وحدة المملكة المغربية علم وعمرانفنون وعمران

بركة محمد في فن المعمار المغربي

د. جمال بامي

يجذب الزائر إلى مدينة الصويرة حرسها الله، وجود عبارة “بركة محمد” كتوقيع رمزي مقدس في كثير من العناصر المعمارية بالمدينة، كالقصبات والأقواس والمساجد وجدران المنازل وأبوابها.

إن أصل وجود هذا الرمز المبارك يعود تاريخه إلى منتصف القرن الثامن عشر الميلادي، ويحمل ختم السلطان سيدي محمد بن عبد الله العلوي؛ يتعلق الأمر بعبارة “بركة محمد” مخطوطة بالخط الكوفي الهندسي المربع، ومنقوشة على عمائر الصويرة التي أسست على تقوى من الله، وهي تمثل إرثا روحيا يحكي عن السكان الأوائل للمدينة الذين شهدوا انبعاث مدينة ببركة محمد، على يد ملك بان عارف بمنطق العمران اسمه محمد، هو السلطان العالم سيدي محمد بن عبد الله العلوي رحمه الله.

ولعل أشهر “بركة محمد” اليوم تلك التي تستقبل الداخل إلى المدينة، على الواجهة البحرية من جهة الجنوب، على شكل نحث عظيم أنجزه الفنان المبدع حسين الميلودي رحمه الله سنة 1978م ، بأسلوب حروفي هندسي متقن، اعتمد أساساً على جمالية الخط الكوفي الهندسي المربع؛ والتي بدت شامخة بطول خمسة أمتار، باللونين الأصفر والبرتقالي، لكن مع توالي السنين، أصاب هذا الأثر الفني المعماري العظيم شحوب وضمور، إلى أن قيض الله لها من قام بتجديدها سنة 2013م، لتكتسي الشكل الأخضر اللامع بفضل الكساء الممزوج بالزاج الذي تكتسيه اليوم، معلنة للزائر منذ اللحظة الأولى لدخوله المدينة عن مدى تجذر هذه العبارة المباركة في حياة وتاريخ ووجدان أهل الصويرة.

نحث يجسد بركة محمد أنجزه الفنان المبدع حسين الميلودي رحمه الله سنة 1978م بالصويرة.

ولاشك أن الفنان حسين الميلودي قد ساهم بإبداعه الكبير هذا في إعادة الذاكرة التاريخية والمعمارية والثقافية للصويرة إلى الواجهة، ذلك أن عبارة “بركة محمد” هي بمثابة إعلان ميلاد هذه المدينة المباركة بفضل من الله، ونحثها على هذا الشكل البارع في مدخل المدينة هو بمثابة تشييد رمزي لماضيها وتأسيس فني مبتكر ينتزع جذور كيان الصويرة ووجودها من المحو والنسيان ليربط ماضيها بحاضرها ببركة محمد..

لقد ألهمت الكتابة الكوفية القديمة هذا السلطان العظيم فاختارها، بوعي حضاري كبير، شعارا ورمزا لكتابة عبارة  بركة محمد”، التي طواها النسيان منذ العصر المريني الذي استعملت فيه في بعض المآثر المحدودة، لإعلان ميلاد جديد لها من جهة، لكن أيضا احتفاء بالخط الكوفي الذي يعتبر من أعرق الخطوط في الحضارة المغربية في المخطوط والمنقوش.. و بأمر السلطان المؤسس، نقشت عبارة “بركة محمد” في العديد من الأماكن بالصويرة، على الجدران والأسوار، والقصبات والسقالات والمساجد..

من أمثلة ذلك وجود نقيشة عليها “بركة محمد” في سقالة القصبة، على قطعة من الحجر المنجور بجوار المدفع المطل على المحيط؛ ولعل هاتين الكلمتين بمثابة تيمن ببركة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وتتكرر العبارة ذاتها على واجهات البرج المشرف على المرسى، وأهم ما يستوقفنا في هذه النقيشة أنها كتبت، غلى خلاف نقائش أخرى، بالخط الكوفي المربع[1]. وكلها نقائش تعكس بعمق الإرث الحضاري الإسلامي للمدينة، وتشهد على عمق إيمان ساكنة الصويرة بالدين الحنيف وعمق محبتهم للرسول محمد صلى الله عليه وسلم.

بركة محمد بالخط الكوفي المربع منحوتة في الحائط الغربي للسقالة الكبيرة بالصويرة

بركة محمد بالخط الكوفي المربع منحوتة في واجهة سقالة مرسى الصويرة

كما استعملت عبارة “بركة محمد” كشعار لختم السلطان سيدي محمد بن عبد الله، ولا غرابة أن نجد السلاطين العلويين بعد ذلك يحرصون على بصم الأختام والطوابع السلطانية بميسم خاص وذلك باستعمال عبارات مستمدة من التراث الممجد للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، كأبيات من قصيدة البردة وعناصر من الحلية النبوية الشريفة.

من الناحية الدينية والسياسية، تحتوي نقوش الصويرة على رموز قوية لها دلالات مغربية عميقة، منها استعمال عبارات من قبيل ” الثغر” و “أمير المؤمنين الشريف”، بالإضافة إلى أبيات من قصيدة البردة للإمام البوصيري[2]، مما يبرز أن عبارة بركة محمد التي اتخذت كشعار لمدينة الصويرة تدعمها إشارات عديدة نقشت في مختلف عمائر المدينة لها صلة بتمجيد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.

وقد بدا أن عبارة “بركة محمد” التي اشتهرت بها مدينة الصويرة مرتبطة بها عضويا وتميزها دون غيرها من المناطق، حتى غذت بركة محمد تحيل على الصويرة، وهذه الأخيرة تحيل على بركة محمد، لكن النبش في المدن العتيقة المغربية يجعلنا ندرك أن هذه العبارة المباركة منتشرة في مناطق أخرى من المملكة المغربية الشريفة، في أبواب المساجد وعلى المحاريب والمنابر والصوامع وأروقة الزوايا والقصور السلطانية والمنتزهات والسقايات، وأبواب الدور…

ولقد أثار انتباهنا وجود هذه العبارة في بادية الخميسات، منقوشة بالخط الكوفي المربع على قنطرة أثرية تدعى قنطرة “أفلوس” أي قنطرة الديك،“، على وادي بهت بآيت سيبرن من قبائل زمور، يبدو من ملامحها المعمارية وموقعها الجغرافي في الطريق التاريخية الرابطة بين رباط الفتح وفاس، أنها من العصر الموحدي. ولو أننا نفتقر لنص واضح يتحدث عنها، فإن هندستها المعمارية ذات الطراز الموحدي المتمثل أساسا في شبكة المعينات المتجاورة، كالتي تزين صومعة حسان بالرباط وصومعة الكتبية بمراكش، يجعلنا نميل إلى اعتبارها موحدية.

وإذا كان وجود قصر أم السلطان بجوارها وهو المنسوب إلى لالة مسعودة الوزكيتية، والدة السلطان أحمد المنصور الذهبي، يجعل البعض، دون دليل علمي واضح[3]، يرجح نسبة القنطرة إلى السعديين، على اعتبار وجود القصر الذي كان معدا لاستقبال المسافرين وعابري السبيل، بما يشبه محطة استراحة توفر المؤونة والأمان، لا يمكن أن يكون معزولا عن قنطرة على الوادي الذي تقطعه الطريق التي يسلكها المسافرون قبل بلوغ مكان الإقامة المرحلي الذي أعدته لهم لالة مسعودة  الوزكيتية، وهي التي اشتهرت بأعمالها الخيرية في معظم ربوع المملكة، لكن الطابع المعماري الموحدي البارز للقنطرة يقلل من هذا الاحتمال.

في كتاب “قبائل  زمور والحركة  الوطنية” لأحمد  بوبية، نقرأ “ومن المعلوم  أن المحطات التي  كانت  تعرف بدور أم السلطان  كانت من أعمال  الخير  والاصلاح التي  قامت بها أم السلطان  السعدي  أحمد المنصور  الذهبي،  المعروفة بلالة  عودة (مسعودة)؛ فقد كانت موئلا  وملجأ  للمسافرين من سراة وأمراء  وتجار، الذين كانوا  يأوون  إليها  مطمئنين  بعدما يقطعون  المسافات على ظهر الدواب  أو على أرجلهم،  وهناك يأخذون  قسطهم  من الراحة  بعدما يتناولون طعامهم،  فينامون مطمئنين  لا يخافون من كوارث الطبيعة من حر وقر في الصيف  والشتاء،  و لا من عادية البشر التي كانت كثيرا ما تعترض  المسافرين والقوافل  بالسوء،  واليوم أصبحت  تأوي  اﻷموات  من أهل الناحية ، بحيث اتخذوها  مقبرة  لهم ومزارة يزورونها للذكرى  والاعتبار”.

وعن تأسيس  الجسر، هناك من يرجعه  إلى ما قبل العهد السعدي،  مثل الباحث  مولود  عشاق، في كتابه “تاريخ  منطقة زمور”، إذ يقول:  و”توجد على اﻷعمدة  رسوم مزخرفة  مطابقة لنقوش  صومعة حسان بالرباط،  مع نقيشة  كتب عليها بركة محمد بالخط الكوفي؛ وقد عزا اﻷهالي  بناء الجسر للأجانب،  ويبدو باﻷحرى  أنه من عمل المرينيين أو ربما من عمل الموحدين”.

بركة محمد منحوتة في الصخر بقنطرة آفولوس على وادي بهت بآيت سيبرن

وإذا صح أن قنطرة أفلوس او قنطرة البركة موحدية، فإن هذا سيغير من تاريخ عبارة ” بركة محمد” في نقائش العمارة المغربية. ذلك أن أقدم النقوش الحاملة لعبارة ” بركة محمد” تعود إلى العصر المريني، إذ نجد في المدرسة المرينية بحاضرة مكناس هذه العبارة منقوشة على الخشب بشكل بارز في صحن المدرسة، وهو في نظري أقدم نقش معروف نقشت عليه عبارة بركة محمد قبل اكتشاف العبارة منقوشة على الحجر في القنطرة ” الموحدية” على وادي بهت.. كما أن الخط الكوفي المربع بنفسه نادر في الاستعمال في النقائش المغربية، إذ لم يظهر إلا مع منتصف القرن الرابع عشر، إبان العصر المريني، في منارة سيدي يوسف بتلمسان وفي مدرسة الصهريج بفاس[4].

بركة محمد منقوشة على الخشب في بهو المدرسة المرينية بمكناس

يمكن تلخيص تطور حضور عبارة “بركة محمد” في النقوش المعمارية المغربية، في حدود المعلومات النادرة التي نتوفر عليها، بالقول أنها ظهرت خلال العصر الموحدي، وكونها نقشت بالخط الكوفي المربع يزيد من هذا الاحتمال على اعتبار عراقة هذا الخط القديم في النقائش الإسلامية المغربية الأولى، لكن نحتاج إلى العثور على مآثر موحدية أخرى تحمل نقش “بركة محمد” لدعم هذه الفرضية.. بعد ذلك ستظهر عبارة ” بركة محمد” في صحن المدرسة المرينية بمكناس عام 1345،  وبالمدرسة البوعنانية بفاس عام 1350م، كما سنجدها بشكل نادر، في بعض المساجد والزوايا التي أسست في أواخر العصر السعدي وبداية العصر العلوي كالزاوية الفاسية بالقلقليين بفاس وزاوية سيدي أحمد بن يحي اللمطي بفاس، إلى أن قرر السلطان سيدي محمد بن عبد الله العلوي جعل عبارة ” بركة محمد” كشعار معماري لمدينة الصويرة التي أسست على تقوى من الله ببركة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وبهمة السلطان سيدي محمد بن عبد الله، فانبثقت هذه العبارة المباركة في كل ربوع المدينة، في الأبراج والسقالات والمحاريب وأبواب المنازل، معلنة عن اتحاد العمران بالقيم الروحية والثقافية التي تشكل ثوابت الاجتماع الإنساني المغربي، وعلى رأسها الاحتفال بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم ومولده.

بركة محمد منحوتة في صومعة مسجد ضريح المولى إدريس الأكبر بزرهون

والحال، أنه لا يمكن الفصل بين وجود “بركة محمد” على النقوش المعمارية والفنون التطبيقية بالمغرب الأقصى وبين باقي مظاهر الاحتفال بالرسول الأعظم في العمران المغربي مثل نقوش التصليات والمدائح النبوية، كنقش أبيات من بردة البوصيري على العمائر بمختلف المدن المغربية، وهذا ما وقفنا عنده في مقالة سابقة..

بعد اعتماد ” عبارة بركة محمد” كشعار لمدينة الصويرة خلال القرن 18م، سنجدها تنقش في مناطق أخرى من المغرب منذ عصر سيدي محمد بن عبد الله، كتلك الموجودة في سقالة الرباط التي يعود تأسيسها إلى عهد السلطان المذكور، أو تلك الموجودة في باب مدخل مسجد أبي محمد صالح بآسفي..

بركة محمد منحوتة في الصخر في مدخل سقالة الرباط من عهد سيدي محمد بن عبد الله

وستحظى هذه العبارة بعناية كبيرة في المآثر التاريخية العلوية اللاحقة على عصر محمد بن عبد الله، إذ سنجدها مرسومة في جدران منزه المنارة بمراكش وفي سقاية قصر الباهية بنفس المدينة، وعلى باب زاوية الشيخ ماء العينين بالطالعة الصغرى بمحروسة فاس.

بركة محمد بمحراب ضريح عبد القادر الفاسي بحي القلقليين بفاس

بركة محمد في منبر المسجد الاعظم بآسفي

بركة محمد في زاوية قبة ضريح سيدي أحمد بن يحي اللمطي بفاس

بركة محمد في مدخل منتزه المنارة بمراكش

بركة محمد منقوشة على الخشب في باب منزل بالمدينة القديمة بزرهون

بركة محمد منقوشة على الخشب في واجهة نافذة ضريح سيدي قدور العلمي بمكناس

بركة محمد في الحليات النبوية المغربية

بركة محمد بالخط الكوفي المربع المصبوغ، محاطا بزخارف نباتية بديعة، في سقاية بزنقة الباهية بمراكش.

بركة محمد منحوتة بخط الثلث المغربي، وسط نجمة ثمانية الأضلاع، بواجهة باب المسجد الأعظم بالرباط، وهذا الخط استثناء فريد في كتابة عبارة بركة محمد المعتاد كتابتها بالكوفي المربع

وقد تنوعت طرق نقش عبارة “بركة محمد” في العمارة المغربية، إذ نجدها نقشت على الجبس وعلى الرخام وفي الصخر وعلى الخشب، كما رسمت على الجدران أو على الخشب مثل منبر المسجد الأعظم بآسفي، إلا ان خط كتابتها بقي ثابتا لم يتغير منذ نقش قنطرة ” أفلوس” إلى أحدث النقوش في العصر العلوي المتأخر، وهو الخط الكوفي المربع أو الهندسي، ماعدا نقش بركة محمد في واجهة باب المسجد الأعظم برباط الفتح التي يشكل استثناء فريدا من نوعه.

ولا شك أن استلهام هذا العنصر الزخرفي الذي يمجد ويتبرك بالرسول الاعظم صلى الله عليه وسلم في العمارة الحديثة من شانه أن يعيد إلى الأذهان أهمية استلهام العناصر الزخرفية والجمالية في العمارة من التراث الروحي والثقافي الإسلامي الذي يشكل أساسا وجوديا بالنسبة للمغاربة، وبذلك يغدو الحامل المادي للحضارة منسجما بشكل جدلي مع الانتماء الروحي والمعرفي والثقافي للأمة المغربية بفضل من الله، والله الموفق للخير والمعين عليه.

[1] مينة لمغاري، مدينة موكادور السويرة، دراسة تاريخية وأثرية، دار أبي رقراق، 2006 ص135.

[2] توجد في الزاوية القادرية بالصويرة، بيت من البردة هو :

بشرى لنا معشر الإسلام إن لنا   من العناية ركنا غير منهدم

كما توجد أبيات أخرى من البردة في نقيشة باب القصبة القديمة:

ومن تكن برسول الله نصرته   إن تلقه الأسد في آجامها تجم

ولن ترى من ولي غير منتصر    به ولا من عدو  غير منقصم

[3]  أحمد  بوبية: قبائل زمور والحركة الوطنية، ص108، وص111.

Prosper Ricard, pour comprendre l’art musulman, p183[4]  نقلا عن : مينة لمغاري، مدينة موكادور السويرة، دراسة تاريخية وأثرية، ص135-136.

د. جمال بامي

  • رئيس مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلامية، ومركز علم وعمران بالرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق