وحدة المملكة المغربية علم وعمرانفنون وعمران

مساهمة أنثربولوجية حول بعض جوانب عمران البادية المغربية : قصبة الشافعي بمنطقة بني مسكين نموذجا

د. جمال بامي

من الأسئلة الوجودية التي شغلتني في مساري البحثي المتواضع في مجالات التاريخ والعمران والأنثروبولوجيا هو الوضع الاعتباري للبادية المغربية في علاقتها بتاريخها الحضاري والعمراني العريق.. ذلك أن كثيرا من مظاهر البؤس المجالي والاجتماعي والثقافي لكثير من مناطق العالم القروي بالمغرب لا يمكن اعتبارها قدرا مقدورا إذا ما قمنا وفق منهج التفكيك والتركيب، بمراجعة التاريخ العمراني للبوادي المغربية بحثا عن عناصر التفوق والابداع التي ميزت كثيرا منها في حقب مختلفة من تاريخ المغرب، لكنها خفتت وتلاشت وأضحت في مكان سحيق لاعتبارات سوسيوثقافية معقدة أفضت إلى البؤس المشار إليه أعلاه…

إن صمود الكثير من الآثار الدينية والعسكرية والمدنية في مختلف المناطق القروية بالمغرب، خصوصا تلك التي تنتمي إلى نسق عمراني مزدهر رصدته المصادر التاريخية المختلفة، كالزاوية الدلائية وقلعة فازاز وتامكروت وتامصلوحت وتانغملت وزاوية أحنصال وغيرها من مراكز العلم والصلاح والرياسة المتفرقة اليوم في مناطق نائية منسية، تطرح أكثر من سؤال حول غياب مبادرات وطنية جادة لإعادة تأهيل البادية المغربية في ربطها بتاريخها الثقافي والعمراني، ضمن رؤية مندمجة تراعي متطلبات التهيئة المجالية المعاصرة بإكراهاتها وعوائقها وجاذبيتها أيضا لذوي الهمم العالية المحبين الحقيقيين للوطن وللقرى التي نشأوا فيها أو أنيطت بهم مهمة تسيير شؤونها من أجل إسعاد الناس وتشريف البلد…

والحال أن مسألة إعادة الاعتبار للبادية المغربية وتاريخها وثقافتها وعمرانها تحتاج إلى عدة معرفية ومنهجية على غاية كبيرة من الكثافة والعمق والاتقان والقصد النبيل، بحثا عن إعادة الحياة والامل والكرامة لمختلف مناطق المغرب المنسية التي تركت تدبر أمرها بنفسها في غياب السياسة وبقاء الأهالي رهن اقتصاد محلي معدم، وبقايا ثقافة محلية يصعب لملمة خيوطها وسرد مراحل تطورها من أجل محاولة فهم أنثربولوجي لدراما العالم القروي المستمرة منذ عقود…

ضمن هذا الأفق المعرفي والمنهجي تأتي هذه المقالة المتواضعة ذات البعد التطبيقي لتقف على نموذج المفارقة الواضحة بين حال البادية المغربية اليوم وبين تاريخها العمراني والثقافي من خلال موقع آثاري شديد الأهمية بموقعه وتاريخه السياسي والعمراني في منطقة لم تحض بعد باهتمامات الأكاديميين من أجل سبر أغوار ثقافتها الإنسانية والمادية والحضارية، يتعلق الأمر بموقع قصبة الشافعي بقرية دار الشافعي بمنطقة بني مسكين، التي اكتشفتها بمعية الفاضلين الباحثين في تاريخ وحضارة منطقة بني مسكين الأستاذ الفاضل أحمد الناهي والأستاذ الفاضل عبد الله آميدي حفظهما الله وجزاهما على كل ما قاما به لتيسير إنجاز هذا العمل بفضل من الله، وقد كنت كتبت الصيغة الأولى لهذا المقال ثم راجعت بعض مضامينه المتعلقة أساسا بترتيب وهويات الشخصيات القائدية من آل الشافعي قبل أن أنشر المقال في شكله الحالي، فلولا دعمهما ما كان لهذا العمل ان يكون على ما هو عليه، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله…

آل الشافعي في مسرح أحداث قبيلة بني مسكين، سرد مختصر:

ليس من السهل كتابة تاريخ عائلة الشافعي المسكينية لاعتبارات أهمها شح المصادر وندرة المعلومات حول ممثلي هذه العائلة في مجال السلطة والرياسة في مجال بني مسكين، بالإضافة إلى الخلط الشديد الذي لمسته فيما كتب حول العائلة، بين الشخصيات البارزة من آل الشافعي، فحينما نقرأ القائد الشافعي بالمطلق، فهل المقصود أحمد الشافعي أم والده محمد الشافعي ام جده أم شخص آخر. فببير كورات في مقاله حول قصبة الشافعي يذكر السي الشافعي، الذي هو عنده والد احمد الشافعي وجد ولديه محمد والحسن، وهو يعتبر المؤسس الأول للقصبة في بداياتها..

بتحقيقي للتواريخ المتاحة وظهائر التعيين في منصب قائد، الذي حظي به آل الشافعي من طرف سلاطين الدولة العلوية، أن الأقرب إلى الصواب والمنطق أن القائد أحمد الشافعي أو أحمد بن الشافعي هو ابن القائد الشافعي ابن الغزواني بن الجيلالي الشافعي، وأن أحمد الشافعي له ولدان سيخلفانه تباعا في قيادة بني مسكين هما محمد بن أحمد والحسن بن أحمد الذي بعزله من طرف المستعمر الفرنسي انتهت رياسة آل الشافعي لتمر إلى آل بوحافة، وعليه فإن قول بيير كورات في مقاله عن الحسن بن أحمد الشافعي أنه حفيد السي الشافعي ابن الجيلالي بن الغزواني هو الصواب والله أعلم…

وعليه فمن المعلومات النادرة المتناثرة النسبية التي تحتاج إلى مزيد تدقيق، نعرف أن اسرة الشافعي أسرة عريقة في الرياسة والحكم القبلي، فجد القائد الشافعي، وهنا يبرز اسم أو لقب الشافعي كدلالة على الأسرة بشكل عام، في عهد السلطان المولى اسماعيل استطاع قتل حاكم البروج القايد بلعيد الشاوي، واستولى على حكم المنطقة؛ لكن في بداية القرن 18م على عهد المولى سليمان، بدأ تاريخ آل الشافعي العكارية المسكينية في ارتباطها بقصبة الشافعي محور بحثنا، مع الجيلالي بن الغزواني الذي كان خليفة للقائد الغازي بإقليم سطات على منطقة بني مسكين، وكانت له معارك مع أولاد بوزيري حسبما ذكره الضعيف الرباطي في تاريخه، و الراجح حسب الشواهد التاريخية القليلة، أن الجيلالي بن الغزواني هو الذي عاش أجداث معركة إيسلي بضواحي وجدة سنة 1844م، وليس ولده محمد، والتي انهزم فيها جيش السلطان مولاي عبد الرحمن بن هشام أمام الجيش الفرنسي، مما اضطر السلطان لاستدعاء قواد القبائل إلى منطقة المعركة وقد كان الجيلالي بن الغزواني واحدا من بينهم، رغم أنه كان خليفة قائد..

لما توفي الجيلالي بن الغزواني رحمه الله، ترك ابنه محمد الشافعي شابا  يعمل خليفة للقياد الذين تعاقبوا على تسيير المنطقة بعد والده، وقد عينه السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمان بظهير شريف شؤون قيادة المنطقة خلال زيارته لفاس مع بعض الأعيان، لكن بعد وفاة محمد الرابع ثارت عليه بعض قبائل المنطقة إلى أن ولاه السلطان المولى الحسن الأول قائدا على المنطقة، و دام  منصبه كقائد بها حوالي  18 أو25  سنة على اختلاف بين الروايات..

وترجع المكانة التي تبوأها القائد محمد الشافعي العكاري المسكيني الى الخدمات التي أسداها الى المخزن، في عهد السلطان مولاي الحسن، فقد بعث به السلطان ليأخذ له الثأر من غياثة الذين هزموا المحلة السلطانية مرتين متتاليتين بجبال الاطلس المتوسط، كان ذلك سنة 1876م حسب سيدي أحمد عمالك، وكان له ما أراد، فازدادت مكانة القائد الشافعي عند السلطان الحسن الأول، وأضحت المنطقة التي ينحدر منها تنسب إليه وإلى أبنائه من بعده..

عرف عن القائد الشافعي قوته وصلابته، لذلك سيتمكن من الهجوم على أسوار مدينة فاس، وإخماد تمرد تجار وحرفيي المدينة على أمين المستفاد محمد بن المدني بنيس ومن خلاله على المخزن، حسب رواية الكاتب الفرنسي لويس أرنو، كما استطاع أن يوقف تمرد البشير وامسعود قرب وجدة، واستطاع حمله كسجين إلى فاس بأمر من السلطان المولى الحسن الأول، حسب ما ذكره عبد الرحمن ابن زيدان..

لا ندري على وجه التحديد متى عين محمد الشافعي قائدا على بني مسكين ولا متى انتقلت السلطة إلى ابنه أحمد بن الشافعي، فالأمر يحتاج إلى مزيد تدقيق وتحقيق…

لكن تفيد رسالة سلطانية مؤرخة بعام 1302 ه/ 1885م أن أحمد الشافعي كان قد أصيب في يده اليمنى فأصابه من جراء ذلك وهن شديد وضعف في حركته، فأذن له السلطان في التوجه الى طنجة بقصد التداوي، حيث بعث برسالة الى النائب محمد بركاش يأمره أن يأخذ بيده وييسر علاجه بطنجة أو بجبل طارق أو في أي بلاد من بلاد النصارى، والراجح أن علاجه من مرضه العضال قد تم في فرنسا التي لم ينس أن يجلب منها تحفا نفيسة وساعات وكتبا تتناسب ومقامه في قصبة تضاهي القصور السلطانية، وقد كان أحمد بن الشافعي على درجة من العلم والأدب..

والحال، أنه بعدما اشتد به المرض اتّسعت دائرة تمرّد بني مسكين ودكالة والرحامنة والسراغنة واولاد بوزيري، خاصة بعد وفاة مولاي الحسن الأول في يونيو 1894م بقرية أولاد زيدوح وإقامة طقوس غسله بالبروج ثم نقل جثمانه من أجل الدفن، وقد رافق القائد أحمد بن الشافعي الموكب الجنائزي بقيادة مولاي عبد العزيز الذي تمت بيعته بالبروج[1]، لكن قبائل بني مسكين من القراقرة وبني خلوك وأولاد عامر وأولاد بوعلي وغيرهم، باستثناء شرفاء عين بلال وأولاد العكارية وأولاد افريحة، حاصرت القائد أحمد بن الشافعي بعد عودته من مراسيم دفن مولاي الحسن الأول داخل القصبة، لمدة 16 يوما، وأحدثوا داخل  القصبة تخريبا وهدما ونهبا وصل إلى حد اقتلاع الأبواب؛ فنفذ الماء وماتت الخيول، مما اضطر القائد أحمد الشافعي إلى الاستنجاد بالقائد بن المودن من قلعة السراغنة الذي خلّصه من الحصار، وساعده على اللجوء عند أخواله بدرقاوة بعين بلال، ثم إلى الزاوية الشرقاوية بأبي الجعد، لكنه سرعان ما عاد إلى منصبه بدعم من الصدر الأعظم “باحماد” والحافظي الدليمي الشرادي، وتم تغريم المتمردين 300 ألف ريال وما يقارب 200 فرس…

ويعزو احمد بن الشافعي ما فعل به خصومه الى تفانيه في خدمة المخزن حيث يقول: ما فعلوه بنا هذا الفعل الا لما تحققوا من نصحنا واستغراقنا في خدمة اعتاب مولانا خلفا عن سلف..

الموقع الذي تم فيه تغسيل جثمان الحسن الأول بالبروج بعد وفاته في قرية اولاد زيدوح، وهو مكان يحتاج إلى صيانة لبعده التاريخي والرمزي في مدينة في أمس الحاجة إلى رموز ثقافي

زاوية عين بلال التي التجأ إليها القائد أحمد الشافعي عند أخواله هربا من فتنة القبائل

ويبدو ان أحمد بن الشافعي لم يستطع اعادة الاستقرار للمنطقة الا بعد ان جاءته الامدادات من قواد تادلا وبعض عمال المراسي الذين شدوا له العضد على تمرد قبيلته. وتفيد رسالة سلطانية مؤرخة في 17 رمضان 1315ه ان الذي ولي قيادة بني مسكين بعد وفاة أحمد الشافعي هو ابنه محمد بن أحمد بن الشافعي، كان ذلك سنة 1315ه،  لكن عندما انتصر المولى عبد الحفيظ على اخيه مولى عبد العزيز، استغل فرصة مروره من منطقة بني مسكين فاعتقل القائد  حسن بن احمد بن الشافعي، الذي خلف أخاه محمد، مدة ثمانية عشر شهرا، إلا انه عفا عنه وعينه قائد الرحى، فاستمر في قيادته على قبيلته حتى دخول المستعمر الفرنسي سنة 1912 م، ثم السيطرة على منطقة بني مسكين سنة 1914، حيث تم خلع القائد حسن بن أحمد بن الشافعي، وصودرت أملاكه، وأجبر على الانتقال الى مراكش التي مكث بها حتى وفاته سنة 1961م، فآل هذا المنصب الى اسرة بوحافة المنتمية الى فخذة ليساسفة[2]

قصبة الشافعي بين الأمس واليوم :

وصف باردو، رئيس البعثة الفرنسية التي زارت القصبة في بداية الغزو الفرنسي للمغرب، بكونها تذكر بألف ليلة وليلة، في حين قال عنها الكاتب الفرنسي بيير كورات أنها قصر ملوكي في طريق الاندثار يفوق جمالا قصر دار ادبيبغ بمدينة فاس…

ويذكر بيير كورات في مقاله (petite garnison marocaine, Revue des deux mondes,1919)  أنه يمكن للزائر اليقظ المولع بالجمال العمراني أن يقف بقصبة دار الشافعي ليملي النظر والنفس بروائعها وتسجيل ارتسامات لن تستطيع ذكريات الرباط وفاس ومكناس أن تنقص من قيمتها.

يعود التأسيس الأول لقصبة الشافعي إلى سنة 1849م من طرف الجيلالي بن الغزواني الشافعي، في عهد السلطان عبد الرحمن بن هشام[3]، وهو والد القائد محمد الشافعي الشهير الذي تنسب له القصبة والقرية المجاورة لها بمدشر أولاد مَحمد، بفخذة أولاد العكارية[4]، بقبيلة بني مسكين.

ففي عهد القائد محمد الشافعي بن الجيلالي أصبحت القبيلة تحت قيادة مستقلة تدار انطلاقا من قصبة الشافعي الموجودة في تراب أولاد العكارية، فبعدما حسم  هذا القائد مادة تمرد قبيلة غياثة وشكر السلطان صنيعه واثنى عليه، أضحى منذئذ مدشر اولاد امحمد يدعى دار الشافعي، وفي عهده استفحل عمران القصبة وتطور، ويمكن أن نتحدث عن تأسيس ثان للقصبة سنة 1863م[5].

كانت القصبة تتخذ شكلا مربعا يحيط بها سور على امتداد 100 متر في كل جهة، وكان عرضه يقدر بمتر ونصف، وارتفاعه ما بين 6 و10 أمتار، شيد من الحجر والحصى في الأساس، والحصى والطين في الحائط، كما تضمنت القصبة مجموعة من الأبراج[6].

بعد خرائب قصبة الشافعي كما عيناها في زيارتنا الميدانية، وتبدو في الصورة قبة قاعة الحمام

أما مسجد القصبة فشرع في بنائه في عهد الجيلالي بن الغزواني سنة 1849م على الأرجح، لكن القائد محمد الشافعي زاد فيه وجدده سنة 1859م، ولم تنته به الأشغال بشكل نهائي إلا سنة 1874م، وهو يضم  زخارف رائقة ومحراب رائع حسب وصف الرحالة الأجانب، حاولنا خلال زيارتنا الميدانية رؤيته ووصفه ونشر صور له، لكن المؤذن الموجود في عين المكان أخبرنا بعد اتصال هاتفي أن فضيلة مندوب وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بسطات لم يأذن لنا بزيارته، لأن الأمر يتطلب رخصة رسمية، والأمر لله…

أما الصومعة في شكلها الأول فذات زوايا أربعة مؤطرة من الطوب فيها شريطان عموديان طويلان من الفسيفساء البراق، ويقدر ارتفاعها بحوالي 25 مترا، ولكنها تعرضت لخسائر عديدة جعل الوصول إلى قمتها صعبا. يتحدث بروسبير ريكار في كتابه : المغرب الصادر سنة 1919 عند مكتبة هاشيت بباريس عن أطلال قصبة الشافعي مشيرا إلى أن صومعة المسجد العتيق بها مبنية بالآجر المزجج briques vernissées[7]، كما أن ببير كورات يذكر أن الصومعة البيضاء يزينها زليج أخضر، في اتساق مع ما ذكره ريكار، وهو ما يطرح أكثر من سؤال حول شكلها الحالي بطلائها الجيري الأبيض الأوحد الذي يخفي معالمها الزخرفية الأصلية، ولا ندري هل تعرضت للإهمال والتدمير خلال المرحلة الاستعمارية؟؟، وقد أخبرني الفاضل الأستاذ سيدي محمد حسون بن العباس خلال لقائي به بدار الشافعي أنه إلى سنة 1983م كانت قصبة الشافعي تحتفظ بالكثير من مقوماتها المعمارية، وهذا يدل على حجم الإهمال الذي تعرضت له خلال العشريات الأخيرة والأمر لله….

المسجد العتيق بالقصبة وهو أقدم بناء بها وقد تغيرت ملامح صومعته الأصلية كما وصفها الباحثون الاجانب

هناك أيضا السكن الخاص بالقائد، الذي بنى من طرف القائد محمد الشافعي على الواجهة الشمالية من ساحة الفناء الواسعة والمبلطة بقطع مربعة صغيرة ومرصوفة، وهذه الشرفة مدعمة بأعمدة مزينة بالخزف الأزرق والأبيض بين جدوع مثمنة، تبرز الأقواس الممشوقة، أما الواجهة الشمالية فيتوسطها باب واسع مزخرف يشبه بوابات الكاتدرائية[8]. والغالب أن القائد أحمد الشافعي قد زاد في إعمار القصبة وزخرفتها، لكننا لا نملك دلائل نميز بها بين ما يمكن أن ينسب إليه بالضبط أو ينسب إلى أسلافه، لكن الأهم أن هذه المعلمة المعمارية الكبرى هي من إنجاز آل الشافعي بلا مراء…

وقد جعل الفرنسيون هذا البناء، بعد سيطرتهم على القصبة، مكانا للاستشفاء ومسكن يأوي الضيوف. وكانت سقوف البناء مغطاة بخشب شجر الأرز المجلوب من جبال الأطلس، وقد نحتت على لوحاته الجصية المتعددة الألوان آيات من القرآن الكريم، ويطل هذا البناء على فناء صغير[9].

ويحدثنا بيير كورات عن بيت بناه القائد الشافعي في بداية تقلده منصب السلطة محاذيا للجامع العتيق قبل أن يقوم ببناء المنشآت الأخرى بمقاييس فنية عالية تضاهي كبريات القصور السلطانية، وهو ما رأى فيه كورات رغبة من محمد الشافعي جعل هذا البيت المتواضع بالمقارنة مع باقي منشآت القصبة، يذكره ببدايات الأسرة قبل المجد والشهرة، وقد تحول هذا المرفق فيما بعد إلى مكان استقبال خدام القائد وزبنائه الكبار..

لكن البناء الأروع هو الرياض الكبير، الذي يضم فناء كبيرا كان به أيام المجد، فترة القائد الشافعي وابنه احمد، بستان من البرتقال والورود، وفي وسطه حوض صغير من الفسيفساء الملونة التي استجلبت من مراكش وفاس، كما يضم مرجلا من الرخام، وتغطي أرضيته بالكامل قطع صفراء وخضراء وزرقاء، وهذا الرياض الكبير مكون من غرفة كبيرة يبلغ ارتفاعها حوالي 7 أو 8 أمتار، وطولها 15 مترا، وعرضها أربعة أمتار، بها نوافد من الزجاج الملون، إضافة إلى مرافق عديدة كانت تؤثت هذا الفضاء[10]

صورة نادرة للرياض الكبير بقصبة الشافعي تظهر فيه الفسيفساء والزليج وبيلة المرمر وأشجار البرتقال على طريقة القصور الأندلسية، كان هذا خلال القرن 19م في قلب البادية المغربية

أطلال قصبة الشافعي التي كانت يوما من روائع العمارة المغربية في القرن 19م

بقايا الزخرفة بالرياض الكبير تشهد على ما بلغته قصبة الشافعي من تفوق معماري ويبدو النقش على الجبس مندمجا مع الأشرطة الخطية المكتوبة بالخط الكوفي بالإضافة إلى آثار الطلاء الأزرق الكوبالتي الذي كان يزين الأشرطة، وغلبة الخط الكوفي المغربي بشكل متفرد مسألة ذات أهمية زخرفية كبرى لغلبة خط الثلث المغربي في القصور المغربية في نفس فترة بناء القصبة

قبة إحدى الغرف المتبقية نقشت فيها نجمة ثمانية، وهي تعكس نمطا معماريا سائدا خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بالمغرب

وكانت القصبة في عهد ازدهارها زمن القائدين محمد الشافعي وابنه أحمد الشافعي تضم متاهة من الجدران والممرات، وبها كذلك بنايتان تواجه بعضهما البعض في فناء مغلق بالمباني الشاهقة، ثم هناك مطبخ ومكتب شاسع وبيوت الراحة، وحمام بديع الإتقان والزخرفة، وشقة خاصة أصبحت بعد السيطرة الفرنسية على القصبة مقرا لسكني جنود الاستعمار، ثم أربع غرف طويلة تحمي الأسوار المزدوجة وتحجب وراء الأقواس التي تحيط بالنساء، تضاف إليها شبكات حديدية مزخرفة تحف النوافذ، وأفاريز واسعة، وأشكال هندسية على شاكلة ورود ضيقة مزينة بأحجار كريمة وزمرد وياقوت وأفاريز وقرمود أبيض وأخضر مصنوع من التراب[11].

لكن هجوم المتمردين من القبائل على القائد أحمد الشافعي وحصاره داخل القصبة بعد وفاة مولاي الحسن الأول أدى إلى تخريب كثير من مرافقها، وهو ما جعل بيير كورات يتأسف على إتلاف الثوار للروائع المعمارية التي أبدعها معلمي البناء المهرة الفاسيين وصناع الخشب المراكشيين وصناع الخزف بسلا وحرفيو الصباغة من الدار البيضاء، في إشارة منه إلى مجموع المجهود الفني الذي بذل لجعل قصبة الشافعي تحفة معمارية قل نظيرها.. و يخلص كورات إلى أنه في القصبة يتعايش الكوخ المتواضع والمنزل الواسع والمريح والقصر الفخم، وهي كلها علامات على مراحل الحياة العامة للشافعي، وهكذا يندمج تاريخ العائلة مع تاريخ القصبة….

قادوس من الفخار يشهد على هذه الصناعة خلال القرن التاسع عشر وعلى عبقرية تدبير المياه بالقصبة

فتحة للتهوية بالحمام، صنعت من الفخار المعد على شكل اسطواني لدر الدخان.

قبة حمام القصبة بفتحة الإنارة والتهوية و خطوط زخرفية تحاكي قرص الشمس بشكل بديع

عبارة بركة محمد، بالحرف الكوفي المربع، منقوشة على جدار حمام القصبة، وهي الأول من نوعها حسب علمنا داخل قبة حمام بالمغرب، وحفظها من التلف أضحى ضرورة لا تقبل التأجيل

مثالين لبعض الأواني الخزفية من اللودع porcelaine عثرت عليها بالقصبة على شكل شقف tessons فقمت بلصقها لأخذ فكرة عامة عنها، وهذا مبحث آخر يحتاج إلى دراسة وافية حول الشواهد المادية عن أنماط العيش والحضارة داخل القصبة

والحال، أن بقايا قصبة الشافعي لا تكاد تحفظ أو تستحضر بعضا من جوانب روح المكان الذي نبض بالحياة لفترات تاريخية زاهرة. ذلك أن تحويلها إلى تكنة عسكرية شكل بداية تغيير ملامح القصبة المعمارية، ومنها كانت تنطلق الحاميات العسكرية الفرنسية لاستكمال إخضاع المناطق المجاورة خاصة منطقة البروج التي سينتقل إليها مركز حكم القبيلة بعد السيطرة الكاملة على بني مسكين.. ولمواجهة المغاربة، قام الفرنسيون بعد السيطرة على مقر قصبة دار الشافعي، بإزالة الجدران وفتح ثقوب بالأسوار للتهوية ولدخول أشعة الشمس كما يدعي بيير كورات، ولتسهيل عملية التصدي لهجمات المغاربة، كما أن سلطة الحماية لم تعر أدنى اهتمام للفسيفساء الجميلة والقرمود الأنيق الذي تم تدميره بواسطة رفس الأحذية الحديدية للجنود الفرنسيين[12]. وقد أكد بيير كورات أن العوامل الطبيعية كان لها دور كذلك في التدمير، والواقع أن الدمار الذي شمل القصبة لم يتوقف خلال فترة الحماية، بل استمر وتصاعد على مدار الحقب المتوالية، كما استعملت القصبة كمقر للدواب والمواشي والأمر لله…

تحولت القصبة في عهد الاستعمار الفرنسي إلى ثكنة عسكرية تضم 800 عسكري و30 ضابطا فرنسيا بعد نفي القائد الحسن بن أحمد بن الشافعي إلى مراكش، وتنصيب القائد الجديد محمّد بوحافة، وتنقيله فيما بعد إلى البروج أثناء زحف القوات الفرنسية سنة 1912 م، والتخلي عن القصبة بعد استغلالها من قبل القائد بوشعيب بوحافة، شقيق القائد محمد بوحافة، سنة 1914م.

صورة تشهد على مرحلة احتلال قصبة الشافعي من طرف الفرنسيين

عدد من الرحالة والدبلوماسيين الذين زاروا قصبة الشافعي، لذيوع صيتها كموقع عمراني فريد من نوعه في وسط قروي، وهو ما أثار انتباه عديد الأوربيين الشغوفين بالاكتشاف والغرائبية، بل منهم من قضى فيها ليالي عدة، مثل الطبيب الرحالة الألماني” أوسكار لانز” سنة 1886م لما كان متوجها في رحلته إلى تمبوكتو؛ حيث قضى ليلة بالقصبة في ضيافة القائد أحمد بن الشافعي، بالإضافة إلى زيارة أخرى للطبيب الفرنسي “ويس جيربر” سنة 1900 م، والذي أصبح مراقبا مدنيا لسطات سنة 1916م، وكذلك عدد من سفراء الدول الغربية كبريطانيا؛ القصبة اليوم شبيهة بأطلال شاهدة على أجيال مرّت من هناك، وصنعت أحداثا أثّرت في التاريخ المغربي الحديث..

من القرائن الدالة على أن دوام الحال من المحال، أن آل بوحافة المتغلبين بدعم السلطات الفرنسية شرعوا في الاستيلاء على أراضي دار الشافعي وخيراتها، يشهد على ذلك ولو بشكل جزئي ظهير شريف مؤرخ ب 13 ربيع الأول 1344،  31 أكتوبر 1925م، اطلعت عليه، يبيح البيع  بالمزاد العلني  أراضي الدولة الكائنة بقصبة دار الشافعي وملحقاتها.

وأيضا وثيقة عدلية تفوت أراضي كانت في ملك آل الشافعي إلى آل بوحافة مؤرخة سنة 1929م. فقد نشر في الجريدة الرسمية ليوم 3 سبتمبر سنة 1929، أن المسمى الجيلالي بن سيدي الحاج محمد بوحافة الساكن بدوار ليساسفة بفخذة أولاد فريحة، قد طلب تسجيل أرض باسمه كمالك لها، وهي أرض فلاحية من 85 هكتار تقع باولاد العكارية حيث توجد قصبة الشافعي، خالية من كل التزام أو تعرض، وادعى أنها ملك له بموجب وثيقة عدلية مؤرخة في 20 رمضان 1344ه، مواقف 9 مارس  1929م بيعت له بموجبها الأرض المذكورة من طرف الحسن بن محمد الشافعي..

نص الترجمة الفرنسية للظهير الشريف الذي يبيح لأمين الاملاك بالشاوية بيع قصبة دار الشافعي وملحقاتها بالمزاد العلني

ما من سبيل لردم الهوة بين الماضي والحاضر إلا بإعادة الإعمار :

قرأت عن مشروع برنامج التنمية المجالية لبلاد بني مسكين الذي رصدت له أموالا مهمة من أجل تهيئة بحيرة سد المسيرة بثروتها المائية والسمكية، وخلق منطقة سياحية وترميم قصبة الشافعي، اعتمادا على المعطيات التاريخية والآثارية والأنثربولوجية للمنطقة وإشراك الفاعلين المحليين المهتمين بتاريخ بني مسكين لإعادة إعمار القصبة.

كما أن ترميم قصبة دار الشافعي وإنعاش المنطقة سياحيا، خاصة وأنها تتوفر على بحيرة سد المسيرة ومجال غابوي مهم، شغل أيضا المجلس الجماعي خلال دوراته منذ عدد من السنين؛ حيث جرت مناقشة الموضوع وتوجيه مراسلات إلى الجهات المعنية من أجل ترتيب آثار جماعة دار الشافعي بالبروج، وضمنها قصر الشافعي “القصبة”، ومنتزه السلطان أبي الحسن المريني، والطريق الوطنية المسماة بطريق السلطان، في إطار شراكة بين الجماعة ومتدخّلين آخرين، وهي المراسلات التي تلقى في شأنها المجلس أجوبة من وزارة الشؤون الثقافية بقبول القيام بكل الإجراءات المفيدة في حماية الآثار بالمنطقة، بعد مطالبة الجماعة بإعداد ملف تقني لكل معلمة على حدة.

وقرأت كذلك أن المجلس الجماعي أفصح عن رغبته في المساهمة في ترميم القصبة ومنتزه أبي الحسن المريني، واستثمار المعطيات الطبيعية الأخرى كبحيرة سد المسيرة والمجال الغابوي “الظهرة”، لكن بعد ما يقرب من عقدين من الزمن على إعلان النوايا الحسنة، لم يتغير شيء في المشهد العمراني لقصبة الشافعي ومحيطها، إذ أن ولاية الشاوية ورديغة، وفق التقسيم القديم، كانت قد بعثت إلى كل رؤساء الجماعات بمراسلة، تطالبهم فيها باتخاذ كافة التدابير اللازمة لتسهيل مأمورية المكلفين بالأبحاث الميدانية من قبل فريق من المركز الوطني لجرد وتوثيق التراث بالرباط لجرد تراث إقليم سطات خلال الفترة الممتدة ما بين 20 يونيو و4 يوليوز 2005، لكن لا شيء يذكر حدث على أرض الميدان إلى حين زيارتنا لأطلال قصبة الشافعي ومحيطها….

لا يمكن في نظري أن يتم الإقلاع الثقافي والحضاري بمنطقة بني مسكين إلا وفق رؤية نسقية تبدأ بالوصف الكثيف لمعطيات الحضارة والعمران في المجال، ضمن سياقات التطور التاريخي والسياسي والأنثربولوجي، بعدها يعقد العزم على تحديد الاولويات بشراكة فاعلة بين المثقفين والمدبرين للشأن المحلي من أجل بدأ عمليات الترميم والإنقاذ والتهيئة.. وقد تبين من خلال هذه المساهمة المتواضعة أن المواقع التراثية بالمنطقة متعددة ومتداخلة سانكرونيا في الآن ودياكرونيا في علاقة الماضي بالحاضر، فقد استحضرنا مثلا من خلال السرد المختصر لسيرة آل الشافعي وعلاقتهم بالقصبة مواقع آثارية أخرى ينبغي التيقظ لوجودها الفعلي ضمن سيرورة الأحداث التي كان مسرحها القصبة ومحيطها، مثل زاوية شرفاء عين بلال التي التجأ إليها أحمد الشافعي بعدما ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وذكرنا كذلك المزار الذي خلد ذكرى غسل السلطان الحسن الأول بالبروج، وهو في حالة جيدة ماعدا بعض النقص في التدبير والنظافة وهي مسألة يسهل تداركها، وأخال المثقفين الفاعلين في البروج قادرين على ذلك، أضف إلى هذا مختلف القبائل التي ساهمت في الصراع على السلطة في محيط  مقر قيادة بني مسكين بالقصبة قبل وبعد الاستعمار الفرنسي… هناك أيضا طريق السلطان التاريخية، وقد ثب مرور الحرْكة السلطانية خلال العهد الإسماعيلي؛ متوجهة من مكناس إلى مراكش، وسط قبيلة بني مسكين، ومنذ هذه الفترة أصبح مجال بني مسكين طريقاً مطروقاً من مختلف السلاطين بين العاصمتيْن فاس ومراكش؛ بالإضافة إلى مواقع مادية يختلط فيها التاريخي بالأسطوري كمنزه السلطان أبي الحسن المريني… وإنني أتصور مسارا علميا ثقافيا سياحيا مندمجا يتتبع خيوط قصة الحضارة والسياسة والرياسة بمنطقة بني مسكين يسطر خرائطيا على الورق ويتم إعادة إعمار مختلف شواهده المادية بتوفير الحد الأدنى من الإمكانيات، قبل تبنيه كمسار ثقافي عمراني يبدأ الحركة في مسيره مثقفي المنطقة وأهل العلم وإشراك الطلبة والتلاميذ في الأمر، و توثيق ذلك وإعلانه  والكتابة حوله، لأن أهل الدار هم المنوط بهم القيام بذلك قبل غيرهم..

والله الموفق للخير والمعين عليه…

[1]  ولعل هذا مما جعل القبيلة موالية لعبد العزيز، بالإضافة إلى المصاهرة حيث زوج القائد بن الشافعي للسلطان إحدى بناته..

[2] أحمد عمالك، مادة بني مسكين، معلمة المغرب، ص 1576.

[3] HYPPOLYTE (Bardon), En Chaouïa chez les Beni Meskin, bulletin de la société  de géographie et d’études coloniales de Marseille, Tome 37,1911, p 241.

[4] ينحدر الشافعي المسكيني من بطن أولاد العكارية وهي ترجع، حسب الرواية الشفوية، إلى أصول صحراوية نزحت خلال العهد السعدي و استقرت بمنطقة سيدي بوعثمان قرب مراكش بجوار قبائل الرحامنة. ولفظ العكارية يعود لامرأة تدعى العكارية، نسبة لقبيلة عكارة الصحراوية بالساقية الحمراء؛ هاجرت هذه المرآة لمنطقة بني مسكين رفقة أبنائها واستقرت هناك، حيث استطاعوا في وقت وجيز فرض هيبتهم في على المنطقة مما دفع القبائل المجاورة إلى خطبة أبنائهم الذكور ودعوتهم إلى التزوج من بناتهم.

[5] عبد العزيز بن عبد الجليل، مادة أحمد الشافعي، معلمة المغرب، ص 5241.

[6] Khorat, Pierre, petite garnison marocaine, Revue des deux mondes, Tome 10, Paris, 1912, p6.

[7] Les guides bleus : Maroc, par Prosper Ricard, publié sous la direction de Marcel MONMARCHE Librairie Hachette, 1919.

[8] Idem, p 9

[9] Idem, p 9

[10] HYPPOLYTE (Bardon), En Chaouïa chez les Beni Meskin, bulletin de la société  de géographie et d’études coloniales de Marseille, Tome 37,1911, p 242.

[11]. شفيق رزيق، التراث المعماري بجهة الدار البيضاء-سطات دراسة، تنمية وتثمين، رسالة دكتوراه، كلية الآداب والعلوم الانسانية ابن مسيك، الدار البيضاء. السنة الجامعية 2022/2023. نقلا عن Khorat, Pierre, petite garnison marocaine, Revue des deux mondes, Tome 10, Paris, 1912, p

[12]  بيير كرات  مرجع سابق، ص 7.

د. جمال بامي

  • رئيس مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلامية، ومركز علم وعمران بالرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق