في ملكوته وما يقع فيه من الحوادث والنوازل التي تبين عظمة الله وجلاله، فالسنن الكونية تحدث وفقا للقانون الذي وضعه الله تعالى في الكون وأجزائه ومكوناته فيصادفها المؤمنون والكافرون فينتفعون جميعا بمنافعها ويتضررون جميعا بأضرارها، إلا أنها تكون للمؤمنين نعمة ومنة أو ابتلاء واختبارا فيجازيهم الله خيرا، وتكون للكفار والعصاة تحذيرا وتخويفا ليرعوا عن جهالتهم وغيهم ويسلّموا لله الواحد القهار، ويتوب العصاة من المسلمين، ويستغفروا الله تعالى من ذنوبهم ومعاصيهم ويُحجموا عنها قبل أن يأتي يوم لا مردّ له من الله.
فالكوارث الطبيعية ومن ضمنها الزلازل تحدث وفقا للقوانين والنواميس التي خلق الله الكون عليها ومنها الأرض التي نعيش فوق ثراها، فهي تحصل بمقتضى هذه القوانين والقواعد في كل البلاد بصرف النظر عن عقيدة أهلها، فتكون لهم محل تفكر وتأمل للعبرة والاتعاظ والتدبر في قدرة الله وعظمته وقوته وجبروته؛ ليؤمنوا بخالق هذا الكون ويذكروه ويسبحوه ويعظموه، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: 190]، ومن قضى نحبه من المؤمنين بسبب هذه الزلازل فهو شهيد إن شاء الله تعالى، كما قال رسول الله: «صَاحِبُ الْهَدَمِ شَهِيدٌ»[6].
فالكوارث الطبيعية ليست عقابا على الكفر والمعاصي والآثام إلا بالنسبة لبعض الأقوام السابقة الذين ذكرهم الله تعالى في كتابه العزيز، كقوم لوط الذين عمد الله إلى قريتهم فجعل عاليها سافلها وأمطر عليها حجارة من السماء، وأما بالنسبة لأمة محمد ﷺ فحسابها مؤجل إلى يوم القيامة، قال رسول الله ﷺ: «سألتُ ربِّي عزَّ وجلَّ فيها ثلاثَ خصالٍ فأعطاني اثنتينِ ومنعني واحدةً سألتُ ربِّي عزَّ وجلَّ أن لاَ يُهلِكنا بما أَهلَكَ بِهِ الأممَ قبلنا فأعطانيها وسألتُ ربِّي عزَّ وجلَّ أن لاَ يظْهرَ علينا عدوًّا من غيرنا فأعطانيها، وسألتُ ربِّي أن لاَ يلبسنا شيعًا فمنعنيها»[7].
فالخصلة الأولى التي استجابها الله تعالى لرسوله محمد ﷺ ألا يهلك قومه بما هلك به الأمم الأخرى أي: بعَذابِ الاستِئصالِ، كما أهلَك قومَ نوحٍ، وقومَ هودٍ، وقومَ صالحٍ، وقومَ لوطٍ، وغيرَهُم من الَّذين عَصَوُا اللهَ عزَّ وجلَّ، وعصوْا رُسلَه، ” فأجابه الله تعالى فيها، وهذا دليل أن الله تعالى لا يعاقب أمة رسول الله ﷺ ولا يهلكها بالكوارث الطبيعية من الزلازل والأوبئة وغير ذلك بل يعتبر من مات بها شهيدا منة منه تعالى وفضلا. قال جل وعلا: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍۢ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰٓ أَجَلٍۢ مُّسَمًّى ۖ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِۦ بَصِيرًۢا﴾ [فاطر: 45].
والحاصل أن: المتأمل في النصوص الشرعية الواردة في شأن الكوارث الطبيعية ومنها الزلازل يفهم أنها آيات كونية من آيات الله تعالى لها أسباب علمية طبيعية وتلك الأسباب والآيات هي من أقدار الله تعالى، تتجلى فيها عظمة قدرة الله جل وعلا وجبروته وقوته، ودلالة على الضعف الإنساني وعجزه وقلة حيلته.
وهذه الكوارث والنكبات تصيب الكافرين والمؤمنين والطالحين والصالحين إذا توفرت أسبابها، فتكون للكفار والطغاة تخويفا وإنذارا، وتكون للمؤمنين موعظة وتذكيرا بالموت وفناء الأنفس والأموال في هنيهة قصيرة؛ ليهرعوا إلى التوبة والاستغفار والإقلاع عن المعاصي والآثام، وتكون للأموات بها شهادة ينالون بها المغفرة والرحمة والدرجات العليا عند الله تعالى.
كما تعتبر هذه الخطوب والمصائب مدعاة إلى الإكثار من الدعاء والاستغفار والذكر والإنابة إلى الله تعالى ومحاسبة كل فرد نفسه ليستدرك ما فاته ويعقد العزم على التزام الطريق السوي المستقيم وتجنب الرجوع إلى اقتراف الذنوب والآثام قبل أن يأتي أحدنا الموت فلا يقدر أن يعود ليصلح ما أفسد أو ليعمل مثقال ذرة من خير لعله ينجيه. قال تعالى: ﴿فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾ [المنافقون: 10].
كما أنها مناسبة للتضامن والتآزر بين المسلمين، ومساعدة الناس المتضررين والمنكوبين بما يحتاجون من المسكن والمأكل والملبس، ومواساتهم ودعمهم لاجتياز الظروف النفسية والمادية الصعبة التي يعيشونها، تجسيدا لقول الرسول ﷺ: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»[8].

الهوامش:

[1] الموسوعة العربية، علم طبقات الأرض و علوم البحار، المجلد: العاشر، ص: 379.
[2] الكامل في التاريخ، أبو الحسن علي ابن الأثير، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري، الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت – لبنان، الطبعة: الأولى، 1417هـ / 1997م، 2/376.
[3] كتاب الفتن، نعيم بن حماد بن معاوية، تحقيق: سمير أمين الزهيري، الناشر: مكتبة التوحيد – القاهرة، الطبعة: الأولى، 1412، 2/619.
[4] أخرجه البخاري في صحيحه، باب الشهادة سبع سوى القتل، رقم: 2829، ومسلم في صحيحه، باب بيان الشهادة، رقم: 1914.
[5] رواه البخاري في صحيحه، كتاب الرقائق، باب سكرات الموت، رقم: 6512.
[6] رواه النسائي في السنن الكبرى، باب النهي عن البكاء على الميت، رقم: 1961.
[7] رواه النسائي في السنن الكبرى، باب إحياء الليل، رقم: 1313.
[8] أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، رقم الحديث: 4691.

Science

د. مصطفى اليربوعي

باحث بمركز الدراسات القرآنية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق