وحدة المملكة المغربية علم وعمرانفنون وعمران

سيدي عبد الموجود : آخر معلم فخار بقصر أولاد ابراهيم بناحية تامكروت

د. جمال بامي

الحديث عن تامكروت هو حديث عن العلم والعرفان وعن دور السادة الناصريين منذ سيدي محمد بن ناصر الدرعي وخليفته سيدي أحمد رحمهما الله في نشر العلم والصلاح وازدهار العمران، والمكتبة العامرة والقصبة الزاوية التي تنتظر من ينقذها من الإهمال والنسيان، لكن أيضا عن الثقافة والخبرات الكونية والإنسانية، لعل أشهرها فن الفخار والخزف التمكروتي الذي جابت شهرته الآفاق..

وقد قمت مؤخرا بزيارة جديدة للزاوية الناصرية ومحيطها برفقة الفاضل السيد محمد بناني حفظه الله، بحثا عن مؤشرات ثقافية مادية دالة على عمران ازدهر في هذه البقعة المباركة بفضل من الله..
وقد شكل الفخار والخزف محور بحثنا في هذه الزيارة العلمية لمحاولة الوقوف على ما تبقى من عناصر الهوية الثقافية في بعدها الفني والحرفي الذي لا يمكن فصله بحال عن ازدهار المدينة الزاوية وما ارتبط بها من عمران واجتماع بشري.
سألت السيد محمد بودلال بائع الخزف قرب الزاوية عن قرى مجاورة لازالت تزاول بها مهنة الفخار الآيلة إلى الانقراض، فدلني مشكورا على قصر أولاد ابراهيم الذي يبعد عن زاوية تامكروت بخمس كيلومترات، وأكد علي أن أسأل هناك عن السي عبد الموجود..

شكل العمارة في قصر اولاد ابراهيم

عند وصولنا إلى القصر المذكور بدت لنا سمات العمران الواحي المقاوم للزمن والمناخ والندرة والبيوت المبنية بالطوب وجريد النخل المبارك وضيق الأزقة وألفة المكان وروحانيته، سألنا عن سيدي عبد الموجود فدلونا عليه بسهولة كبيرة.. طرقنا الباب فخرج الفاضل سيدي عبد الموجود مستغربا وجودنا في وقت الظهيرة في وقت شديد الحر، فقلت له أنه دلني عليه محمد بودلال لأنني باحث عن تاريخ الفخار والخزف والمعمار في المنطقة، حينها اقتادنا إلى ورشه المجاور لبيته الذي يشبه ورشات العصور الغابرة، العصور التي شهدت انسجام الانسان الواحي مع محيطه البيئي والطبيعي والثقافي.. لولب قديم مصنوع بمواد محلية يشتغل بحركة الأرجل وحوض لترقيد الطين وفرن تقليدي لطهي الفخار..
سألت سيدي عبد الموجود عن من تبقى من معلمي الفخار في البلدة، أجابني بأسى أنه آخر فخار في القرية، قلت له لا بد أنك ورثت الحرفة لأبنائك فأجابني أن لا أحد منهم رغب في تعلمها، فأدركت أنني أقف بإجلال وتقدير وإكبار مع آخر معلم فخار في قصر اولاد ابراهيم بناحية تامكروت، والأمر لله..

المعلم الفخار سيدي عبد الموجود، حفظه الله

أدركت أيضا أن سر صمود سيدي عبد الموجود إلى اليوم رغم كبر سنه وقلة ذات اليد وآثار الجفاف والندرة هو شغفه بمهنة آبائه واجداده وإتقانه الكبير لحرفته وهو ما شهد به من دلوني عليه حفظهم الله، وقد امتزج الحزن عندي بالسعادة، حزن على شهادتي على انقراض مهنة فنية عريقة في البلدة وسعادتي لأنني تشرفت بلقاء هذا الرجل الفاضل المغربي الأصيل ومن تم تعريفي عموم الناس به وبكبر فنه وتعبيره عن عنصر جوهري في العمران المحلي يتجلى في التماهي مع معطيات البيئة المحلية لإنتاج الثقافة والخبرات والفنون…
يجلب سيدي عبد الموجود الطين من المحيط المجاور ولا يحتاج إلا إلى قليل من الرمل يضاف إليه ليصبح جاهزا للاستعمال بعد غمره في الماء وترقيده وتصفيته قبل أن تتناوله أيدي الفنان البارع ليتشكل في القوالب قبل أن يمر إلى اللولب لتكملة صنعه، ثم مرحلة التجفيف قبل العرض على النار في الفرن التقليدي الذي يشتعل بمخلفات ورق وأغصان النخل الجافة، بحيث يجتمع فن الكيمياء المحلية مع فن استعمال حرارة النار وفق معايير فنية موروثة منذ القدم..

الفرن التقليدي بورش سيدي عبد الموجود صنعه بيده، وهو نوع آيل للانقراض

بعض منتجات لمعلم سيدي عبد الموجود

والخلاصة تحف فخارية تجمع بين الاستعمال الوظيفي والتعبير الفني والثقافي مجسدة أساسا في القلة والقصعة، بحيث تتخذ هذه الأواني لونا أبيضا جيريا بعد إخضاعها للطهي تحت نار عالية.. وبمقارنتي بمنتوجات سيدي عبد الموجود مع ما عاينته في بعض المتاحف الخاصة النادرة في المنطقة أدركت أن الفنان الشيخ يعيد إنتاج تحف فريدة لم نعد نراها إلا في المتاحف، هذا الانتاج الذي سينقضي بانتقال سيدي عبد الموجود إلى الرفيق الاعلى أمد الله في عمره…

القصعة المحلية محفوظة في متحف خاص بمنطقة زاكورة، وهو النوع الذي لازال سيدي عبد الموجود ينتجه في ورشته

والحال أن رصد عناصر الثقافة المحلية في بعديها الوظيفي والفني مسألة شديدة الأهمية في مستقبلنا الثقافي والحضاري، فالثقافة ليست مجرد احتفال ومظاهر ومناسبات، بل الثقافة الحقيقية هي ما نتج عن التفاعل الواعي للإنسان المغربي مع محيطه البيئي من أجل إنتاج الخبرات الكونية والإنسانية والثقافية التي تجعل الحضور في المكان والزمان مسألة وجودية..
شكرا سيدي عبد الموجود على ما قدمته وما تقدمه لبلدتك ودينك ووطنك وقد كنت أحد أبرز الفاعلين في تطرقنا إلى هذا الموضوع ذي الأهمية الثقافية الكبرى، والله الموفق للخير والمعين عليه….

د. جمال بامي

  • رئيس مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلامية، ومركز علم وعمران بالرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق