وحدة المملكة المغربية علم وعمرانفنون وعمران

إطلالة أنثربولوجية على صمود صناعة الفخار ببادية دكالة: دوار الحشالفة بقبيلة اولاد حسين نموذجا

د. جمال بامي

وأنا أطالع الكتاب المرجعي الرائع الذي ألفه الباحثان الألمانيان فوسن و إبير سنة 1986م حول الفخار المغربي، لفت انتباهي أهمية الأوراش القروية لصناعة الفخار ببادية دكالة. ونظرا لاشتغالي على الفخار والخزف بحاضرة آسفي وأحوازها منذ سنوات رأيت من المفيد علميا ومنهجيا، من أجل المقارنة وتوسيع أفق التحليل، الاطلاع على ما يجري في منطقة دكالة في مجال صناعة الفخار، لا سيما وان مراكز مثل آزمور وتيط المعروفة اليوم بمولاي عبد الله امغار عرف عنهما تاريخ عريق في مجال صناعة الفخار.. هكذا بدأ العمل الميداني الذي قمنا به في سهل دكالة بحثا عن الخبرات في مجال تحويل الطين إلى أواني استعمالية تجد معقوليتها في نمط الاجتماع المحلي في أبعاده الطبيعية والمجالية والثقافية والرمزية…

تبين لنا في الميدان أن كثيرا من المراكز القروية لصناعة الفخار التي ذكرها الباحثان الألمانيان لم يعد لها وجود لعدة اعتبارات اقتصادية واجتماعية نلخص أهمها في غزو الأواني البلاستيكية وأواني الألومينيوم الأسواق الأسبوعية وأيضا عدم نقل المعرفة الفخارية من المعلمين الآباء إلى الأجيال الحالية، وقفنا على هذه الحقيقة في قرى كان لها تاريخ في صناعة الفخار مثل الزكارة وبني سليم وسيدي امبارك واولاد الطاهر محمد.

 ضمن هذا المشهد القاتم، اكتشفنا صمود بعض الأوراش هنا وهناك في بادية دكالة بدا لنا أن أهمها وأكثرها تعبيرا عن حرفة صناعة الفخار هي دوار الحشالفة بقبيلة أولاد حسين المعروفة أيضا باسم اولاد ذويب التابعة لأولاد بوعزيز الهلالية، ليس بعيدا عن المراكز الحضرية كالجديدة وآزمور، وكذلك محاذاتها لمركز مولاي عبد الله أمغار التاريخي العريق… إذن ما قصة وجود وصمود هذا المركز الحرفي القروي وحفاظه على مهنة انقرضت في مجمل بوادي دكالة وعبدة، بل وفي مدينة آزمور المجاورة؟؟

خريطة منطقة دكالة وموقع قبيلة أولاد حسين التي ينتمي إليها دوار الحشالفة

قرية أولاد الطاهر محمد التي انقرضت فيها مهنة الفخار، تظهر هنا الساحة الوسطى حيث كان يطهى الفخار

 

أحد الفخارين القدامى من قرية اولاد الطاهر محمد، مبارك بن علي بن محمد،  ويظهر أمامه نموذج نادر لما كان يصنع في القرية من أواني فخارية قبل انقراض المهنة

في الدراسة الأركيولوجية التي أنجزت من أجل الوقوف على التاريخ الحضاري والفني لحاضرة آزمور قبل الاحتلال البرتغالي، توصل فريق بحث مغربي برتغالي إلى غنى هذه المدينة بالصناعات الفنية المرتبطة بالفخار والخزف، تشهد على ذلك النماذج العديدة التي أتبثها الباحثون في مقالتهم التي تظهر فيها تنوع النماذج الفنية في صناعة الفخار والخزف. يتعلق الأمر إذن بمدينة ذات تاريخ خزفي كبير لا يقل أهمية عن تاريخ فاس ومكناس وآسفي وسلا وتطوان وغيرها من الحواضر التي ازدهرت فيها الصناعات الخزفية.. كان ذلك لما كانت المدينة بمينائها النهري المهم محاطة بسور طوله 3000 متر، خصوصا خلال الفترة الموحدية، في مجال يتعدى بكثير مجال المدينة القديمة الحالي.. و بعد فترة عدم استقرار خلال فترة الانتقال من عصر الموحدين إلى عهد المرينيين، عاد  الازدهار إلى  آزمور خلال عصر بني مرين كما يشهد على ذلك لسان الدين ابن الخطيب، على الرغم من تقلص حجم المدينة لتحتل المساحة التي تشغلها اليوم المدينة العتيقة..  ويبدو أن المدينة عرفت نشاطا خزفيا لا يستهان به ولو أنه يحتاج إلى دراسات معمقة من أجل تأكيد أهميته وأبعاده الفنية والاقتصادية والثقافية..[1]

 

نماذج من اللقى الاثرية في مدينة أزمور تبرز عراقة المدينة في مجال صناعة الخزف منذ العصر الوسيط

André Teixeira, Azzedinne Karra, Patrícia Carvalho, Joana Bento Torres (2021).

 

André Teixeira, Azzedinne Karra, Patrícia Carvalho, Joana Bento Torres (2021)

الراجح أن النشاط الحرفي في مجال الفخار قد عاد إلى توهجه بعد رحيل البرتغاليين عن آزمور كما كان خلال العصر الوسيط، وأن هذا النشاط حافظ على استمراريته في العصور الحديثة كما تفيد بذلك الدراسات الاثنولوجية. في وسط القرن 19 م كان بآزمور 180 فخارا ما بين معلم ومتعلم،  يصنعون الجرار والآجر والقرميد  والقواديس. في سنة 1932م لم يتبق في آزمور سوى 19 معلم فخار متخصصون في صنع الطعريجة التي تستعمل في المناسبات الدينية والأفراح. لكن خلال القرن العشرين انطفئت شعلة الفخار الآزموري على الرغم من عراقته وتقاليده وحمولته الأسطورية المتمثلة في تأسيسها من طرف الولي سيدي داوود الذي تقول الرواية الشفوية أنه كان أيضا فخارا [2] ، والمثير للانتباه أن دوار لحشالفة،  المنتمي لجماعة أولاد حسين عرف ازدهار مهنة الفخار بتزامن مع ضمور فخار آزمور، وكأنه نوع من المقاومة يقوم بها المحيط القروي تعويضا لأفول حرفة الفخارة في الحاضرة الأم التي عرفت ازدهاره على مدى قرون، وهذه مسألة جديرة بالدراسة والتحليل[3]

 

صناعة الطعريجة في حاضرة آزمور قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة

فران تقليدي لطهي الفخار أيام ازدهار الحرفة بآزمور

سوق الغزل بآزمور، الذي شهد في الماضي ازدهار تجارة الفخار

في مقالها حول الفخار والفخارين بآزمور تؤكد الباحثة نيكول مارتينيز ما ذهبنا إليه من أن انبثاق صناعة الفخار القروي بأولاد حسين، دوار الحشالفة على وجه التحديد، تزامن مع انقراض مهنة الفخارة في حاضرة آزمور، وكأن المحيط القروي ينوب هنا عن الحاضرة فيما لم تعد تضطلع به لظروف موضوعية، كما انبرت الباحثة أيضا إلى إبراز علاقة الفخار الآزموري بطقوس خصوبة التربة وخصوبة النساء ومزارات الاولياء..

إذا كانت الجرة المستعملة لتخزين الماء هي العنوان الأبرز للفخار الاستعمالي في تاريخ آزمور، فإن الطعريجة شكلت عنصرا أساسيا في ربط حرفة الفخارة في شكلها الوظيفي الاجتماعي الاقتصادي بأبعاد طقوسية ورمزية متمثلة أساسا فيما يقام في عاشوراء والمولد النبوي من احتفالات وطقوس تجد بعض تفسيراتها في انتظارات الناس فيما يتعلق بالخصب الزراعي وطلب الذرية واستقرار الأسرة والجماعة…

والجدير بالملاحظة أن الطعارج الأكثر شهرة : فاس ومكناس وفاس وآزمور ترتبط بأكثر مزارات الأولياء شهرة وذكرا، وأن انتعاش الطعريجة مرتبط في أهم جوانبه بالنشاط الضرائحي في المدن المذكورة..

تتساءل نيكول مارتينيز هل من الضروري السفر في الزمن والمكان من أجل تحديد العلاقات التي تربط الفخار بالأضرحة، وهل بإمكان فخاري الحشالفة، الذين عوضوا فخار آزمور المنقرض وصاروا يزودون المدينة به، أن يمدونا ببعض عناصر الجواب…من جهة أخرى كيف تتطور الرمزيات بموازاة التقنيات، وكيف يولد دوار أحصت الباحثة فيه سنة 1965 عشرين فرنا لطهي الفخار؟

تضيف نيكول مارتينيز أنه سنة 1960م  سمح لعيساوة واحمادشة بالنشاط من جديد بعد فترة حظر خلال الفترة الاستعمارية، وعادت النساء إلى الأضرحة كما عاد الحنين إلى الطعريجة الأزمورية، التي صارت تصدع خلال السنة في كل طقوس العبور، ولا تصمت إلا في أيام العزاء…

أفرنة لطهي الفخار بدوار الحشالفة تم التخلي عنها بتدخل من الدولة لأضرارها البيئية، وتبدو الطعارج كمنتوج رئيسي في دوار لحشالفة

فران الفخار التقليدي في ورش أسرة الأزهري الذي استبدل اليوم بفران الغاز لمقاصد بيئية، والذي أتمنى أن يحافظ عليه كتراث مادي شاهد على تاريخ مهنة الفخار، وقد يصبح جزءا من متحف فخار قروي محلي سيكون لامحالة رائدا إن هو تجسد على أرض الواقع..

حميد الأزهري، محمد الأزهري وعبد الغني الأزهري في ورشة الأسرة بدوار الحشالفة

ورش أسرة الأزهري إحدى الأسر العريقة في صناعة الفخار بالحشالفة، ويبدو في الصورة الأب السيد عبد الرحمن والأبناء في تجسيد لانتقال المعرفة الحرفية عبر الأجيال

الطعريجة المحلية التي حلت محل الطعريجة الآزمورية

مخزن الطعريجة بورش عائلة الأزهري قبل عاشوراء : إحدى عناصر صمود مهنة الفخار بالمنطقة

كان إنتاج الفخار بالحشالفة متنوعا نسبيا، كانت المزهرية التي انقرضت والحسكة التي قضى عليها تعميم الكهرباء، والكسكاس والكنبورة اختفيا أيضا، ولم يصمد إلا الخابية التي تبرد الماء-وقد صارت تزخرف وتزود بصنبور- والطعريجة التي خلفت سالفتها الآزمورية…ونظرا لجودة المنتوج المحلي فإنه يباع في الكثير من مناطق المغرب : الدار البيضاء وفاس ومراكش وأكادير والصحراء المغربية، بل يصل إلى بعض الدول الأوربية حسبما أفادني به أفراد أسرة الأزهري..

ومن بين التفسيرات التي امدني بها معلمي الفخار من أسرة الأزهري[4]– بارك الله فيهم وفي جهودهم- عن عودة الاهتمام بالبرادة التي تحظى بأهمية كبرى بالإضافة إلى الطعريجة في صناعة الفخار المحلية، هو ازدياد الوعي بأهميتها الصحية لاستعمالها كمصف للماء من الشوائب، خصوصا مع انبثاق مشروع تحلية مياه البحر بإقليمي الجديدة وآسفي سنة 2022م في سياق المجهودات المبذولة لمواجهة الإجهاد المائي، عقب مراسم التوقيع على مذكرة تفاهم وعقد امتياز بين الحكومة ومجموعة المكتب الشريف للفوسفاط، قصد مواجهة الوضع الحالي الذي يتسم بجفاف استثنائي، ومن أجل تخفيف الضغط على الحوض المائي لأم الربيع.  هكذا نتبين أحد أهم عناصر التيقظ للسياق المميز لحرفيي الفخار بدوار الحشالفة، الذين أدركوا أن استمرار صنعتهم، التي تعرف اضمحلالا تدريجيا في الكثير من مناطق المغرب، رهين بالتأقلم الذكي مع المستجدات الاجتماعية والثقافية ضمن المحيط المحلي والجهوي… والحال أن هذا درس بليغ، على بساطة طرحه، يبين قيمة الانسجام السوسيوثقافي ضمن التعينات المادية والتقنية والرمزية لمختلف الخبرات المحلية…

أما الطعريجة المحلية، فهي لا شك وريثة الطعريجة الآزمورية الشهيرة، ويعزى صمودها الموضوعي إلى استمرار الطقوس الدينية والاحتفالية المرتبطة بها، بالإضافة إلى انها تحرك ضمن سلسلة إنتاجها الكثير من المتدخلين بدءا من جلب المادة الخام والتشكيل في القوالب والطهي والزخرفة وجلب الجلود ووضعها على التشكيل الفخاري لتصير الطعريجة قابلة للاستعمال، وأشير إلى أن هذه العملية الأخيرة هي من اختصاص النساء… هنا تبدو كثافة العناصر الطبيعية والفنية والاجتماعية التي تتفاعل ضمن سيرورة إنتاج هذه الآلة الخزفية بكل حمولتها الاجتماعية والرمزية…

وتجدر الإشارة  إلى أن من عناصر تجديد صناعة الفخار بأولاد احسين هو الوعي بأهمية الاستدامة في مجال حرفة الفخار، وهو ما تجلى، في حدود الدراسة الحالية، في التخلي التدريجي عن الأفران التقليدية الملوثة لصالح أفران صديقة للبيئة وأكثر إنتاجية. في هذا المضمار عقدت جمعية الفردوس الحلاشفة اولاد حسين لصناعة الفخار التي تأسست سنة 2011م والتي يرأسها أحد أفراد أسرة الأزهري، اتفاقية شراكة، سنة 2016م، بدعم من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية وباتفاق مع مجموعة من القطاعات الحكومية المعنية، خصوصا قطاعي الصناعة التقليدية والبيئة، من أجل اقتناء أفرنة غازية لطهي الفخار لفائدة الجمعية المذكورة. ويهدف المشروع، بالإضافة إلى دعم الدخل الفردي للفخارين وتجويد ظروفهم الاجتماعية والصحية، إلى حماية البيئة من تلوث ذي عواقب وخيمة على الانسان والطبيعة بسبب استعمال العجلات المطاطية والفضلات البلاستيكية والجلدية وغيرها من الفضلات كمصدر للطاقة في عملية تزويد أفران الفخارين بالدوار…

مجموع الشركاء في مشروع تزويد حرفيي الفخار بدوار الحشالفة بالأفران الغازية: مبادرة محمودة للحفاظ على تراث صناعة الفخار بالقرية

وقد اقترحت على رئيس جمعية الفردوس لحشالفة اولاد احسين لصناعة الفخار التفاوض مع الشركاء في المشروع الاقتصادي البيئي الطموح من أجل إنقاذ مهنة الفخار بالدوار، بشأن الحفاظ على فران تقليدي-نموذج- كتراث حرفي ثقافي للمنطقة سيكون من الرائع أن يتوسط متحفا قرويا صغيرا تشرف عليه الجمعية بتنسيق مع الوزارة الوصية والجماعة القروية، تعرض فيه مختلف الخبرات الفنية المرتبطة بالمهنة وقطع فخار قديمة من المنطقة وصور للمعلمين القدامى والآلات المستعملة قديما وغيرها من الشواهد على ذاكرة فخار محلي تزامن ظهوره مع أفول مهنة الفخار في حاضرة آزمور العريقة..

وآمل أن يتم تحقيق هذا الأمر الذي لا يبدو عسيرا إذا توفرت الإرادة الكافية لتحقيقه..  والله الموفق للخير والمعين عليه..

[1] André Teixeira, Azzedinne Karra, Patrícia Carvalho, Joana Bento Torres. 2021 Azemmour médiévale: une approche archéologique Le Portugal et le sud du Maroc : contacts et conflits (15e -18e  siècles) VOL. I – Études. CHAM – Centro de Humanidades Faculdade de Ciências Sociais e Humanas – Universidade NOVA de Lisboa.  Universidade dos Açores : p380-461.

[2] Martinez. Nicole. Notes sur la poterie et les potiers d’Azemmour. In: Journal de la Société des Africanistes, 1965, tome 35, fascicule 2. pp. 251-282.

[3] أشير هنا إلى ما ورد عند فوسن و إبير سنة 1986م في كتابهما الرائد حول الفخار المغربي أنه في بداية الثمانينات لاحظا أن بعض أنواع الفخار المنتجة من أجل السياح  في اولاد احسين كانت تزخرف بآزمور بألوان زيتية، وهذا يدل على استمرار رمزي لآزمور في أداء بعض الوظائف الفنية في سلسلة إنتاج الفخار الذي تحول من الحاضرة إلى البادية…

[4] حكى لي السيد عبد الرحمن الأزهري الأب أنه عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد بن الحاج المعروف بالسبول، وهو الذي أدخل مهنة الفخارة إلى المنطقة، ولا يستبعد ان يكون الأزهري الجد هذا من المساهمين في انبثاق مهنة الفخار بالحشالفة لأنه يتوافق زمنيا على وجه التقريب مع فترة اضمحلال مهنة الفخارة في آزمور، وهذا أمر يحتاج إلى مزيد تحقيق وتدقيق..

د. جمال بامي

  • رئيس مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلامية، ومركز علم وعمران بالرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق