مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلاميةحوارات

حوار مع الدكتور بنّاصر البُعزّاتي

لكننا نعلم أنه كان هناك نقاش حاد حول ثقافات الشعوب الأخرى كاليونان والفرس والهند، ونعلم أن الفقهاء كان لهم موقف متشدد من الفلسفة اليونانية التي كانت تهمين على تلك العلوم. هل ينطبق هذا الموقف على العلوم الدقيقة؟ أعني الرياضيات والفيزياء والفلك…الخ؟ كيف تعامل هؤلاء إذن مع التراث اليوناني في هذه العلوم؟ هل قبلوه أم رفضوه كما رفضوا الفلسفة؟

هناك أولاً إشارة إلى ما قلته عن الترجمة وعن قيمتها، هل كانت جيدة جدا؟ هل كانت وثيقة؟ هل كانت وفية للنص؟ … نجد أن أول من تحدث في هذا الأمر هو الجاحظ، حيث نراه طعن في بعض الترجمات، وقال بأن الترجمة عمل صعب جدا ولا ينجح فيه إلا المتمكنون من لغة المنقول واللغة المنقول إليها. هذه الملاحظات كانت جد واضحة وتمس الصميم، ولهذا لا يمكن أن توجد ترجمة وفية مِئة بالمِئة. ولكن عندما تتعدد الترجمات فالفاحص المتخصص يستطيع أن يميز ما بين هذه الترجمات؛ فيكون التمييز هنا جزءاً من فاعلية النقد العقلية …، وكأن الترجمة هنا شر لا يمكن تجاهله.

مسألة المواقف من هذه الأفكار المقتبَسة مهمة جدا بحسب الاتجاهات الدينية لدى الأطراف المعنية، وحتى الاتجاهات الفقهية التي تواجدت داخل الحضارة الإسلامية. فبالنسبة للفيلسوف المشّائي، بالطبع سيظل تلميذا لاَرسطو ما دام لم يجدد معلوماته من خلال البحث النظري؛ وبسبب عدم التجديد سيظل مدافعا عن فكر اَرسطو ضد فكر منافسيه؛ وهو نفس الأمر الذي سيفعله المانوي، ونفس الشيء سيفعله الفقيه المتشدد؛ فعندما يسمع هذا الأخير كلام أناس يتحدثون عن الصورة والجوهر الفرد والجزء الذي لا يتجزأ، فمن المنتظَر أنه سينزعج ويتخذ مواقف رافضة متشددة من أفكارهم، بحيث سيقول إن هؤلاء يضرّون بمعنويات الجماعة التي تعانق ثقافته ويمسّون شعورها، فيجب الوقوف ضدهم وهذه الأمور عادية تاريخياً. لذلك فمثل هذه الأمور لا يمكن أن نجيب عنها إلا من زاوية أخلاقية المعرفة.

قد يقول قائل إن هذا الفقيه كان يعارض عِلما دون أن يطّلع على محتواه. بالطبع، إن الأمر هنا محرج جدا، لأن أخلاقيات النظر تقول إنه لا يحق لك أن تبدي رأيا في أمر تجهله. ولكن هل قامت الجهات الأخرى ببذل مجهود كاف من أجل تقريب هذه المعارف إلى هذا المناوئ ل”علوم الأوائل”؟ (من هذه الزاوية أيضا هذا مشكل)، فتقريب المعرفة يحتاج إلى قنوات الإيصال والتواصل والحوار، ويحتاج إلى قرار سياسي نزيه. وهل كانت تتوفر بالفعل قنوات كافية لكي تصل المعارف إلى كل الناس؟ إن تحديد المسؤوليات في شأن سيرورة انتشار الأفكار وتداولها وتدريسها وتوظيفها أمر معقّد للغاية؛ ولا يمكن التشدّد في أحكامنا، إذا كنا بصدد نظر علمي (وللمنتقد أن يكون صارماً إن كان يركّز على الميول الإديولُجية لدى هذه الجهة أو تلك ويكشف عن الرغبة في التسلّط من لدن المتزمتين). ثانيا هناك أمر أخلاقي يجعلنا نتحفظ من التسرع في إبداء الأحكام المنحازة: مثلا قد يكون هذا الفقيه قد عبّر عن موقف مناوئ ضد علم معيّن لأنه لم يعرفه أولا، أو لأن العلماء المطّلعين لم يبذلوا مجهودا لتقريب العلم إليه، أو أنه قد يكون خائفا على الاستقرار الإديولجي …، رغم ذلك لا يجب علينا أن نحاسبه على هذه الأفكار، وبالتالي يجب أن يكون نظر المؤرخ في هذا الباب نزيها ولا يتسم بالانحياز إلى أن تستكمل الصورة بشكل واضح، وعند ذاك يمكن أن يقول إن موقف فلان ضعيف دون حرج. فأنت كناظر عليك أن تكون ذا نظرة نزيهة وموضوعية، ولا يمكن أن تأتي بأحكام إلا في آخر المطاف، وأن لا يكون موقفه شديد القسوة. لنعطي أمثلة معينة على ذلك: مثلا ابن قتيبة رغم ما يعرف عنه من سعة الأفق، وأنه كتب في الأيام، وفي الأخبار، وفي الأنواء … الخ، له نصوص معروفة يقول فيها أن على الكاتب أن يكون ذا تكوين في الحساب والهندسة والمساحة … الخ، ولكن في مكان آخر يقول “سأكتب في هذا الموضوع مكتفيا بما ورثناه من علوم العرب المسلمين ومتجاهلا ما أنتجه أولئك الكفار في الفلك وغيره …”. فهذا الخطاب ذو سياق، وأنت كمؤرخ عليك أن تدرس هذه الأمور لكي تبدي بعض الملاحظات مع وجوب ضرورة الانتظار، لأنه رغم وجود المئات من الأبحاث في هذا الباب، ما زال هناك مجال يجب أن يبحث خصوصا في ما يتعلق بالجوانب الأنتربولجية والسسيولجية لهذه الأفكار التي نحن بصدد الحديث عنها. وأيضا لدينا مثال آخر من جانب مختلف ويعتبر إشكالا، يقول: من الذي يجعل شخصا من أصل فارسي يدافع عن اللغة العربية أكثر مما يدافع عنها شخص من أصل عربي؟ وعلى هذا القول لابد من إدراك للعوامل النفسية، التي قد تصل إلى أن ينتج قوم ما شخصا يكره قومه، كما أن في التاريخ مسائل معقدة، وبالتالي لا يحق لنا الاستسلام للتعميمات غير المتريثة التي تغلب على الذهن تحت ضغط الظرفيات.

أجل، مسالة التعميمات من أخطر الأمراض المنهجية في تاريخ الأفكار عامة وتاريخ العلوم خاصة. لابد أن تكون أحكامنا نسبية، ما دامت مصادر المعرفة التاريخية بالعلوم وأعلامها أغلبها مفقود، والموجود منها أغلبه مخطوط، والمنشور منها أغلبه لا يخضع لشروط التحقيق العلمي الرصين. ومن رأيي أن دراسة مواقف الفقهاء من العلوم العقلية لا ينبغي أن نصدر بصددها حكما واحدا عاما مطردا، فلم يكن الرفض الراديكالي للعلوم سمة غالبة عليها، بدليل أن كثيرا من الفقهاء بما فيهم المالكية والحنابلة شاركوا في هذه العلوم قراءة وتلخيصا وشرحا وتأليفا – كما تشهد بذلك موسوعات التراجم على الأقل – رغم موقفهم المتشدد من الفلسفة اليونانية. إذن فالراجح أن ثمة تمييزات كثيرة بحسب موضوعات العلوم العقلية وتوجهات أصحابها المذهبية وخلفياتها الميتافيزيقية. وينبغي استحضار هذه التمييزات عند قراءة الموقف الفقهي من الفلسفة.

إن المواقف من العلوم العقلية تتوزع توزعا واسعا جدا، وتتدخل فيها حتى العوامل المزاجية للأفراد. فالمعتزلة مثلا الذين نعدّهم عقلانيين، نجد في مواجهتهم للفلاسفة أحيانا يصدرون أقوالا قاسية، رغم أنهم يحبون الفلسفة؛ لكن وهم يواجهون هذه الأفكار الفلسفية في حد ذاتها، فإن لديهم رغبة مسبقة في أن تتبلور وتنبثق أفكار فلسفية أخرى مغايرة تبتعد عن الإعجاب المفرط بالإغريق (دون أن نتحدّث هنا عن أولائك الذي رفضوا حتى مجرد الحوار كما أنهم رفضوا الاطلاع على هذه الأمور). لدينا مثال وإن كان متأخرا شيئاً ما: لمّا تقرؤون البيروني، هذا العالم الذي يعتبر من جهابذة العلوم، وهو يهاجم الفلسفة المشائية وأتباعها (أي مذهب الأرسطيين)؛ قد يخرج بعضنا بفكرة أن البيروني ضد الفلسفة. لكن مثل هذا القول غير صحيح أبدا، لأن هذا العالم الكبير من بين أشد المدافعين عن الفكر الفلسفي المنفتح. فعندما ينتقد أبو الريحان الآخرين المحافظين، يدافع عن الفلسفة، مما يجعلنا نقول أن البيروني يدافع عن الفكر الفلسفي ولا يستسيغ التمذهب الفلسفي المنغلق. والبيروني العالم الفيلسوف غير المقلّد ردّ على ابن قتيبة (في موقفه المشار إليه أعلاه)  بسخريةّ، إذ كان هذا الأخير زعم أنه في غير حاجة أن يهتمّ بالعلوم ذات الجذور التاريخية غير العربية الإسلامية.

 إذن المواقف من العلوم يجب أن ينظر إليها بهذا المثال – قد نجد حنفيا يقبل علم الفلك إجمالاً، لكنه يرفض بعض الجزئيات؛ وهذا يدخل في باب النقد العلمي. فأنت تدافع عن الرياضيات، ولا يعني أنك تقف بالضرورة تلميذا لأقليدس طول حياتك، لأنك وقفت إليه تلميذا وأنت تتعلم، وهذه مرحلة في التكوين، ولكن عندما يتسع أفقك قد تتجاوز أقليدس نفسه أو تشكّ في بعض تفاصيل البرهنة في نطاق دقيق؛ وهو أمر مقبول وعادي جدا في النظر العلمي. ولهذا نجد مثلا هذا السيل من الشكوك: شكوك على جالينس، شكوك على اَرسطو، شكوك على اقليدس، شكوك على بطلميوس …الخ. فالذي أبدى شكوكاً على جالينس، وهو الطبيب الرازي (وف 313/925)، لا يعنى أنه اعترض على مجمل الإنجاز العلمي في الطب الجاليني، بل اعترض على جزئيات على ضوء تجريب وتحليل. والذي أبدى شكوكاً على بطلميوس، وهو ابن الهيثم (وف 432/1040)، ظلّ يطوّر بعض أركان البناء الفلكي البطلمي ويشذّب بعض مسائله ويرمّم تنسيقه … والنقد من صميم العقلية العلمية، حيث يمكن الاعتراض على مفاهيم بدون عداء للذين بلوروها …

الترجمة تأليف على نحو ما، وما أضيف لفعل الترجمة أفعال أخرى كالتلاخيص والشروح والتقييدات، كيف استفاد التراث اليوناني نفسه من هذه الأفعال العلمية؟

بالطبع يجب أن لا ننسى أمرا مهما جدا عادة ما يقفز عليه الكثيرون؛ مثلا عندما نجد الكندي أو الفارابي ينتقد اَرسطو، وعادة ما نكتب: “فقد قال أرسطو، إنما عارضه الفارابي في ذلك”، كأنّ بين الفترة التي عاش فيها اَرسطو والتي نشط فيها الفارابي لم تكن هناك فاعلية فكرية؛ والحال أنه بُعيد اَرسطو، وخلال قرون قبل الفارابي، برزت العشرات من التعليقات على ما أتى به اَرسطو نفسه، وفي كل الميادين (في الفلسفة الطبيعية والكسمولجيا، وفي المنطق والجدل ومنهج العلم …). نفس الشيء بالنسبة للطب والفلك والرياضيات…إلخ. حيث علّق تيوفراسطُس وجالينُس وفيلُبونُس على جوانب مهمّة من فكر المعلّم الأوّل؛ فاطلع الفارابي على المتن الأرسطي بجانب الانتقادات على ذلك المتن، ورجّح رأياً على آخر استفادة من رؤى متعددة. ومعنى هذا أن ما ورثه المسلمون هي تقاليد نظرية للبحث، ولكنها أيضا شروح وتعليقات باللغة اليونانية أو القبطية أو السريانية، وبالتالي كانت هناك شروح وحواشي وانتقادات من قبل. مثال على ذلك ما قام به برُكلُس بتطوير نظريات افلاطن، ثم أيضا هناك ثيوفراسطُس الذي حاول أن يهذّب منطق أستاذه اَرسطو؛ كما أن هناك منطق الرواقيين المغاير، وإلى غير ذلك من الأمور في هذا الباب. أما في الفلك فقبيل مجيء بطلميوس صاحب المجسطي، كان هناك من يتحدث عن وجود تيارين داخل علم الفلك والكُسمولُجيا، تيار يطغى عليه الحساب وتيار يطغى عليه التعليل الكسمولُجي (وهي روح التيمات التي نجدها لاحقاً لدى ابن رشد).

إذن لما اطلع المسلمون على التراث السابق لم يكن اطلاعهم عليه باعتباره أنساقا مكتملة منتهية، بل اطلعوا عليه باعتباره أيضا شروحا وتعليقات وتتميمات، مما يدفعنا إلى القول أنه كان هناك تعدد في الرؤى من ذي قبل؛ فكان عمل المسلمين على صيغة ترجيح لرأي سابق أو ترجيح لرأي المنتقد أو محاولة تركيب بين الرؤى … فالكندي مثلا انتقد نظرية الإبصار الأقليدية والبطلمية في جزئيات بسيطة، نجد أنه كانت هناك بعض الشذرات سابقة على الكندي، وأيضا نفس الأمر بالنسبة لابن الهيثم وهو يعلق على المجسطي. ومؤلف المجسطي نفسه، أي بطلميوس يقول أنه لم يوفَّق في إيجاد حلول مضبوطة لمسائل في انسجام حركة الأجرام حول مركز مفترض على مسافة من مركز الأرض.

وبالتالي فالمسلمون قد جددوا واجتهدوا، لكن لا يمكن أن ننسى أنه كانت هناك مقدمات ونظريات وشكوك واعتراضات سابقة عليهم عبّدت الطريق للتجديد. إذن فالتراث اليوناني نفسه (إضافة إلى تراث غير الإغريق) كان متعدد الرؤى ولم يكن جامدا ومنتظما في مذاهب منغلقة. وفي الفلسفة الطبيعية نفس الشيء؛ فمثلا في القرن السادس الميلادي، أي قبل الإسلام بقرن تقريباً، كان هناك نقاش بين أشخاص يدافع بعضهم عن تصورات اَرسطو ويطعن البعض الآخر فيها، وهو نقاش دار بين فلبونُس وسمبلكيُس في الإسكندرية، الأول كان ضد اَرسطو، حيث كان يدافع مثلا عن نظرية الخلق. ومن هنا نقول أنه كان هناك تعدد للرؤى قبل الإسلام، وأن ما قام به المسلمون في هذا الصدد هو تطوير هذا التعدد وإغناؤه، كما أضافوا إليه لاحقاً معارف عن طريق العمل الذاتي سواء بواسطة المبرهنات الرياضية أو في التجريب الذي اعتمدوا عليه في اكتشافاتهم العلمية، وهذا كله لم يكن إلا امتدادا واستمرارا للنظر العلمي العادي في كل الميادين.

هناك مسألة تتعلق بتحقيب تطور المعرفة العلمية في العالم الإسلامي، هل يمكن أن نتحدث عن مراحل في هذا التقليد العلمي تمتاز من حيث خصائصها الفكرية أو على الأقل طبيعة الأداء العلمي للجماعات العلمية في العالم الإسلامي ؟

مسألة التحقيب مشكلة عامة، وما يزيد في تعقيدها أن تطور الأفكار لا يكون دائما من حسَن إلى الأحسن؛ ثم إن هناك بعض الكتابات العلمية المتطورة جدا لا تجد طريقها للوصول إلى الآخرين في المدى القصير. وهناك مؤلفات وضعت خلال القرن الخامس الهجري أو السادس لم تنتشر ولم تُقرأ البتّة؛ ولم تُعرف إلا منذ حوالي ربع قرن. لنلتفت إلى كتاب المناظر الذي كان ذا وقع كبير في أوربا خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر للميلاد، كم عدد المسلمين الذين قرأوا كتاب المناظر لابن الهيثم؟ وهل كان محتواه موضوعاً للتمحيص والنقاش حتى يُطوّر باسترسال؟ …، مسألة التواصل العلمي ذات وقع كبير في نموّ الأفكار. إذا وقعت عثرة لإحدى حلقات التواصل أثرت على الإنتاجية العلمية بشكل خطير. إذا أردنا أن نقوم بتحقيب، فلا يمكن أن يكون إلا مؤقتاً، حسب ما نتوفر عليه من مؤلفات علمية، بل هو إشارة بالأصبع لمجموعة من الحقب لا أكثر؛ ثم إن العلوم نفسها لا تتطور بنفس الوتيرة، لأن النظر العلمي في كل ميدان لا يتخذ نفس السبل والشعاب، والحقل المبحوث ذو خصوصيات معينة: فنموّ علم البصريات يختلف عن نموّ علم الفلك بسبب صعوبات الرصد الفلكي، لأنك ترصد أجساما على مسافة بعيدة. في البحث البصري تقوم بتجارب تمكّنك في  ظرف خمس سنوات أن تبلور مفاهيم وتبني قوانين في انتشار الضوء وانعكاسه وانعطافه وتلوّنه … في الفلك، كل رصد يحتاج إلى أجيال؛ لماذا ؟ ترصد القمر على مدى قرون لكي تفهم بعض الأمور تخص حركته وخسوفه ومسافته من الأرض والشمس الخ. إذن العلوم نفسها لا تتطور بنفس الوتيرة؛ وحتى الفرق ما بين الهندسة والحساب عند الإغريق، عرف الحساب مشاكل، مما جعل علماءهم في الأخير يفضلون الهندسة، لأن الحساب يطرح مشكلة الأعداد الصماء. إذن هناك خصوصية لكل علم. وعليه، فالتحقيب الذي يمكن أن نقبل به في البصريات قد يختلف عن التحقيب قي ميدان علمي آخر. ولكن يمكن أن نقول إن بعض الفترات مثلا عند أواخر القرن 4هـ/10م وأوائل 5هـ/11م، يمكن أن نعدّ هذه اللحظة لحظة القمم الشامخة في النظر العلمي، إجمالا في الطب مع الزهراوي وابن سينا، وفي البصريات مع القوهي وابن الهيثم، وفي الفلك مع ابن الهيثم والبيروني، وفي المنطق مع ابن سينا وتلاميذه، وفي بدايات منطق الجدل والمناظرة وآداب الحوار والبحث. نعم، لكل علم خصوصيات، إنما يمكن مثلا في البصريات أن نلاحظ ما يشبه الجمود بعد ابن الهيثم خلال قرنين ونصف، وكأن هذا العلم قد تجمّد تقريبا، إلى أن برز كمال الدين الفارسي (وف 710/1310) فألّف في المناظر قصد تشذيب بعض أفكار ابن الهيثم الخ. في حين أن الأمر يختلف في الفلك، حيث برزت قمم أخرى في مرصد مراغة خلال النصف الثاني من القرن الثالث عشر، مثل نصير الدين الطوسي والعُرضي والكاتبي وقطب الدين الشيرازي …، إذن يمكن أن نقوم بتحقيب معيّن، لكن سيظل تحقيبا تقريبياً ومرنا ونسبيا. أيضا فإن التطور لا يكون دوما تراكميا؛ إذ قد تبرز فكرة ما نافذة عند عالم ما، ولكن لن تقبل من قبل الأجيال التي ستأتي بعده. لدينا نموذج في الفلك: أين هو نموذج فلك اَرسطرخس؟ تجاهله الناس وظل يُذكر ليصنف خارج العقلية العلمية … إذن يجب أن نتذكر أن هذه الأمور ممكنة في أي علم، وهو ما يجعل أن علما ما قد يتراجع لحقب طويلة أو يتوقف أو يرحل إلى بيئة أخرى مغرية. ولذا من الصعب بيان ما يتميّز به القرن الحادي عشر عن القرن الذي بعده أو الذي قبله …

ويمكن، بدلاً من تحقيب صارم، مقارنة فترات متباعدة في تطوّر الأفكار العلمية؛ كأن نقول إن القرن التاسع للميلاد يتميّز بكونه لحظة ترجمة واستيعاب للأفكار العلمية، بينما لا وجود لترجمة خلال القرن الثاني عشر مع استمرار في الخصوبة المفهومية في العلم. ثم نقول إن القرن الحادي عشر يتميّز بتحوّل علمي شامل، بينما يتميّز القرن الخامس عشر بجمود فكري يدبّ في كل مرافق الفاعلية العقلية، خصوصاً في الغرب الإسلامي. ويمكن أن نقارن بين المشرق والمغرب الإسلاميين من حيث الفكر العلمي والفلسفي خلال القرن السابع عشر …

إذا أضفنا إلى كل تلك الأفعال المرتبطة بترجمة علوم الأوائل فعل الإبداع العلمي على المستويين النظري والعلمي، فإننا نجد أنفسنا مدعوين فعلا إلى مراجعة تصوراتنا عن النهضة العلمية في عصر الحداثة الكلاسيكية بالغرب. هل أنتم مع الفرضية القائلة بأنها نتيجة تراكم علمي طويل أسهمت فيه كل تلك الحضارات العلمية التي أشرنا إليها؟

يمكن القول إن هذه المسألة تختلف بحسب الميادين العلمية؛ فجلّ المؤرخين الأوربيين يتحدثون عن الثورة العلمية في أوربا خلال القرنين 16م و 17م؛ وقلّة منهم ترى أن التحوّل الفكري المرتبط بالعلم تحقق خلال القرن الرابع عشر. إنما التصوّرات تتطوّر في ضوء ما يُكتشف من كتابات خلال تلك القرون. لكن هذا لا يعني أنهم يزعمون غياب العلوم قبل هذا الوقت. بل كلهم يؤكدون على وجود علوم ذات ماض قبل ظهور الدين المسيحي، والكل يؤكّد على ازدهار علوم عدّة في أحضان الثقافات الإغريقية ما بين القرنين السادس قبل الميلاد والثاني بعد الميلاد، مع اختلاف في التركيز على تميّز هذا التقليد أو ذاك؛ وتوجد آراء مختلفة في تقدير مدى مساهمة الثقافات الأقدم تاريخياً … ولنمض إلى النهضة: ما الذي حدث في اوربا قبل الثورة العلمية؟ كيف انفتح أفق الفكر الأوربي خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر؟ كيف هضم العقل الأوربي تراث السابقين خلال القرن الرابع عشر؟ ما هي السمات المميّزة للقرن الخامس عشر في الفضاء الثقافي والفكري لأوربا؟

أولا : يصعب جداً أن نتبين بدقّة تامّة ما المقصود بالنهضة الأوربية؟ ومتى حدثت؟ فالدارس الإيطالي يحدّد النهضة تركيزاً على القرن الرابع عشر إلى أواخر القرن اللاحق؛ والدارس الإنجليزي يحدد النهضة بداية من منتصف القرن الخامس عشر إلى القرن اللاحق؛ … لأن التحوّلات الحضارية لا تتحقق في كل المناطق في نفس الفترة؛ وانتقال الأفكار والتلاقح بين المعارف والخبرات يستغرقان زمناً.

هناك مجموعة من الكتابات تتحدث عن النهضة الأوروبية خلال من القرن 12م، لكن لماذا هذا القرن بالضبط؟ في هذا القرن لم يكن هناك أدنى تجديد علمي في اوربا، لكن ما حصل هو أن اوربا اتصلت بالكتابات العلمية والفلسفية باللغة العربية، وأقل من ذلك باللغة اليونانية، وأقل منها باللغة العبرية؛ وكانت بدأت حركة الترجمة منذ أواخر القرن العاشر أو أوائل اللاحق. وحصل ذلك في سياق تاريخي ازدهرت فيه التجارة وبناء المدن وبناء القناطر والموانئ. وخلال القرن الثاني عشر تزايد عدد المدارس والتلاميذ والمدرّسين والمترجمين من اللغات الثلاث، ثم اتسعت الأديرة والمدارس التي كانت منتشرة في أوربا وتغيّرت بسرعة خلال منتصف القرن؛ ونشأت ورشات للتكوين الحِرفي في الصناعات المختلفة. كما بدأ جدل بين تيارات فلسفية بجانب تنشيط الفكر القانوني، ذي المنبعيْن: الروماني والكنسي. وفعلاً، هي نهضة أُولى؛ وقد انتهى القرن الثاني عشر ببروز أُولى الجامعات في اوربا. وبالطبع استفادت أوربا من النماذج الإسلامية في إنشاء المدارس، كتلك التي كانت منتشرة في بغداد ودمشق ونيسابور، وفي جل المدن الإسلامية. وبذكر المدارس الإسلامية يمكننا القول إنها ظهرت على يد السلاجقة خلال الربع الثالث من القرن الخامس/الحادي عشر م، لأداء وظائف معينة: فقد بنيت لكي يدرس فيها علم الكلام الأشعري والفقه السنّي بالأساس؛ بمعنى أن تلك المدارس طغى عليها التمذهب، بحيث نجد مدرسة شافعية وأخرى حنفية وأخرى حنبلية وأخرى مالكية …

لكن السياق الأوربي الذي أدى إلى ظهور الجامعات مختلف عن السياق الإسلامي. فقد ارتبط ظهورها بسياق الصراع الذي كان قائما آنذاك بين سلطة الكنيسة وسلطة الأمراء. وربما يتميّز ذلك السياق بتبادل الأدوار بين التفاوض والصراع بين السلطتين. هذا السياق أكسب الجامعة الشيء الكثير؛ حيث انتقل الصراع إلى الحرم الجامعي، وأصبح كل طرف يدافع عن توجهه الفكري. مثلا: تعمل الكنيسة على تقوية الإيمان الديني، لاستقطاب الناس إلى مواجهة الخصوم؛ بينما يشجّع اللائكيون ثقافة الحِرف والمعارف التطبيقية والجغرافيا والحساب … بخلاف ذلك، ظلت المدارس في العالم الإسلامي على حالها من الالتزام بالمذهب الفقهي الذي تتبنّاه؛ وكان هناك صراع مرير بين أتباع المذاهب، ولكن جيلاً بعد جيل مالت الكفّة لصالح التمذهب المحافظ منذ نهاية القرن الرابع عشر وبداية القرن الخامس عشر. مثلا: إذا نظرنا إلى أحوال المدارس عند نهاية القرن الخامس (الحادي عشر م)، سنلاحظ أن حوالي 38 بالمئة شافعية وحوالي 32 بالمئة حنفية وحوالي 20 بالمئة حنبلية وحوالي 10 بالمئة مالكية. أما الشيعة فلهم مراكز ومكتبات في فارس وخراسان والقاهرة؛ ولكن تغلّب الفكر السني (نسبياً) عليهم بتشجيع سياسي. لكن عند نهاية القرن الثامن (الرابع عشر م)، نجد عدد المدارس الحنبلية والمالكية قد غلب على عدد المدارس الأخرى . وهذا التغير في عدد المدارس وفي توجهها المذهبي يؤشر على تغير مجتمعي وسياسي وفقهي؛ وهو تغيّر يكرّس الجمود الفكري وتوقّف الخصوبة العلمية على المدى البعيد، وبداية من المناطق التي سادت فيها المذهبية السنّية المحافظة. بينما أدرك الأوربيون خلال فترات الحروب الصليبية أن عليهم امتلاك الآليات العلمية والمهنية، من أجل تقوية معتقدهم الديني في مواجهة أصحاب المعتقدات الأخرى. وسنضرب مثالا لذلك: قبل منتصف القرن 13م كان على سُدّة الحكم في صقلية حاكم اسمه” Frédéric II de Hohenstaufen فريدريك الثاني هوهنشتاوفن”. هذا الحاكم شجع الترجمة من العربية إلى اللاتنية، كما بادر إلى بناء جامعة وكلية للطب، ولم يدخل بطريقة مباشرة في الحروب الصليبية واستعمل عوضا عن ذلك حوارا دبلوماسيا، حيث كان همُّه الأكبر هو تجميع المؤلفات العلمية وتشجيع الحركة العلمية عن طريق الاتصال المباشر. ومن الأشياء المشهورة عن هذا الحاكم تلك الرسالة التي بعث بها إلى الحكام المسلمين الأيوبيين والموحدين …؛ وقد احتوت تلك الرسالة على مجموعة من الأسئلة في الفلسفة الطبيعية والبصريات والهيئة، التي طلب أن توزع على العلماء المسلمين لكي يجيبوا عنها. وقد أجاب عنها مجموعة من العلماء، نذكر منهم ابن سبعين في كتابه المعروف بالمسائل الصقلية، كما أجاب عنها أيضا أحد فقهاء المالكية هو القرافي المصري في كتابه الاستبصار، والعالِم كمال الدين بن يونس وآخرين. إذن فقد كان هذا الحاكم يجمع المعلومات ويأتي بها إلى الشمال، وهذه رحلة العلوم من الجنوب إلى الشمال. والمثال الثاني هو حاكم أتى بعد “فرديريك الثاني” بعشرين سنة، وهو “ألفونسو العاشر” في إسبانيا، والذي بنى مدرسة تدرس فيها العلوم، ومن بين العلماء الذين درسوا فيها عالم ذكره “ابن الخطيب” وهو “الرقوطي”، وقد قيل أنه كان يدرّس الطب في نفس القسم باللغة العربية والعبرية والقشتالية، أي يدرس المسلمين والمسيحيين واليهود. مَن المستفيد من هذا التعدد في التدريس؟ بدون شك، هي ثقافة المشرف على المدرسة، وهي ثقافة الفونسو العاشر. إذن هي خطوة أخرى خطتها اوربا نحو استيعاب العلوم ودمجها تلقائيا في تقاليدها وثقافاتها المحلية. ومع مرور الأيام، برز من بين رجال الدين مَن يشجّع الفكر العلمي بالنظر إلى ما يقدّمه من آليات في التحليل والفهم والإنشاء في المرافق الاقتصادية والمدنية. وفي هذا السياق من التنافس بين مجموعات ثقافية محيطة بالبحر المتوسط من أجل تملّك المعرفة والخبرة، كان الصراع من أجل احتلال الموانئ التجارية شمالاً وجنوباً والسيطرة على طرق التجارة. وفي الواقع لم تكن أغلبية المسلمين تنافس من أجل تملّك العلوم آنذاك، بل كان الفقهاء المتزمتون يدعون إلى التخلّص منها.

وبالرجوع إلى السياق الإسلامي نطرح التساؤل التالي: ماذا كان يفعل المسلمون في تلك الفترة؟ يمكننا أن نجيب بأنهم كانوا يتناقشون حول شرعية العلوم ‘العقلية’، ويسمّيها بعضهم بالعلوم الأجنبية، رغم أن العلماء المسلمين (القوهي وابن الهيثم والبيروني والخيّام … ) تجاوزوا في عدة مجالات اَرسطو و اقليدس و اَرخميدس بدليل النصوص التي بين أيدينا والتي تشهد على ذلك. أيجوز بعد إنجازات هؤلاء الأفذاذ أن تسمى علوماً أجنبية؟

وفي هذا السياق التاريخي، الذي كان فيه الأوربيون يطلعون على العلوم و يراكمونها ويناقشون محتوياتها، خصوصاً خلال القرن الرابع عشر، كان المسلمون يتناقشون ويتجادلون في أمر مشروعيتها، وكان التيار الغالب متجها نحو التخلص من هذه العلوم ‘العقلية’، باعتبارها غير نافعة.

لدينا أمثلة أخرى للحركة العلمية في أوربا، ففي النصف الثاني من القرن 7ه /13م كان هناك تجمع ديني في مكان ما في “بولونيا”، ضم رجال دين يشجعون على الإقبال على العلوم ويركزون على البصريات، وقد شكّل علم المناظر نموذج العلمية من منتصف القرن الثالث عشر إلى كوبرنك وكاليلي وكبلر. كما كان هذا العلم دافعة أساسية في الإبداع في فن التصوير عند نهاية القرن الرابع عشر والقرن اللاحق.

وعند أواخر القرن 13م وأوائل القرن 14م، بدأت حركة التجديد العلمي لدى الأوربيين من خلال مناقشات حول الاستدلال والبرهان والإدراك والجدل ودور التجريب والعقل في تكوّن المعارف الصلبة، في سياق تجديدي عارم؛ أولا: من حيث الكم، فعدد الجامعات ظل يزداد بدون توقف، وجل تلك الجامعات بدأت تفتح أبوابها لجميع العلوم، مما انعكس على التنافس بين تلك العلوم ودفع بها خطوات إلى الأمام، كما شجع  العلماء على الانتقال بين الجامعات. إذن يمكن القول أن النهضة العلمية في اوربا حصلت بشكل متدرج، بالرغم من مقاومة أقلية من رجال الدين المتزمتين.

 لدينا مثال آخر: لما التقى الكاردينال “بيساريون” شخصا بُعيد منتصف القرن الخامس عشر، سأله: كيف الأحوال؟ فرد عليه: أنا مهتم بإصلاح أحوال الأرض، أي إصلاح المشاكل السياسية، بينما صديقي “رِجيومُنتانُس” – وهو عالم فلك- مهتم بإصلاح أحوال السماء، أي البحث عن بديل للفلك البطلمي. نلاحظ في هذا المثال اندماجا بين المهام المدنية والسياسية والعلمية والدينية لدى الفاعلين. ونذكر مثالا آخر على هذا الاندماج: قام البابا سنة 1508م باستدعاء الفنان “رفائيل” وطلب منه أن يملأ جدران الحجرة التي توقع فيها المعاهدات بالفلسفة. نلاحظ في هذه الواقعة أمرا خطيرا، وهو أن السلطة الدينية في ذلك الوقت تطلب من شاب فنان إدخال الفلسفة إلى الفاتكان. آنذاك كانت الفلسفة في مجتمعاتنا الإسلامية على الهامش.

لكن من المؤكد أن الأخبار كانت تصل وتتداول في المجال الإسلامي عن ازدهار العلوم والإقبال عليها في الضفة الأخرى. ويظهر هذا في العبارة الشهيرة والقصيرة لابن خلدون ” أما في روما وشمالها فهناك إقبال على هذه العلوم…”.

يمكننا القول كخلاصة، أن هناك تنافسا في اوربا على جميع المستويات، وقد استفادت منه كثيرا؛ لذلك لا نستغرب أن نجد النهضة الأوربية تستفيد من ثقافات أخرى، وهو ما نلاحظه في مناقشات العلماء الأوربيين خلال النصف الأول من القرن 14م، حيث نلمس لغة الفارابي وابن سينا وابن الهيثم، في الوقت الذي كانت فيه لغتهم عند المسلمين قد اندثرت تقريبا. إذن ازدهرت العلوم في إطار مجتمعي منفتح وفي سياق نموّ تجاري مواز لنموّ للمدن. ولكن هناك شيئاً آخر لابد من التأكيد عليه، وهو الدور الذي لعبته الفنون مثل التصوير والنحت والموسيقى. مثلا: نجد في أوربا خلال تلك الفترة أن بعض علماء الدين، كانوا في نفس الوقت متكلمين، وعلماء رياضيات، وموسيقيين لهم أشعار وألحان ويدرسون الموسيقى؛ بالإضافة إلى الرسم الذي كانت له مساهمة في تعريف الناس بتاريخهم، لأن هذه الرسوم كانت تجسد شخصيات ورموز تاريخية، وقد وعى الأوربيون هذا الدور الخطير للفنون، فاستعملوها في استمالة العامة. فمثلا المصلح الديني “مارتن لوثر” كان لا يرى فائدة في محاورة الجمهور، لأن الجمهور لا يمكن محاورته بالعقل، بل يجب محاورتهم بالصور لأنها تدغدغ الحس والذاكرة. بينما ضعفت مكانة الموسيقى في المجتمعات الإسلامية، لأن أغلب الفقهاء كانوا ضدها؛ أما التصوير والنحت فوجودهما على هامش الفضاء العمومي. إذن لعبت الفنون دورا خطيرا في أوربا خلال النهضة الحضارية الشاملة منذ السنوات الأخيرة من القرن 14م إلى أوائل القرن 16م. بينما بقي الذوق العامّ ملتصقاً بالحس العادي وتابعاً لضرورات الحياة اليومية لدى المسلمين؛ وكان المتنفّس هو الممارسة الصوفية، وهي وإن وفّرت فضاءً تواصلياً يستدعي مظاهر الجمال، لكن تفعل بكيفية كسولة لا تدعو إلى إنجاز الأشكال الجمالية عملياً، أي في التصوير والموسيقى … وقد وقف الفقهاء متربصين ب”التجاوزات” التي قد يُقبل عليها أهلُ الذوق.

المحور الثاني: عن فلسفة العلوم الإسلامية وأسسها الإبستمولجية.

نريد أن نوضح هدفنا أولا: إن ثمة نظرة هيمنت على مؤرخي العلوم الإسلامية منذ بدايات القرن الماضي، وهي الرؤية الافتخارية التي تستعرض انجازات المسلمين في الرياضيات والفلك والفيزياء وغيرها، وتتغنى بتلك الأمجاد التي درست، وتبين تأثيرها في العلوم الغربية الحديثة. نحن هدفنا أن نتوقف عند هذه الرؤية التي نعتبرها قد استنفذت أغراضها من زمن، وقد آن الأوان لنبحث في مستوى أعمق، أعني مستوى العقلانية العلمية التي أنتجت تلك المعرفة العلمية. ثم بعد ذلك من حق المتلقي لأبحاثنا أن يتعامل مع هذه العقلانية كما يشاء. إنه مستوى من النظر يرتبط بفلسفة العلوم عامة، وبالنظر الإبستمولجي خاصة. نود منكم أستاذنا الكريم أولا أن تحددوا لقرائكم إمكانية هذه القراءة الإبستمولجية وحدودها؟ وما المقصود بفلسفة العلوم الإسلامية إذا جازت العبارة؟

يمكن أن نجد مسألة الاهتمام بتاريخ العلوم وبتطور الأفكار العلمية لدى المسلمين حتى قبل هذه الفترة، مثل “ابن خلدون” و “الأكفاني” و”حاجي خليفة”، ويمكن أن نلمس بعض التفسيرات وبعض الشذرات هنا وهناك، أو نجد قولا عند بعضهم بأن علما ما قد تطور وآخر لم يتطور. لكن مع بدايات القرن العشرين بدأت الدراسات حول التراث العلمي القديم سواء من لدن الأوربيين أو المسلمين، وقد اختلفت التحليلات والتفسيرات، وذلك بحسب الأغراض وبحسب ما يتوفر من كتابات ومخطوطات. لكن يجب الحذر من القول أن بعض الكتابات الغربية التي تعتز بدور الاتصال المباشر باليونان وبالفكر اليوناني أنها تتعمد ذلك أو شيء من هذا القبيل؛ فإلى منتصف القرن العشرين لم يكن يعرف الشيء الكثير حول المخطوطات الفلكية المكتوبة باللغة العربية؛ كما لم تكن بعض الكتابات العلمية خلال العصور الوسطى الأوربية معروفة. وكذلك قد يحصل الأمر في الجهة الأخرى، فالباحثون المسلمون يحاولون إعطاء نظرة مغايرة وعكسية محاولين تضخيم كل ما يتعلق بتراث أجدادهم، أو ما يعدونه من تراث أجدادهم. لكن الأمر مختلف في البحث الأكاديمي الرصين، فهنا يجب أن نزن عباراتنا لكي نتفادى المغالاة في أي اتجاه كان. حتى ولو توفرت لدينا أدلة كثيرة تزكي رأيا من الآراء فإنه يجب الاحتياط من الأحكام القاطعة، ونفترض دائما أنه قد تكون هناك أدلة أو دليل واحد لخصوم رأيك قد تفند كل ما ذهبت إليه.

فإذن يجب دائما أن نترك حيزا أو هامشا للشك (البنّاء)، وأيضا نحاول التنبؤ بما قد يقدم لنا من اعتراضات وانتقادات، ومن الواجب علينا أن نكون لبقين في الحوار وفي الردود والانتقادات. كما أنه لا يمكن لعالم ما أن يدعي أن ما وصل إليه هو منتهى الحقيقة، لأننا نتعلم مما تراكم من أخطاء العلماء والباحثين السابقين.

الأمر الآخر الذي أشار إليه السؤال هو الحديث عن الذين يضخمون من الأمور ويفتخرون بتراثهم العلمي، فيمكن القول أن  ذلك يجوز لهم في حالة ما إذا كانت لهم مرامي تربوية، تتغيى حث الناس على الاهتمام بالعلوم والإقبال عليها، لكن شريطة أن لا يصل بهم ذلك إلى الحد الذي يجعل الناس يكرهون مساهمة التقاليد الثقافية للحضارات الأخرى. فالجوانب التربوية مستحسنة، لكن لا يجب أن تشجع على الطعن في الثقافات الأخرى. وحتى مسألة الانتماء إلى تراث ما فإنها تبدو قضية نسبية إذا دخلنا في تفاصيلها؛ فبأي حق يمكن لشخص ما أن يجزم بأن هذا العالِم من تراثه والعالِم الآخر من غير تراثه؟ أوَلا يحقّ لشخص من ثقافة أخرى أن يعتبر أحد العلماء العرب من تراثه؟ هذا إذا اعتبرنا أن المعرفة تراث إنساني، ومنتوج ساهمت فيه البشرية بالقسط الذي توفر لها، وأن المعرفة العلمية تنتقل وتسافر عبر الثقافات. هناك عوامل تاريخية تجعل ثقافة ما تزدهر، وقد يأتي زمان تتراجع وتصعد ثقافة أخرى. إذن قضية الانتماء الثقافي للفاعلية العلمية يجب أن توضع تحت المساءلة، ويجب أن تؤخذ باقتصاد حتى لا يتم تضخيمها كثيرا. هذا من حيث الدرس الأخلاقي الذي يمكن أن نستفيده من تطور المعرفة.

يبدو من هذه الزاوية التي نظرنا من خلالها أنه يحق لشخص ما أن يفتخر بإضافات أجداده، لكن في حدود معقولة، مع تجنب تجريم الناس؛ فمثلا لنفرض أن المستشرق “إرنست رينان” أو “كارا دوفو”  أو أي شخص آخر، قال أن “نصير الدين الطوسي” لم يكن يفهم شيئا في علم الفلك، فلا يجب أن تكون مسألة محرجة لنا إلى الحد الذي ننتفض ونثور ضدها، فهذا القول يمكن أن نجده حتى لدى العلماء المسلمين، أي من نفس الثقافة؛ وهنا أضرب مثالا بقول “ابن باجة ” في البصريات عند “ابن الهيثم”، حيث قال “وعلمه ضعيف …” أو شيء من هذا القبيل. إذن، فمثل تلك الأحكام كانت موجودة حتى لدى العلماء من نفس الثقافة. لكن ما يهمنا نحن هو أن ننظر إلى الأمور نظرة الناظر الذي يريد أن يفهم عقلياً.

وما هي أبرز الأسس الفلسفية التي وجهت نظرة العلماء المسلمين إلى العلوم ؟ ما هي خصائص نظرية العلم الإسلامية؟

يمكن القول إن الأسس الفلسفية التي وجهت نظرة العلماء المسلمين تختلف حسب الأفراد، فمثلا إذا نظرنا في بعض كتابات الفيلسوف الكندي وابن الهيثم، نجد كلاما راقيا جدا في الأخلاقيات العلمية، من بينها الحرص على الموضوعية والحرص على احترام مجهودات الآخرين حتى ولو كانوا ينتمون إلى ثقافة غريبة عنهما. إذن هناك حرص على الاعتراف بمجهود العلماء السابقين. وفي هذا السياق تحضرني مقولة “لابن الهيثم” جاءت في سياق رده على” بطلميوس”، فعندما ينتقده ويناقشه يتحدث عنه بكل تقدير، فيقول (ما معناه) “بطلميوس الفاضل قد أخطأ في هذا الأمر ونحن نأتي بالبديل التالي…” إذن ينتقده ويبرز جوانب النقص في أدلته، ثم يأتي بالبديل بدون أن يحط من شأنه. ونذكر مثالا آخر على هذا الرقي في التفاعل مع الآخرين، وهو قول الكندي (بعبارة تقريبية): “يجب أن نحترم الآخرين حتى في أخطائهم، لأن أخطاءهم هي التي سمحت لنا أن ننظر فيها ونأتي بما هو أحسن منها”.

من هذه الأمثلة السابقة نستنتج أن هناك أخلاقيات علمية ونظرة فلسفية كانت توجّه عمل العلماء المسلمين، وهو ما يتضح من منهجهم التربوي، فقد كان التكوين الفلسفي يعتبر من قبيل استكمال الإنسان لإنسانيته. ونجد هذه النظرة تتكرر في الكثير من الكتابات، عند “ابن سينا” و”الكندي” و”الفارابي” وآخرين، كما أنهم يعتبرون الإنسان محكوما بطموح الرقي في سلّم الحكمة، وهذا الرقي يتطلب الاطلاع على العلوم والآداب والفنون والفلسفة، هذه الأخيرة كانت تعتبر بمثابة القنطرة الواصلة بين الميادين الفكرية. بالإضافة إلى أن الفلاسفة المسلمين كانوا يدافعون عن تصور إنساني للمعرفة، وكانوا يعتبرون النظر والحوار كقيمتين في حد ذاتهما، وفي نفس الوقت لم يكن النقد غائبا في كتاباتهم. ففي النظر العلمي لا توجد فوارق كبرى بين عالِم إغريقي أو فارسي …

كيف يمكن النظر إلى العقلانية العلمية الإسلامية؟ هل هي عقلانية صورية كما يرى البعض معللا رأيه باستعارة المنطق الأرسطي؟ أم هي عقلانية تداولية كما يرى آخرون ممن نظروا إلى تأثير المنهجية الشرعية في التفكير العلمي الإسلامي؟ وهل هي تجريبية استقرائية كما يقول البعض، أم أنها عقلية استنباطية كما يظن آخرون؟ أم أننا من الصعب أن نؤطرها في هذه التصنيفات الميتودولجية؟

أتيتَ الآن بأربع تصنيفات، ويمكن أن تأتي بثلاث أو خمس حسب الحدود التي تريد أن ترسمها بين هذه الأنماط، ويمكن أن تجد لكل واحد من هذه التصنيفات نماذج لدى الآخرين، كأن تضع ابن الهيثم مع الاستقراء، وابن سينا في الاستنباط… لكن هذه التصنيفات في حد ذاتها تبقى تقريبية وقد تتغير مع حضور بعض النصوص وغياب أخرى، ويمكن في المنطق مثلا أن نعدّ الفارابي مع الصوريين، لكن الفارابي لا يبقى على صوريته عندما يتحدث عن تفعيل الجدل وتقريبه إلى السياق الإسلامي وإلى الجمهور، فهو صوري عندما يتطرق لمجال معين، ولكنه يميل إلى اعتبارات تداولية عندما يرى أن هذه الأدوات المنطقية يجب أن تنخرط وتوظف في أصول الفقه وعلم الكلام وغيرهما … أو العكس، يمكن مثلا أن نرى متكلما يدافع عن الطابع التداولي للاستدلال في الممارسة الفقهية أو النحوية، لكن يمكن أن نجد بعض الملامح الصورية عند نفس المتكلم عندما يتحدث عن النحو مثلا، ونذكر على سبيل المثال: الزجاجي، الذي يبدو في أحد كتبه قريبا من أرسطو رغم أنه من النحاة يؤكد على التمثيل. وحتى ابن سينا لم يظل مشائيا بنفس الانخراط طوال حياته، لأنه لو كان كذلك لما تحدث عن التصوف، لذا يجب أن نحتاط من مثل هذه الأمور. فابن الهيثم مثلا يبدو في بعض مسائل البصريات قريبا من اَرسطو، وفي أخرى قريبا من اقليدس رغم أنهما تياران متنافسان في البصريات، لماذا؟ لأنه أغنى التيارين معا وتجاوزهما؛ ونفس الشيء بالنسبة للبيروني، فهو معتز بالفلسفة باعتبارها طموحاً نقدياً، ومستمر في الأبحاث الفلكية، لكنه يطعن في بعض المبادئ الفلكية القديمة وفي التمذهب المشائي. المهمّ أن كل ملامح الفاعلية العقلية لدى المسلمين امتداد لما كان متواطئاً لدى العلماء الفلاسفة السابقين، مع توسّع في بعض الجزئيات (ولا يجب أن نغفل أن الكثير من الكتابات اليونانية القديمة قد ضاع).

نعلم أن من العلماء من جمع بين الطريقتين التحليلية والتركيبية في الممارسة العلمية، كما فعل ابن منعم في فقه الحساب، ما أهمية هذا الجمع من الناحية المنهجية؟

يجب أن نذكر بأن الكتابات في هذا الباب نادرة جدا، ولا يوجد تفصيل لدور كل من التحليل والتركيب في مقدمة كتاب ابن منعم الذي يقول: “سأبرهن تارة بالتحليل، وتارة بالتركيب، وتارة بهما معا”. لكن الذي كتب في التحليل والتركيب هو ابن الهيثم في رسالة له تحمل نفس العنوان. أما عن الكتابات قبل ابن الهيثم في هذا الموضوع فنجد إشارات أعتقد أنها للرياضي بابُس الإسكندري (وف ح 350 م) في فقرة قصيرة، بالإضافة إلى رسالة لإبراهيم ابن سنان وإشارات عابرة لدى آخرين.

في التحليل إجمالا ننطلق من النتيجة التي نفترض أنها نتيجة عملية برهنة ما، فنبحث عن المقدمات التي تقوم عليها؛ ولكن بحثنا عن المقدمات التي يُفترض أنها تدعم النتيجة قد يؤدي إلى تغيير بسيط في النتيجة نفسها يفرضه ترتيب المقدمات. أما في التركيب فنقوم بالعكس، ننطلق من المقدمات (المنطلقات الأولية من مسلمات وأوّليات ومبرهنات سابقة) التي تقودنا إلى النتائج المترتبة عنها على سبيل اللزوم الضروري. والآلية الأساسية في التحليل (خصوصا في الرياضيات القديمة) هي برهان الخلف، أي أننا عندما نريد البرهنة على عبارة رياضية ما فإننا ننطلق من نفيها، وندرج نفي العبارة ضمن ترتيب من الأوليات والمبرهنات السابقة، ونواصل عملية الاشتقاق؛ فإذا وصلنا إلى عبارة تتناقض مع مبرهنة سابقة أو أوّلية أساسية مصرّح بها في نفس عملية البرهنة، نقول إن هذا محال، مما يعني أن افتراضنا بكذا وكذا باطل، إذن فالأصل (المنطلَق قبل إدخال النفي عليه) صحيح. أما إذا لم نصل إلى محال، أي إلى تناقض، فافتراضنا قد يعوّل عليه، لكن هذا لا يعني بأنه صحيح؛ حيث تكون هناك حالات كثيرة يتوجّب النظر فيها. إذن، فالسمة الغالبة في التحليل هي برهان الخلف، لكن ليس كل تحليل برهانا بالخلف، إنما كل برهان بالخلف فهو تحليل (تحليل أوسع)، لأننا في التحليل قد نبحث عن المقدمات دون افتراض نقيض المبحوث عنه. وبرهان الخلف يدمج مبرهنات سابقة عن طريق ربطها بواسطة التركيب … لأن البرهنة سلسلة من العمليات طويلة.

والدرس الإبستمولجي المهم في هذا الأمر، هو أن الفكر ينطلق دائما من فرضيات ولا ينطلق من أحكام مفردة؛ لأننا نفترض أمورا فنبحث عن مبرراتها أي عن ركائزها؛ ومن هنا نفهم كيف أن لا نظر علمي إلا وهو منخرط في إبدال فكري معين؛ وما يقال من الانطلاق من ملاحظات مفردة غير ممكن عملياً، لأن الملاحظة بالذات تفيد بحسب ما يمليه عليها الإبدال السائد. إذن فالمنطلقات الموجّهة للنظر العلمي مبادئ وافتراضات، بعضها مصرح به والبعض الآخر يظلّ مضمرا. وليس لنا أن نستغرب من كون جل صرح البناء الرياضي في الماضي من قبيل التحليل؛ لكن، هل بقي الأمر على حاله اليوم؟ إن التحول العميق والكبير الذي حصل في العلوم منذ أوائل القرن العشرين، جعلنا اليوم قادرين على بناء أنساق استنباطية صورية، وذلك بفعل اتساع اللغة الرمزية وتشعبها، إذ يمكن لأي رياضي أن يبني لغة جديدة تماما وينشئ بها صرحاً معمارياً من المبرهنات. ومن هنا يمكن أن نقول إن الفكر العلمي أصبح اليوم يميل إلى التركيب بحكم تعدد الأنساق وكذا تعدد مرافق اللغة المتاحة. ولكن، حتى عندما نقول إن الفكر العلمي كان يغلب عليه التحليل في الماضي، فإننا نوظف في هذا الأخير عبارات نتوصل إليها بالتركيب، لأننا لا يجب أن نتصور البرهان على طريقة البرهان الأرسطي: مقدمتان ونتيجة، فالغالب وجود تسلسل يحتوي عشرات العمليات. إذن فالتحليل والتركيب آليتان مندمجتان. وكل شيء وصلتَ إليه بالتحليل، عليك أن تعيد بناءه بالتركيب، لماذا؟ لأن التركيب بمثابة إعادة سبك، وفي نفس الوقت بمثابة عملية تحقق (une vérification)؛ لذا يجب النظر إلى الآليتين (التحليل والتركيب) باعتبارهما متصلتين مندمجتين غير منفصلين.

لديكم اهتمام خاص ببناء المفاهيم العلمية، وأنجزتم دراسات علمية دقيقة عن بعض المفاهيم في التراث العلمي الإسلامي، هل لكم أن تبينوا لنا بعض الأبعاد الفلسفية والمنهجية للمفاهيم العلمية المستعملة في العلوم الدقيقة؟

الصفحة السابقة 1 2 3 4الصفحة التالية
Science

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. الأستاذ بناصر البعزاتي مثال الباحث الرصين، علما وعملا. تتلمذنا على يديه الكريمتين فانفتح أفقنا وتوسع نظرنا، منه فهمنا معنى "ليكن كلامكم أقرب إلى الوعي والفهامة منه إلى العي والفهاهة" على حد تعبير العلامة طه عبد الرحمن…أطال الله في عمركم أستاذنا الفاضل حتى نستفيد منكم المزيد.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق