وحدة المملكة المغربية علم وعمرانفنون وعمران

حينما يشع نور الإبداع من البادية إلى الحاضرة : الفخار والخزف بقرية بوغرارت بدمنات نموذجا

د. جمال بامي

من الطريف أنني تعرفت على قرية بوغرارت بدمنات قبل أن أزورها حين كنت أبحث في تاريخ وحضارة فن الخزف في حاضرة سلا حرسها الله. فخلال عملي الميداني بمعية خيرة الفنانين الخزفيين بمركب الولجة بمدينة سلا تردد اسم بوغرارت كثيرا، كان ذلك أول مرة مع المعلم الخزفي الكبير سيدي أحمد الغالمي حفظه الله، وهو مع أخيه الأصغر يوسف في ورشتهما المسماة الأمل،  قد ورثا سر فن أسرة عريقة عشقت علمي الفخار والخزف حتى النخاع، فتبين لي أن الوالد سيدي عبد السلام الغالمي رحمه الله، قد قدم من قرية بوغرارت، وان ابنه المرحوم محمد الغالمي كان من خيرة معلمي الخزف على مستوى الوطن..  بعدها تعرفت على الفاضل المبدع الخزفي سيدي سعيد بن عبد العزيز بن عمي صاحب الورشة المسماة دمنات، لأنه وأسرته العريقة في فن الخزف ينحدرون من إينولتان، من قرية بوغرارت بالضبط.. ووقفت على ورشة أخرى بالمركب الخزفي بسلا تحمل اسم ولتانة لمؤسسها عبد القادر دليلي رحمه الله، نسبة إلى أكبر تجمع قبلي في دمنات وأخرى تحمل اسم بوغرارت، فتساءلت عن سر وجود دمنات في قلب مدينة سلا؟؟؟

لقد تبين لي بالملموس أن قرية معزولة في الأطلس الكبير الأوسط لها كل هذا التأثير في فن الخزف السلاوي، وحواضر مغربية أخرى، تستحق وقفة علمية تحليلية نستشف منها سر تفوق هذه القرية المباركة في فن الخزف الذي يعتبر من أهم أشكال التعبير الفني والحضاري لدى الشعوب.. فكان قرار القيام بزيارة البلدة لمحاولة فهم بعض خصائصها الثقافية والأنثربولوجية، وهو في نهاية المطاف بحث عن جانب من جوانب العبقرية المغربية المبثوثة بين ثنايا الجبال، وكيف انتقلت ليشع نورها على حواضر عرفت بعراقتها في مجالات الإبداع والمعرفة…

لما سألت سيدي أحمد الغالمي عمن سيكون لي سندا في بوغرارت خلال عملي الميداني، ذكر لي معلما خزفيا اسمه سعيد، وأكد علي أن أتواصل مع سيدي سعيد بن عمي لأنه أكثر معرفة بسميه وصديقه، وهو الأمر الذي تأكد بحيث علمت من سعيد بنعمي أن سعيد عومري أصيل بوغرارت والمقيم فيها الآن قد اشتغل طويلا في المركب الخزفي بسلا قبل أن يقرر العودة إلى بلدة آبائه وأجداده، أملا في الإسهام في تجديد فن الخزف في قرية بوغرارت بعدما أصابه فتور…

وصلت بحمد الله إلى بوغرارت مرفوقا بسيدي محمد بناني بارك الله فيه، فاستقبلنا السيد سعيد عومري بحفاوة كبيرة تعبر عن كرمه وأصالته وفنه، وقد زاده حرصا تلبية رغبة صديقه سعيد بن عمي الذي أوصاه بنا خيرا، فالله يبارك فيهم جميعا ويجازيهم خيرا على خدمة العلم والوطن.

كان الحوار مع سعيد عومري مفيدا وكثيفا زاده إفادة تأكيد الخزفي البوغرارتي الأصيل على الربط في مادته الخبرية بين بوغرارت وسلا والرباط ومراكش والمحمدية وغيرها من مدن المملكة، وهو ما توافق، بتوفيق من الله، مع منطلقاتي المنهجية المتبعة في هذا العمل العلمي المتواضع.. وقد حدثت السيد سعيد عن مفارقة بين تألق فخار بوغرارت منذ قرون وعن خلو المصادر والدراسات عن أي حديث علمي حوله، مما جعلني لا أعثر على ما ينفع في هذا المجال، باستثناء ذكر القرية والفخارين العاملين بها في كتاب الأنثربولوجي الألماني فوسن عن الفخار المغربي سنة 1986م، إلا على نتف متفرقة على شكل أعمال صحفية منها حوار جميل أجرته البوابة الإلكترونية لأزيلال سنة 2013 مع الخزفي سيدي عمر الصادقي أصيل بوغرارت والمقيم في سلا شفاه الله، والتي أكد فيها أن عمل الفخار في بوغرارت يمتد إلى أكثر من أربعة قرون، بل إن مقلع الطين المجاور للبلدة قد استغل على مدى عشرة قرون كما نسب ذلك السيد الصادقي لباحثين جيولوجيين لم يذكر أسمائهم.

وقد سبق للسيد عمر الصادقي أن عثر بالدوار على قطعة من الفخار قديمة جداً، كان ذلك في قبر اكتشفه أثناء أشغال البناء في البيت الذي يسكن فيه، وقد وجدت الجثة  في وضعية جلوس، وهو ما يؤشر على قدم ممارسة صناعة الفخار  بمنطقة بوغرارت.

 أما منتوجات بوغرارت فكانت القلال الصغيرة والكبيرة للمياه، و”تقسريت” لعجين الخبز و”أقسري” وهو إناء ضخم للتصبين، و”أحلاب” لوضع الحليب، و”تدقيت” للحريرة و”الخيبيت” لوضع السمن والعسل و”أكدور” للزيت في الحجم الكبير والصغير و”إكنكسو” لطهي الكسكس مع “تكنبيت”، أي  “البرمة” وأشياء أخرى..

يؤكد السيد عمر الصادقي إن أول هجرة لمعلمي الفخار ببوغرارت كانت سنة 1924، قام بها السيد المعلم بن سي ناصر رحمه الله، وكان أن انتقل إلى منطقة تدعى ب( بوشوينيطة ) بإقليم  بن سليمان، وقد كان سببا في هجرة العديد من الحرفيين من بوغرارت إلى جمعة فضالات، ومنها أيضاً هجرات إلى منطقة أولاد بوزيري بإقليم سطات، حيث أن الفضل يرجع لهؤلاء المعلمين في تأسيس صناعة الفخار بهذه المناطق بفضل من الله .

أما بداية اشتغال أبناء بوغرارت في الخزف بالرباط وسلا فكان بهجرة السيد لحسن بلعجان والمعلم عبد العزيز بن عمي والمعلم عبد القادر دليلي، رخمهم الله، وكان ذلك في بداية الستينات..

لقد تحولت بوغرارت من الاقتصار على صناعة الفخار باعتباره طينا مطهيا إلى إضافة الخزف باعتباره طينا مزججا بألوان مختلفة قبل الطهي سنة 1982، حسب ما يخبرنا المعلم الخزفي المخضرم عمر الصادقي، وذلك نتيجة لانحسار تجارة الفخار التقليدي بسبب منافسة أواني غير طينية للمنتوجات المحلية، مما أدى إلى فقدان العديد من المعلمين لموارد عيشهم، وبالنظر لتجربة السيد الصادقي السابقة في صناعة الخزف في حاضرة سلا فقد وقع الاتفاق بينه وبين المعلم دليلي عبد السلام، وهو رفيقه في رحلة العمل في الخزف بسلا، على إقامة مشروع تجديدي للحرفة بعد أن قاما بالدراسات اللازمة بما فيها أخذ عينات من طين دمنات وتجريبها في المختبر، حيث كانت النتائج مشجعة إذ اكتشفوا بمعمل فخار بوغرارت بسلا، واسم الورش له دلالة كبرى هنا، أن هذا الطين ذو جودة عالية في تصنيع الخزف، وهكذا قام عمر الصادقي ببناء أول مشروع للخزف ببوغرارت أسماه مصنع فخار الأطلس، وكانت البداية بتأهيل أبناء بوغرارت الذين أصبحوا معملين على التقنيات الجديدة المرتبطة بالخزف تحت إشراف المعلم دليلي عبد السلام، وكانت التجربة رائدة تمكنا من خلالها من إنقاذ الصنعة من الضياع، لدرجة أن عرفت البلدة هجرة مضادة لعمال قادمين من سلا ومراكش للاشتغال  بدوار بوغرارت، وكانت أول المنتجات الخزفية آنذاك هي “السوبيرة” soupière و”الزلايف”bols التي شهدت إقبالا منقطع النظير وأواني الديكور والمحابق pots..

هاجرت صناعة الخزف البوغرارتي  بدورها لمناطق أخرى من المغرب بفضل أبناء بوغرارت كأكادير مع المعلم عبد السلام بقاس، وأوريكا بناحية مراكش مع المعلم عبد القادر بلفساحي الذي يعتبر أول من أدخل فن السيراميك لأوريكا وأكادير بجماعة تمسية طريق تارودانت..

ولأنني أستعمل كتاب الأنثربولوجي الألماني فوسن حول الفخار المغربي كدليل لرصد مناطق صناعة الفخار والخزف بالمغرب، فقد تبين لي أن قرية بوغرارت لا تشكل استثناء في صناعة الفخار في قبائل إينولتان، إذ اشتهرت منطقة تغرمين بفني الفخار والخزف، وكانت تعرف بصنع الزلايف، وهي آنية متعددة الاستعمال يوضع فيها الحساء ومختلف السوائل وحسكات الشمع، أما الخزف المحلي فكان يطلى بالكحل مما يكسبه لونا بنيا فاتحا بعد الطهي، كما اشتهرت منطقة  تيفغمات، ناحية ايت واودانوست أيضاً بهذه الحرفة خصوصا صنع  الفراح الذي يطهى فيه الخبز وكذلك المجمر، بالإضافة إلى خوابي فريدة من نوعها تستعمل لتربية النحل.

الفنان الخزفي سعيد عومري في ورشته ببوغرارت

جانب من المنتجات الخزفية بورش سعيد عومري

طلبت من سعيد عومري أن نزور هاتين القريتين بحثا عما تبقى فيهما من صناعة الفخار، فرافقنا حفظه الله بحماس كبير، لكننا فوجئنا أن صناعة الفخار العريقة في هاتين القريتين لم يتبقى منها إلا الأطلال. علمنا أن فخار وخزف تيغرمين انقرض سنة 2010م، وأن آخر فخار بالقرية هو السيد عبد المالك هرموم الذي ترك فرنه ولولبه مضطرا ليبيع أواني فخارية ليست من صنع يده داخل المدينة العتيقة بدمنات، وقد قمنا بزيارته ليؤكد لنا ما صار إليه أمر حرفة لم تعرف قرية تيغرمين إلا بها منذ قرون، أما آخر معلم فخار في قرية تيفغمات فتوفي رحمه الله منذ سنتين.

أطلال ورش فخار بقرية تيفغمات التي انقرضت فيها الصناعة

نموذج خابية لتربية النحل كانت تنفرد بها قرية تيفغمات

أطلال آخر فرن في قرية تيغرمين التي انقرضت بها حرفة الفخار والخزف لصاحبه عبد المالك هرموم

آخر لولب أثري كان في ملك آخر فخار في تيغرمين، وهو مادة متحفية تحتاج للإنقاذ

نموذج للخزف المحلي الذي كان يصنع في قرية تيغرمين وقد صار اليوم من الماضي

لقد صارت بوغرارت القرية الوحيدة الصامدة في مجال صناعة الفخار والخزف، فلما استفسرت السيد سعيد عومري عن سر هذا الصمود أخبرني أنه يعزى، بالإضافة إلى تشبت بعض أبناء القرية بحرفة آبائهم الأصيلة، إلى تغير نسبي في وسائل الإنتاج، فقد عممت أفران الغاز عوض الأفران الخشبية وتم تبني العمل بالقوالب moules بالإضافة إلى العمل باللولب، وتمت مسايرة السوق والطلب بحيث انقرضت الخوابي والكنبورة والبرمة التي يطهى فيها مرق الكسكس، بحيث كان نوع منها يسمى إلخدامن نايت عجان، أي البرمة التي اشتهر بها أهل آيت عجان كدلالة على التخصص والتجذر والإتقان.. والحال أن المشهد العام في القرية يغلب عليه سيادة القصرية التي يعجن فيها الخبز ويقدم فيها الكسكس نظرا لكثرة الطلب عليها محليا ووطنيا، وهي الآن مصدر رزق المئات من الأسر.. ولا يظهر أن تحولا وشيكا قد يغير من هذه الوضعية التي تبدو فيها بوغرارت نشيطة ظاهريا في صناعة الفخار، لكن روحها الفنية والثقافية التي جعلت حرفييها يبثون فنهم في مختلف بقاع المغرب خلال عقود ضعفت وتلاشت. وإنني أذكر في هذا الصدد أنني لما سألت سعيد عومري عن فنان خزفي في أوريكة ناحية مراكش أثارت انتباهي صورة له في كتاب الأنثربولوجي فوسن المذكور يحمل في يده آنية خزفية روعة في الإتقان في ورشة تحمل اسم “إيمي نفري” وهي الشلالات المشهورة قرب دمنات، فوجئت أن الأمر يتعلق بالسيد محمد العمري عم صاحبنا سعيد، وهو أصيل قرية بوغرارت هاجر منها ليبث علمه وخبرته بمنطقة مراكش..

لمعلم محمد العمري رحمه الله، أحد أكبر رواد فن الخزف في تاريخ بوغرارت، وكان ينافس على جوائز وطنية

وأصل القصة أن المعلم محمد العمري هاجر من بوغرارت سنوات الستينات حيث كان يشتغل بالبرادة في منطقة سيدي اعمارة، ومنطقة مراكش كانت معروفة بحرفة الخزف التقليدية حيث أنها كانت قديمة فيها، أما الخزف الفني فكانت بدايات ظهوره بها من خلال تجربة قام  بها أبناء بوغرارت عمر الصادقي مع مهندس مختص في الصناعة المعدنية السيد لحبيب العمري، إذ من خلال التجربة التي راكمها عمر الصادقي في تعلم الخزف بسلا عند خاله ابن بوغرارت الحاج عبد القادر دليلي سنة 1971 ،المستفيد بدوره من التطور الذي عرفه علم الخزف بسلا على يد الفنان المبدع الفرنسي جان لوران، اتفق والسيد المهندس بعد سلسلة من التجارب، على تطوير صناعة الفخار والانتقال إلى الخزف تماشيا مع إكراهات التسويق التي أصبح يعرفها مجال الفخار، فكان أن وضعا أول مشروع لصناعة الخزف وهو عبارة عن معمل أطلقوا عليه اسم (إمي نفري)  بمراكش، حيث صنعت أول قطعة خزفية فيه، وهو المعمل الذي استفسرت السيد سعيد عومري عنه، فبدا أن له علاقة بعمه سيدي محمد رحمه الله.

إحدى إبداعات الفنان سعيد عومري، وقد اهداني إياها مشكورا لتنظم لمجموعتي الخزفية

ليس غريبا إذن أن يعمل سيدي سعيد عومري جاهدا ليحافظ على تراث آبائه وأجداده، وهو المتشرب للتراث الحرفي للعائلة والقرية الأم والمنفتح على الخزف الفني الذي أتقنه في حاضرة سلا، التي نراها ترد الجميل لبوغرارت بعدما ساهم أهل هذه الأخيرة في بث الروح في فخار سلا الذي أصابه فتور، فكان إسهام أهل بوغرارت كبيرا في تطور صناعة الفخار والخزف في العدوتين الرباط وسلا. وما أثار انتباهي هو حرص  سعيد عومري على إشراك أسرته الصغيرة في أعمال الخزف وهو واع بأن استمرار هذه الحرفة المباركة رهين بتلقينها إلى الأبناء وجعلها علما وهواية وشغفا في آن واحد، والحال أن الدينامية التي شهدتها في ورشة صاحبنا سعيد تدل على وعيه بأن مصير بوغرارت ومستقبلها لا ينبغي أن ينفصل عن تاريخها الفني والثقافي في مجال الفخار والخزف.. وإنه لمن الضروري أن يفكر أهل الشأن الثقافي في إنشاء متحف للخزف والفخار بمدينة دمنات يؤرخ لهذه المهنة في المنطقة ومميزاتها الفنية وإشعاعها الوطني الذي حاولت ان أبرز بعض ملامحه في هذه الدراسة المتواضعة..

هكذا بدت خيوط قصة فخار وخزف بوغرارت تنسج بشكل يثير الدهشة من قرية صغيرة مجهولة في الأطلس الكبير الأوسط، ساهمت بشكل ملفت للنظر في ازدهار فن الفخار والخزف في مختلف الحواضر المغربية، إنها قرية تختزل حضارة الجبل في بلدنا المبارك، حضارة تنسج عبر علاقة جدلية بين الغيب والإنسان والطبيعة تتجسد عمليا في العمران الجبلي المتميز وجوديا بالانسجام مع المحيط الحيوي وتبني العلم والصلاح كضامن لاستقرار الجماعة…

د. جمال بامي

  • رئيس مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلامية، ومركز علم وعمران بالرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق