مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلاميةحوارات

حوار مع الدكتور بنّاصر البُعزّاتي

لا يليق أن أدعي أني أنحو طريقاً متميّزاً في أبحاثي الإبستمولجية والتاريخ-علمية؛ وفي كل الأحوال، فالتقييم للجيل الآتي بعد عقد أو عقدين. لكني أحاول أن أستفيد من أبحاث الآخرين، وهي مختلفة وفي حوار ونقد وإعادة تكوين بدون توقّف، وأحاول أن أتبنّى الأعقل والأرجح والأفضل (من معيارية عقلية). وفي مقارنة رؤى الناظرين، أحاول العودة إلى النصوص الأصلية، قديمة أو للباحثين الحاليين، كي أبلور فهماً موضوعياً قدر الإمكان. توجد عوائق عديدة، من قبيل الانتماء القومي والعقيدي والإديولجي للباحث، وليس من السهل خطّ طريق سديد سليم. وسواء في أبحاثي في مجال العلوم في سياق الثقافات الإسلامية أو في ملابسات النهضة الأوربية، أحرص على تبنّي تصور بنائي دينامي يبتعد قدر الإمكان عن الالتزامات المذهبية التي تتسرب إلى التحليل بالرغم من الحرص.

في المدّة الأخيرة، في مجال التاريخ، كتبت عن دور البصريات في النهضة الأوربية، وعن مفهوم الاعتبار ومفهوم التمييز الهيثميين، مبيّناً الدواعي البحثية والنظرية التي دفعت بابن الهيثم إلى نحتهما كمفهومين مثمرين في بيان المنهج الهيثمي وما يميّز المفهومين عن المفاهيم السائدة لدى السابقين. فلم يستعمل أحدٌ المفهومين بنفس الكثافة وبنفس الحمولة الدلالية وبنفس الفعالية الإجرائية كما فعل ابن الهيثم في استكشافاته الدقيقة.

نجد لدى العلماء الذين عاشوا في أرض الإسلام نحتا لمفاهيم جديدة أو استعمالاً جديداً لمفردات قديمة، لكن بعد اتصالهم بالنظر العلمي المنجز من لدن السابقين؛ وأحاول أن أبرز إن كانت لتلك المفاهيم خصوصية أو أن أربطها بالتقاليد الفكرية المختلفة إن كان هناك ارتباط فكري معين.

ولكي يكون القول في تاريخ العلوم متقدّماً – من زاوية العقلية العلمية – يجب أن يستفيد من البحث في تاريخ الفن وتاريخ القانون وتاريخ التقنيات، ثم من الإبستمولُجيا وتاريخ المنطق. فكل بحث في ميدان معيّن يعضّد البحث في الميدان المجاور.

المحور الثالث: عن الدرس الإبستمولجي الجامعي والنظر في التراث العلمي الإسلامي

إذا نظرنا إلى الدرس الإبستمولجي في سياق التعليم الجامعي اليوم بالمغرب، هل يمكن اعتبار الرصيد الذي يحصله طالب الفلسفة في هذا الدرس كافيا ليمكنه من تقديم رؤية إبستمولجية مقبولة للتراث العلمي الإسلامي؟

لا يمكن أن يخلو الحديث عن الجامعة المغربية من عبارات الأسف. فلا يوجد تصور واضح عن الجامعة لدى بعض منا، أي عمّا يجب أن تكون عليه الأمور من مسؤولية إزاء ‘العقل’ وإزاء أنبل مؤسسة؛ ولم يقتنع الفاعلون فيها بضرورة وجدوى التقيّد بالأخلاقيات الأكادِمية في التدريس والبحث والكتابة؛ ولهذا ظلت الجامعة عرضة للتدخّل الإداري من خارجها، واتخذت المقاومة الذاتية لباساً إديولجياً باستمرار؛ فلم تتبلور ضمنها آليات لتطوّر جامعي يستفيد من تراث مؤسسة الجامعة في الفضاءات المجاورة.

ومنذ حوالي عقد من الزمن، أو أكثر قليلاً، استفحلت الأمور في الجامعة المغربية: نتيجة إصلاح غير واضح المعالم وفي غياب شروط مناسبة، ونتيجة المغادرة الطوعية الغامضة الدواعي والنتائج، ونتيجة محتويات ملفّ الترقية في سلم الأستاذية، ونتيجة وصول طلاب إلى الجامعة بمستوى ضعيف جداً (وهذا ناتج عن تدنّي مستوى التعليم في الأطوار ما قبل الجامعة). فتفشّت لدى بعض المدرّسين في كل الأسلاك عادات الكسل والانتهازية والادّعاء … وحتى النصب والاحتيال والسرقة …

أما الدرس الإبستمولجي فوضعه يدعو إلى أسف أكثر؛ إذ كان من اللازم أن يتجند المهتم بهذا الميدان من أجل الاستفادة من التقاليد الإبستمولجية المتعددة؛ وكان يجب أن يطلع على التصورات الابستمولجية لميرسون وباشلار وكونزيت وبياجي، وبوبر ومدرسته والوضعانيين وتلاميذهم ولورِنس وتولمن وهانسن وكون … وأن تدمج اجتهادات هذه التيارات الإبستمولجية من أجل بلورة تصورات ناضجة لكي يكون كلامنا مفيداً ومثمراً ومخصّباً، ليس لأجل أن نكرر – للأسف- يقول فلان ويقول فلان (نفسه) … فهذا الكلام ليس بإبستمولجي، لأننا يجب أن نفهم أولا شروط تكوّن المفاهيم وأن نهذّبها في ضوء البحث التاريخي والمقارنة المفهومية. وكثير ممّا كُتب عندنا في الإبستمولجيا يمكن بكل بساطة أن يوضع جانباً لأنه لا يفيد ولأنه أخذ من كتابات من مستوى سطحي، وأحياناً بدون إشارة إلى المصادر … وهناك أخطاء علمية ارتكبت، ولم يعمل مرتكبوها على تصحيحها رغم التنبيه على ذلك !!! إذن كان يجب أن نستوعب مختلف التقاليد الإبستمولجية، لا أن نركّز على مؤلفيْن أو ثلاثة، وكان يجب أن ننفتح على البحث في الميادين المجاورة، مثل تاريخ العلوم وتاريخ الموسيقى وتاريخ الفن وتاريخ القانون …؛ لماذا؟ لأن الخطاب الإبستمولجي يمكن أن يفيد الباحث في التاريخ، وفي الجغرافيا، وفي اللسانيات، وحتى في النقد الأدبي، وكذا الباحث في ما يسمى بالعلوم الحقة… يجب أولا استيعاب المسائل الإبستمولجية، ولا يمكن التفكير فعلاً إبستمولجياً من دون الاطلاع على تاريخ العلوم والمنطق.

وحسب التصوّر الذي أتبنّاه، فإن كل خطاب إبستمولجي لا ينظر في تاريخ الأفكار العلمية يظل كلاما فارغا. إذن، علينا أن نطلع على المدارس الإبستمولجية وأن تكون عينُنا على تاريخ العلوم وعلى المنطق. ونتيجة لهذه الاستهانة بالتكوين الإبستمولجي، برزت عند بعض منا كتابات تتحدث عن البرهان، بدون تدقيق لما يقصد أصحابُها بمفردة “البرهان”؛ إلى درجة أن بعضاً منا يجعل من التمسك بالبرهان معركة إديولجية، دون تبيّن للصيغ المتنوعة للآليات البرهانية. وعند هذا البعض أن ما كان برهاناً فهو عقلاني وما هو غير برهاني فهو لاعقلاني … ولا وجود لفهم وثيق للبرهان ولا لأمثلة عن البرهان، كما لا وجود لتحديد لمدلول العقلانية واللاعقلانية. ومن هذا المنطلق، يزعم بعضنا بطريقة اختزالية مبهمة أن الخطاب الفلسفي الرشدي برهاني عقلاني، والخطاب الغزّالي غير برهاني لاعقلاني. وكردّ فعل على هذا الزعم، ظهر عندنا في السنوات الأخيرة زعمٌ يصف الفكر الغزالي ب”العقلانية المنفتحة” والفكر الرشدي ب”العقلانية المنغلقة” !!! وهكذا يصبح عندنا التأليف ترديداً مبتذلاً لمفردات مبهمة عن طريق ردود فعل مزاجية، بدون تنقيب أكادِميّ مسؤول. إن هذا التضخّم في استعمال فجّ لمفردات مثل “العقلانية” و”الحداثة” علامة على سيادة مناخ فكري غير صحّي.

وتدريس الفلسفة في الجامعة وفي الثانوي يعاني من نفس المتاهات غير المجدية في التكوين. فكيف لتلميذ البكالوريا، الذي يعاني من نقص في التكوين في الجغرافيا والتاريخ والفِزياء ولا يتمكن من العربية ولا من الفرنسية ولا من لغة أخرى أن يستفيد من نصوص نيتش وهايدغر وفوكو ودريدا الفلسفية؟ والخطير في الأمر ليس هو عدم قدرة التلميذ على الفهم، بل أخطر من ذلك: أغلب المدرّسين لا يستوعبون المسائل الفلسفية المطروقة، فماذا عساهم أن يبلّغوا للتلميذ؟ منذ ما يقرب من عشرين سنة، نبّهتُ في مقالة في مجلة تعنى بعلوم التربية على هذا الأمر وأعطيت مثالاً كما يلي: مدرِّس ذو تكوين في السيكولُجيا يعطي درساً حول أسس الرياضيات والبرهان الرياضي لتلاميذ البكالوريا في سلك الرياضيات؛ ماذا سيكون عليه الأمر؟ أكيد أن التلميذ سيعتبر الفلسفة خطاباً تافهاً. ثم إن التلميذ يعتقد أنه يدرُس الفلسفة فعلاً، وما هي إلا نصوص مترجمة ترجمة سيئة عن ترجمة أخرى ! إن واقع التعليم والتكوين والبحث في المؤسسة المغربية مؤلم، وماذا يُنتظر أن تكون عليه الإبستمولجيا؟

أجل، هذه آلام يكابدها كل مدرس نصوح للفلسفة والإبستمولوجيا وتاريخ العلوم، فعسى أن نكسب بالانخراط الدؤوب في البحث العلمي بعض ما َيعِزُّ علينا فَقْدُه في قاعات المدارس والجامعات. شكرا جزيلا.

الصفحة السابقة 1 2 3 4
Science

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. الأستاذ بناصر البعزاتي مثال الباحث الرصين، علما وعملا. تتلمذنا على يديه الكريمتين فانفتح أفقنا وتوسع نظرنا، منه فهمنا معنى "ليكن كلامكم أقرب إلى الوعي والفهامة منه إلى العي والفهاهة" على حد تعبير العلامة طه عبد الرحمن…أطال الله في عمركم أستاذنا الفاضل حتى نستفيد منكم المزيد.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق