مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

احتفاء أئمة المذاهب الأربعة بالحديث النبوي الشريف

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين

وعلى آله الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد؛ فقد جعل أئمة المذاهب الأربعة أبا حنيفة، ومالك، وأحمد، والشافعي، حديث النبي صلى الله عليه وسلم فوق كل اعتبار، وأصلا أصيلا بعد القرآن الكريم في استنباط الأحكام الشرعية، واستمداد الفقه، فالحديث النبوي عندهم لبنة أساسية، وركيزة مهمة في إنشاء مذاهبهم الفقهية، ولا يتصور أن يكون هناك مذهب فقهي لإمام من أئمة الاجتهاد –المذكورين- يتخذ في اختياراته الفقهية ترك حديث صحيح الثبوت، صريح الدلالة على الحكم ولا معارض له عنده؛ ولقد أنصف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، حين ألف كتابا نفيسا أسماه: (رفع الملام عن الأئمة الأعلام)؛ حيث دافع فيه عن الأئمة الأربعة أمام المتعجلين الذين اتهموا أئمة المذاهب الأربعة بمخالفة الحديث وترك السنن، وأن الأمر خلاف ذلك؛ لأنهم اعتنوا بالحديث الشريف، ورفعوا بالآثار والسنن رأسا.

ولأهمية هذا الموضوع فقد أحببت أن أخصه بهذا المقال الذي سأتناوله فيه مدى احتفاء أئمة المذاهب الأربعة بالحديث النبوي الشريف؛ وذلك من خلال المطالب الآتية:

المطلب الأول: تعظيم الأئمة الأربعة للحديث النبوي، وحثهم على إتباع السنن النبوية وتقديمها على غيرها.

المطلب الثاني: دعوتهم لترك التقليد لآرائهم وأقوالهم إذا خالفت الحديث.

المطلب الثالث: حثهم على طلب الحديث النبوي.

المطلب الرابع: عملهم بالحديث والآثار بعد علمهم بها.

المطلب الخامس: تحذيرهم من عقوبة ترك السنن والآثار.

وهذا أوان الشروع في المقصود، فأقول وبالله التوفيق:

المطلب الأول:

تعظيم الأئمة الأربعة للحديث النبوي، وحثهم على اتباع السنن النبوية وتقديمها على غيرها.

لقد دعا الأئمة الأربعة رحمهم الله إلى تعظيم الحديث النبوي، وحثوا الناس على اتباع السنن النبوية وتقديمها على غيرها:

فهذا الإمام أبو حنيفة النعمان رحمه الله (150هـ) يقول:”إياكم والقول في دين الله تعالى بالرأي، وعليكم باتباع السنة؛ فمن خرج عنها ضل”([1]).

 وقال أيضا:” ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين”([2]).

وقال أيضا:” حرام على من يعرف دليلي أن يفتي بكلامي”([3])

وقال أيضا:”لا ينبغي لأحد أن يقول قولا حتى يعلم أن شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم تقبله”([4]).

وقال الإمام مالك رحمه الله تعالى (179هـ):” ليس لأحد من خلق الله إلا وهو يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم “([5]).

وعن الربيع قال: سمعت الشافعي وذكر حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال له الرجل: تأخذ به يا أبا عبد الله؟ فقال: سبحان الله ! أروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا لا آخذ به؟! متى عرفت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا، ولم آخذ به، فأنا أشهدكم أن عقلي قد ذهب”([6]).

وحدث الشافعي يوما بحديث فقال له الحميدي –شيخ البخاري-: أتأخذ بهذا؟ فقال الشافعي:” رأيتني خرجت من كنيسة علي زنار؟! حتى إذا سمعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا لا أقول به؟!” ([7]).

وقال الإمام أحمد رحمه الله (241هـ) :”عليكم بأصحاب الآثار والسنن”([8]).

المطلب الثاني:

دعوتهم لترك التقليد لآرائهم وأقوالهم إذا خالفت الحديث.

لقد دعا الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى إلى ترك تقليد آرائهم وأقوالهم ؛إذا خالفت الحديث قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله (150هـ):”إذا صح الحديث فهو مذهبي”([9]).

وقال أيضا: “لا يحل لمن يفتي من كتبي أن يفتي حتى يعلم من أين قلت؟”([10]).

وقال أيضا:”إذا قلت قولا يخالف كتاب الله تعالى وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي” ([11]).

وقال الإمام مالك رحمه الله (179هـ):”إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه ، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه”([12]).

وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى (204هـ):”كل ما قلت فكان عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف قولي مما يصح، فحديث النبي صلى الله عليه وسلم أولى، ولا تقلدني”([13]).

وقال أيضا:”إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعوا ما قلت”([14]).

وقال الإمام أحمد رحمه الله (241هـ): “لا تقلدني، ولا تقلد مالكا، ولا الشافعي، ولا الأوزاعي، ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا”([15]).

المطلب الثالث:

حثهم على طلب الحديث النبوي.

لقد أثر عن الأئمة الأعلام الأربعة أصحاب المذاهب الفقهية جملة من الأقوال والتوجيهات تحث على طلب الحديث، والسعي في تحصيله بكل وسيلة ممكنة.

فهذا الإمام أبو حنيفة النعمان رحمه الله (150هـ) يقول: “لم تزل الناس في صلاح ما دام فيهم من يطلب الحديث ؛ فإن طلبوا العلم بلا حديث فسدوا”([16]).

وكان الإمام أبو حنيفة يطلب الحديث كما قال مسعر بن كدام :” طلبت مع أبي حنيفة الحديث فغلبنا، وأخذنا في الزهد فبرع علينا، وطلبنا معه الفقه فجاء منه ما ترون”([17]).  

وقال الإمام أحمد رحمه الله (241هـ): “ما أعلمُ الناسَ في زمانٍ أحوج منهم إلى طلبِ الحديث من هذا الزمان، قلتُ: ولم؟ قال: ظَهرت بدع، فمن لم يكن عنده حديث وَقع فيها” ([18]).

المطلب الرابع:

عملهم بالحديث والآثار بعد علمهم بها.

كان من منهج الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى، العمل بالحديث بعد علمهم به دون تردد، ويدل على ذلك الآتي:

1-الإمام أبو حنيفة النعمان رحمه الله (150هـ):

عن يحيى بن آدم قال: سمعت الحسن بن صالح يقول: “كان أبو حنيفة قيما بعلمه، متثبتا فيه، إذا صح عنده الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَعدُه إلى غيره”([19]).

2-الإمام مالك رحمه الله (179هـ):

عن ابن وهب، قال: سمعت عمي يقول: سمعت مالكاً سئل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء فقال: ليس ذلك على الناس، قال فتركته حتى خَفَّ الناس فقلت له: عندنا في ذلك سنة، فقال وما هي؟ قلت: حدثنا الليث بن سعد، وابن لهيعة، وعمرو بن الحارث، عن يزيد بن عمرو المعافري، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن المستورد بن شداد القرشي، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُدَلِّكُ بخنصره ما بين أصابع رجليه، فقال: إن هذا الحديث حسن، وما سمعت به قط إلا الساعة، ثم سمعته بعد ذلك يسأل فيأمر بتخليل الأصابع” ([20]).

3-الإمام الشافعي رحمه الله تعالى (204هـ):

حيث يقول مخاطبا تلميذه الإمام أحمد بن حنبل :” يا أحمد!  أنت أعلم بالحديث مني؛ فإذا جاءك الحديث الصحيح فاعلمني به سوا كان حجازيا، أو شاميا، أو مصريا”([21]).

ومن اعتناء الإمام الشافعي بإعمال الحديث بعد علمه به أنه لما مر بمكة في طريقه إلى مصر، وحَصَّل أحاديث ومرويات أخرى غَيَّر مذهبه القديم، وأصبح المعتمد عنده هو مذهبه الجديد في مصر.

المطلب الخامس:

تحذيرهم من عقوبة ترك السنن والآثار.

وقد أثرت عن الأئمة الأربعة أقوال في التحذير من عقوبة ترك السنن والآثار من ذلك:

أن الإمام مالك (179هـ) جاءه رجل فسأله عن مسألة، فقال له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا ، فقال له الرجل:”أرأيت؟” فقال مالك: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) ([22])”([23]).  

وقال الإمام الشافعي رحمه الله (204هـ):”أي أرض تقلني، وأي سماء تظلني، إذا رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فلم أقل به؟ ” ([24]).

الخاتمة:

وفي ختام هذا المقال خلصت إلى:

1-أن أئمة المذاهب الأربعة: أبا حنيفة النعمان، ومالك بن أنس، والشافعي، وأحمد بن حنبل رحمهم الله قد احتفوا بالحديث وجعلوه لبنة أساسية في بناء صرح مذاهبهم الفقهية.

2-من مظاهر احتفائهم بالحديث:

أ-تعظيمهم له وحثهم على اتباعه.

ب- دعوتهم لترك التقليد لآرائهم وأقوالهم إذا خالفت الحديث.

ت-حثهم على طلب الحديث النبوي.

ث-عملهم بالحديث والآثار بعد علمهم بها.

ج- تحذيرهم من عقوبة ترك السنن والآثار.

والحمد لله رب العالمين.

**********************

هوامش المقال:

([1])ميزان الشعراني (ص: 207).

([2])مناقب الإمام أبي حنيفة للذهبي (32-33).

([3])  ميزان الشعراني (ص: 207).

([4])  ميزان الشعراني (ص: 208).

([5])  جامع بيان العلم (ص: 361) .

([6])  تاريخ مدينة دمشق (28/ 285) .

([7])  تاريخ مدينة دمشق (28/ 285) .

([8])  سير أعلام النبلاء (11 /231).

([9])  حاشية ابن عابدين (1 /167).

([10])  الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء (ص: 145) .

([11])  إيقاظ همم أولي الأبصار للفلاني (ص: 93) بتصرف.

([12])  جامع بيان العلم (ص: 286).

([13])  تاريخ الإسلام (14 /321).

([14])  المجموع للنووي (1 /61).

([15])  إعلام الموقعين لابن القيم (3 /469).

([16])  ميزان الشعراني (ص: 208).

([17])  مناقب الإمام أبي حنيفة (ص: 43).

([18])  مناقب أحمد لابن الجوزي (ص: 178).

([19])  مناقب الإمام أبي حنيفة (ص: 30).

([20])  الجرح والتعديل (1 /31-32).

([21]) المجموع للنووي (1/ 61) بتصرف.

([22])  النور (63).

([23])  تزيين الممالك السيوطي (ص: 35).

([24])  إعلام الموقعين عن رب العالمين (4 /46).

************************

لائحة المصادر والمراجع المعتمدة:

إعلام الموقعين عن رب العالمين. لابن القيم الجوزية. اعتناء: مشهور حسن سلمان – أحمد عبد الله أحمد. دار ابن الجوزي السعودية. ط1/ 1423هـ.

الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء: مالك، والشافعي، وأبي حنيفة، ليوسف ابن عبد البر  القرطبي. مكتبة القدسي 1931مـ.

إيقاظ همم أولي الأبصار للاقتداء بسيد المهاجرين والأنصار. لصالح الفلاني. تقديم وتحرير: د حماه الله ولد السالم. دار الكتب العلمية. بيروت 2013مـ.

تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام: لشمس الدين محمد بن أحمد الذهبي. ت: د. عمر عبد السلام تدمري. دار الكتاب العربي بيروت. ط1/ 1411هـ- 1991مـ.

تاريخ مدينة دمشق. لأبي القاسم ابن عساكر. ت: مصطفى عبد القادر عطا. دار الكتب العلمية بيروت. 2012مـ.

ترتيب المدارك وتقريب المسالك. للقاضي عياض بن موسى اليحصبي. ت: محمد سالم هاشم . دار الكتب (د.ت).

تزيين الممالك بمناقب الإمام مالك. لجلال الدين السيوطي. ت: هشام حيجر. دار الرشاد الحديثة الدار البيضاء. ط1/ 1431هـ- 2010مـ.

جامع بيان العلم وفضله. لابن عبد البر القرطبي. ت: مسعد عبد الحميد السعدني. دار الكتب العلمية. بيروت. 2010مـ.

الجرح والتعديل لعبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي. دار إحياء التراث ط1 / 1371هـ.

حاشية ابن عابدين (رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار). لمحمد أمين الشهير بابن عابدين. ت: عادل عبد الموجود وعلي معوض. دار الكتب العلمية بيروت لبنان. 2011 مـ.

سير أعلام النبلاء: لمحمد بن أحمد الذهبي. ت: شعيب الأرنؤوط وصالح السمر. مؤسسة الرسالة. ط1 /1402هـ- 1983مـ.

المجموع شرح المهذب. لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي. ت: مجموعة من العلماء. دار الكتب العلمية بيروت. 2011مـ.

مناقب أحمد. لابن الجوزي. ت: سعد الفقي. دار ابن خلدون الاسكندرية. (د. ت).

مناقب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه أبي يوسف ومحمد بن الحسن. لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي. ت: محمد زاهد الكوثري وأبي الوفاء الأفغاني. لجنة إحياء التراث المعارف النعمانية حيدر آباد. الدكن. الهند. ط4/ 1419هـ.

الميزان. لعبد الوهاب الشعراني. ت: د. عبد الرحمن عميرة. عالم الكتب. (د.ت).

*راجعت المقال الباحثة: خديجة ابوري

Science

د. محمد بن علي اليــولو الجزولي

  • أستاذ باحث مؤهل بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة النبوية العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء بالرباط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق