وحدة المملكة المغربية علم وعمرانفنون وعمران

بابا خالي: حارس صناعة الفخار بقصر مولاي عبد الله الدقاق بتافيلالت

د. جمال بامي

كنت وفقت بفضل من الله إلى العثور على آخر معلم فخار بقصر اولاد ابراهيم بتامكروت، هو سيدي عبد الموجود الذي نشرت مقالة حوله في فنون وعمران فليرجع إليها؛ كان مرافقي في تلك الرحلة المباركة إلى رحاب الزاوية الناصرية ومحيطها الفاضل محمد بناني حفظه الله.. وشاءت قدرة الله أن أقوم بزيارة علمية برفقته أيضا، إلى ربوع محروسة تافيلالت، بقصورها الصامدة وتاريخها الروحي والعمراني والإنساني، لأقف، ضمن ما وقفت عليه من قصص وآثار، على ورش فخار غميس في غياهب دروب قصر مولاي عبد الله الدقاق، أحد أهم القصور الفيلالية التي تنسب لعالم صوفي من علماء المغرب…

كان مولاي عبد الله الدقاق من العلماء المعاصرين للسلطان مولاي إسماعيل العلوي في القرن السابع عشر الميلادي، وكان مدرسا بمدرسة المسجد الجامع بالقصبة السجلماسية. وقد بني على قبر مولاي عبد الله الدقاق قبة ووضع على قبره دربوزا من الخشب نقشت على جوانبه آيات قرآنية، وقد أشرف على الاعتناء بقبر العالم الدقاق أخ وخليفة مولاي إسماعيل على تافيلالت مولاي الحران، بتوصية من السلطان. ويذكر المؤرخ الضعيف الرباطي أن خليفة السلطان سيدي محمد بن عبد الله بتافيلالت الباشا سعيد بن العياشي قام بزيارة وتفقد ضريح سيدي عبد الله الدقاق، وهو ما يبرز مكانة هذا العالم رحمه الله في نفوس معاصريه..

مدخل قصر مولاي عبد الله الدقاق بتافيلالت

جزء من ضريح مولاي عبد الله الدقاق بتافيلالت من الداخل والخارج

رافقنا أطفال القصر الرائعين في وسط بسيط قنوع يتنفس البيئة المحلية، إلى الورشة التي لا يمكن تصور وجودها وراء عديد الدروب الضيقة الملتوية، فعثرنا على رجل هرم منحن على لولبه التقليدي يبدع بأنامله آنية فخارية تشبه إلى حد كبير تلك التي يعثر عليها علماء الأركيولوجيا في موقع سجلماسة الأثري؛ عرفت من الأطفال الذين دلونا على الورش الثمين أن حارس صناعة الفخار بقصر مولاي عبد الله الدقاق يدعى بابا خالي….

الأبطال الذين دلونا على ورش بابا خالي

لما ناديته باسم بابا خالي أجابني أن اسمه الحقيقي أحمد البحّاري، وأنه يمارس حرفة تفخارت الموروثة في عائلته أبا عن جد، غير أنه تأسف على عدم وجود الخلف بما يعني قرب انقراض حرفة عرف به قصر مولاي عبد الله الدقاق وسجلماسة منذ قرون؛ والحال أنه لم يبق مع بابا خالي في الورشة العتيقة سوى شخصين فقط يشتغلان بشكل موسمي لغياب الطلب وصعوبة ظروف العيش…

وقد أثار انتباهي عزة نفس هذا الفاضل وأنفته واعتزازه بمهنته، وهو الذي صرح لي أن احد الزوار للورشة “أشفق عليه” وأقترح عليه التوسط “لانتشاله من وحل الطين” بأن يجد له عملا آخر، فرد عليه حارس صناعة الفخار بقصر مولاي عبد الله الدقاق أنه يحرس مهنة آبائه واجداده التي يكسب منها قوت عائلته، كما يجد فيها توازنه النفسي والروحي وانسجامه مع محيطه وبيئته وحضارته…

بابا خالي حفظه الله مصرا على الحفاظ على مهنة من أنبل الحرف على مر التاريخ

والملاحظ من الناحية التقنية غياب اللولب بمفهومه المعهود، المستعمل في أوراش الخزف الحضرية، إذ يتعلق الأمر في ورش مولاي عبد الله الدقاق بفخار مشكل باليد دون طاقة لولبية تساعد على ضغط الطين وتطويعه وتشكيله فنيا؛ والأمر عبارة عن عمل باليدmodelage   باستعمال صحن دائري كحامل للطين الذي يشكل فوقه، تتم إدارته بالأرجل للإحاطة بالآنية المشكلة من جميع الجوانب، فالعمل هنا من الناحية التقنية منزلة بين المنزلتين : التوليف باليد Modelage    والعمل باللولب tournage.

والصحن الخشبي العتيق المدار بالأرجل Tournette شبيهة بما ذكره العديد من الإثنوغرافيين الغربيين الذين وصوفوا طرق إنتاج الفخار في مختلف البوادي المغربية، هكذا نجد هربير Herber يصف طرقا لصناعة الفخار في بادية ازعير، في مقال له منشور بمجلة هسبيريس، شبيهة بما يقوم به بابا خالي في تافيلالت.

والحال أن انتشار تقنيات صناعة الفخار في مختلف ربوع المملكة وما رافق ذلك من تأثير وتأثر يصعب تتبع خيوطها ورصد معالمها، ويحتاج إلى دراسات إثنوغرافية موسعة خدمة لجانب من جوانب التراث اللامادي للمغرب في أبعاده السوسيولوجية والأنثربولوجية…

شبه لولب عتيق tournette مصنوع من الخشب وهو الأداة الرئيسية في ورش بابا خالي

خليط معدني أساسه الكحل  antimoine يستعمل كطلاء زجاجي على الفخار بلون أصفر أو بني، وهي طريقة مغرقة في القدم وآيلة إلى الزوال.

أفران تقليدية فريدة من نوعها تعمل بالحطب لطهي الفخار في آخر ورشة بقصر مولاي عبد الله الدقاق

قناديل زيتية من صنع بابا خالي تذكر بمصابيح سجلماسة القديمة، وهي تقتنى اليوم كتذكار ليس إلا..

بعض الأواني الفخارية الاستعمالية مطلاة بالكحل  من صنع بابا خالي

بعض القطع الخزفية المتناثرة فوق أرض موقع سجلماسة الأثري: أسلاف فخار بابا خالي

ألم يحن الوقت بعد أن ينتبه جيل اليوم إلى ما تمثله الصناعات اليدوية القديمة من قيمة فنية ورمزية وثقافية، وأنها الأقرب إلى روحنا وتاريخنا وضميرنا الجمعي من أي مهارات مستوردة.. لا يعني هذا الكلام بطبيعة الحال جمودا في الماضي وخبراته، بل يثير الانتباه إلى أن الحضارة لا تكتسب صمودها وقيمتها الفعلية إلا بصمود الحوامل المادية والرمزية لمختلف الخبرات التي أنتجت في تفاعل الإنسان مع محيطه الطبيعي ومعطيات البيئة المحلية، وهذا مفهوم من أعمق مفاهيم الفلسفة البيئية في أرقى صورها..

إنني أتساءل أليس من الضروري رعاية مثل هذا الفن العريق من الضياع في منطقة تعني الشيء الكثير بالنسبة للمغرب ثقافيا وحضاريا وإنسانيا، وكيف يمكن تصور صيانة التراث الثقافي الوطني دون حفظ التراث المادي واللامادي الحي المندمج في الاجتماع الإنساني ؟؟؟

كما أنني أتخيل يوما ربما سيأتي يقوم فيه المسؤولون عن الشأن الثقافي في بلادنا بإنشاء متحف للفخار والخزف السجلماسي في قصر مولاي عبد الله الدقاق، وسيكون ذلك أكبر عرفان بالجميل لبابا خالي وأسلافه الطيبين.. لكن هذا مجرد حلم…

د. جمال بامي

  • رئيس مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلامية، ومركز علم وعمران بالرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق